ملخص
قلة قليلة من السوريين عادت إلى بلادها بعد سقوط نظام بشار الأسد في الـ8 من ديسمبر 2024. ويعزو هؤلاء بقاءهم في الدول المستضيفة لأسباب عدة، فما هي؟
"شكل سقوط نظام الأسد مفاجأة سارة لعائلة الشابة حلا التي استعجلت العودة إلى مدينة أعزاز التي كانت من أوائل المدن المحررة. تركت حلا وراءها 13 عاماً من التجارب الغنية في لبنان، وعاماً دراسياً اقترب من خط المنتصف، والتحقت بالمدارس النظامية في سوريا. تروي الشابة العائدة إلى بلادها أن الأسرة عاشت حالاً من الصراع بين قرار العودة واللاعودة، لأن الشابة وصلت في تعليمها إلى صف البكالوريا (القسم الثاني) وفق المنهاج الفرنسي، قبل أن تقرر الانضمام لقوافل العائدين.
بدأت حلا التعرف على بلادها من جديد، مشيرة إلى "اختلاف الأوضاع كلياً عما كانت عليه من قبل، فالناس بدأوا يشعرون بالراحة وتجاوز الخوف رغم القلق من عدم بلوغ مرحلة الاستقرار السياسي"، مضيفة "السؤال الشاغل للجميع: هل سنكون أمام نظام عادل أم سنواجه تكراراً لتجربة النظام السابق؟".
تتحدث الفتاة عن إشكاليات رافقت التحاقها بالمدرسة، "حتى الساعة لا شيء واضحاً، فنحن لا نعلم المنهاج الذي سنمتحن فيه بالثانوية العامة، هل هو المنهج التركي أم السوري؟ وما يزيد الطين بلة إغلاق الدوائر الحكومية، مما أعاق إجراءات التسجيل وما ينتج من ذلك من توتر إضافي على الطالب".
لا تقتصر معاناة العائدين على الدراسة وإنما تتجاوزها إلى "احتكار التجار للسلع ورفع الأسعار قدر الإمكان، لكن الحكومة الجديدة تقوم بجهود جدية للرقابة ومحاسبة المحتكرين"، بحسب رواية حلا التي تضيف أن "الناس التي لا تجد عملاً وغير قادرين على الكسب، بدأت بأعمال بسيطة حيث تنتشر البسطات في كل مكان، وهو ما كان محظوراً في زمن الأسد". تطمح الشابة إلى استقرار الأوضاع بصورة تامة، مشيرة إلى "انضباط عناصر الهيئة، وقيامهم بملاحقة كل من يرتكب مخالفة ولو صغيرة بصرف النظر عن انتمائه الديني".
بين هنا وهناك
ما إن تنتهي موجة لجوء من سوريا إلى لبنان حتى تبدأ أخرى، حيث تكرر هذا النمط مرات عدة منذ تاريخ اندلاع الثورة السورية في منتصف مارس (آذار) 2011، وآخرها موجة نزوح أبناء العشائر من داخل القرى المتداخلة بين سوريا ولبنان في أعقاب أحداث "حاويك". وقد دارت الدائرة في سوريا، فمن كان يتسلح بقوة النظام وقهر المعارضة ها هو يتعرض لخطر التهجير، فيما يفسح المجال واسعاً لأنصار المعارضة السابقة.
يؤكد جمال، وهو أحد الشباب السوريين "انتقال أبناء حاويك إلى الجانب اللبناني بعد سيطرة هيئة تحرير الشام على الحدود اللبنانية - السورية، وإقفال المعابر غير الشرعية، والبدء بنشر الألغام. وقد سبق هذه الموجة هرب بقايا نظام البعث السوري المخلوع ومناصريه، ولجوئهم إلى مناطق أكثر آمناً في البقاع الشمالي ومحافظة بعلبك الهرمل".
ودفعت الحرب الإسرائيلية على لبنان إلى "عبور 400 ألف شخص الحدود اللبنانية نحو سوريا، قرابة 80 في المئة منهم من السوريين، مما يعني أن قرابة 300 ألف سوري غادروا إلى بلادهم بسبب الصراع"، بحسب تصريح أدلى به سابقاً عمران ريزا منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة في حوار مع "اندبندنت عربية". وهو ما خفف جزئياً من أعداد السوريين الموجودين في لبنان.
في المقابل، جاءت حركة العودة إلى سوريا دون المتوقع في أعقاب سقوط نظام الأسد، وهو ما يعزوه سوريون قابلتهم "اندبندنت عربية" إلى عوامل مختلفة، منها إتمام أولادهم التحصيل الدراسي، أو حتى تأسيسهم مؤسسات تجارية في لبنان، ناهيك بحال الدمار الكاملة التي عاينوها في بلادهم عند زيارتها، إضافة إلى حال القلق من عدم الاستقرار الأمني، وغياب سلطة الدولة عن مناطق كثيرة، ووجود تأثير لبعض المجموعات المسلحة.
يلفت حسام (35 سنة)، وهو رجل أعمال سوري كان يقيم في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، إلى عوائق تحول دون العودة. ويجزم أنه "يعيش حالاً من الضياع بسبب اضطراره للانتقال بين بيروت ودمشق بصورة دائمة وأسبوعياً".
ويتابع، "عندما اندلعت الحرب اضطررت لإعادة العائلة إلى دمشق للعيش في ما تبقى من منزل العائلة هناك، وعدت إلى بيروت لأن هناك عقوداً والتزامات لا بد من تأديتها تجاه العملاء، وفي نهاية الحرب وبدء وقف إطلاق النار بدأت معركة إسقاط نظام بشار الأسد، ولم تتمكن العائلة من العودة إلى بيروت لأسباب أمنية، فضلاً عن الأضرار التي تعرض لها المنزل بفعل الاعتداءات الإسرائيلية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف أن "غياب كثير من الخدمات الأساسية عن سوريا يدفع اللاجئين إلى عدم العودة النهائية بسبب الدراسة في لبنان وترتيب العمل".
إلى ذلك أبلغت عائلات سورية "اندبندنت عربية" بتأجيل عودتها إلى ما بعد انقضاء فصل الشتاء، حتى يتثنى لهم "ترميم ما يمكن ترميمه خلال أشهر الصيف"، ويتوقع الشاب أحمد تزايد أعداد العائدين خلال الصيف لأن "الناس خائفون من البرد والبيوت المهدمة، كما أنه لا توجد كهرباء وماء، كما لا يخفى أن فلتان الحدود أسهم في عدم العودة النهائية لأن بمقدورهم دخول سوريا والعودة إلى لبنان في اليوم عينه".
مقاربة لبنانية جديدة
فرضت حال "اللايقين" نفسها على عودة السوريين إلى بلادهم. في حين لوحظ تغيير في لغة الخطاب الرسمي اللبناني تجاه اللاجئين السوريين، حيث تحدثت وزيرة الشؤون الاجتماعية في الحكومة الجديدة حنين السيد عن "عودة طوعية وآمنة للسوريين"، مقدرة أعدادهم بين 1.5 ومليوني سوري في لبنان. وهو ما كرره رئيس الحكومة نواف سلام الذي أعلن أنه سيزور دمشق قريباً لمعالجة قضايا على رأسها تثبيت الحدود وملف اللجوء السوري.
وجاءت نسب عودة السوريين إلى بلادهم من دول الجوار منخفضة، حيث يتوزع قرابة 6.2 مليون سوري لاجئ بين تركيا، ولبنان والأردن. وتشير تقديرات أممية إلى 51 ألف عائد كمعدل سنوي للسوريين العائدين منذ عام 2020، فيما قدر عدد العائدين بعد سقوط النظام بـ125 ألف سوري، يتوقع أن ينضم إليهم عشرات الآلاف خلال الأشهر المقبلة.
في الموازاة، لا بد من الإشارة إلى خطوات بدأت بعض الدول الأوروبية لتشجيع العودة الطوعية على غرار دفع النمسا تعويضاً مادياً لمن يقرر العودة إلى بلاده، أو قيام فرنسا بمنحهم الحق بالعودة الموقتة إلى بلادهم من دون سقوط الحق باللجوء والإقامة الدائمة فيها.
دأب المسؤولون اللبنانيون خلال عهد رئيس الجمهورية السابق ميشال عون على استخدام مصطلح "نازح" وليس "لاجئ" في تعاملهم مع السوريين المقيمين في البلاد، لعدم منحهم الامتيازات والحماية الكافية التي ينص عليها القانون الدولي. في وقت اتسع نطاق الاتجار بالبشر، واستغلال حاجة السوريين وبعض الجنسيات المقيمة للهرب من الواقع المأسوي بواسطة قوارب الهجرة غير النظامية، مع انتشار شبهات حول تسهيل دول وأنظمة لتلك الأعمال الجرمية من أجل ابتزاز أوروبا.
يتطرق المتخصص في العدالة الجنائية الدولية نضال الجردي، إلى ملف اللجوء السوري انطلاقاً من المقاربة الحقوقية، حيث يشدد على ضرورة تأمين الحماية الكافية للمهددين والمعرضين لخطر حقيقي على حياتهم، فـ"عندما يكون البلد معرضاً لحرب يعد كل شخص يخرج منه معرضاً للخطر، ورغم سقوط النظام السوري السابق فإن سوريا لم تمل إلى الاستقرار التام بسبب وجود حالات صراعية ونزاعات في بعض المناطق، حيث يجب التحقق من حدوث انتهاكات. من هنا لا يجب إلزام السوريين في الخارج بالعودة".
ويوضح الجردي "وفق القانون الدولي نحن أمام احتمالين: الأول هو زوال الخطر بالمطلق، وعندها يمكن للدولة المستضيفة التعامل معهم من منطلق سيادي بعد إعلان زوال الخطر بفعل تقييم تجريه مفوضية شؤون اللاجئين وسقوط صفة اللاجئ وانتقال هؤلاء إلى فئة المقيم على أرض أجنبية. أما الاحتمال الثاني، فهو استمرار النزاع، وحينها من غير الجائز الإعادة إلى دولة تعاني اضطرابات".
سخرية القدر
يعلق المتخصص في العدالة الجنائية على "التغيير في موقف الحكومة اللبناني من ملف اللجوء السوري"، متحدثاً عن "موقف سياسي وليس قانونياً انتهجته الحكومة السابقة بسبب نظرتها إليهم بوصفهم عبئاً على الدولة، ومحاولة الحديث عن مناطق آمنة في الداخل السوري من دون منح أي اعتبار للوضع الأمني الهش واستمرار النزاع، أما التوجه الجديد فيراعي القانون الدولي".
يحمل الجردي السلطات الرسمية اللبنانية مسؤولية الفوضى في إدارة ملف اللجوء السوري، فقد طلبت من مفوضية الأمم المتحدة تسجيل اللاجئين السوريين على أراضيها، إلا أنها "أكملت عملها لزوم التسجيل من دون أن تتمكن من منحهم صفة لاجئ تبعاً للنظرة اللبنانية"، مستدركاً "صفة اللاجئ لا تنشئها الدولة وإنما تعلنها، لأن المعايير الدولية واجبة التطبيق بموجب (اتفاقية جنيف) لعام 1951".
كما يعلق على مطلب "دفع المساعدات للسوري من أجل تشجيعه على العودة"، معتبراً إياها مقاربة خطأ، لأن اللاجئ هو من هرب من بلاده لظروف إنسانية وخشية الموت بفعل الحرب والاضطهاد السياسي وليس مهاجراً اقتصادياً، وعملية الكشف الميداني عن الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان في سجن (صيدنايا) حيث وجدت فرامات لحم، وخزانات أسيد، ومكابس أجساد، ليست بعيدة".
يتضح أن الدولة اللبنانية وقعت في إخفاق إضافي عندما فشلت في تصنيف القادمين إليها بين لاجئ إنساني ومهاجر اقتصادي وأسهمت فوضى الحدود وانتشار المعابر غير الشرعية التي تديرها قوى الأمر الواقع في توسيع عمليات الدخول والخروج من دون رقيب.
أما في ما يتعلق بممارسات الإغراء المالي لتشجيع اللاجئين على العودة إلى بلادهم، فيشير الجردي إلى وجوب النظر إلى الظروف المحيطة بتلك الأعمال، هل هي بمثابة عودة قسرية أم تحفيزات مادية لعودة طوعية، ومن ثم يجب أن تبقى بعيدة من الإلزام، بحيث لا تقوم الدولة المستضيفة بإجراءات مرافقة على غرار التضييق والتهديد أو فرض قيود على اللاجئ.
يتطرق الجردي إلى هرب أنصار النظام السابق في لبنان أو دول أخرى، موضحاً "لا يمكن منح صفة لاجئ لأي شخص يثبت ارتكابه جرائم حرب أو انتهاكات أو اتجاراً بالبشر أو اغتصاباً أو قتل نساء وجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الإبادة، بموجب البند الاستثنائي، ويحرم من صفة اللجوء. ويختلف الأمر بالنسبة إلى المتعاطفين السلميين مع النظام، فهم يستفيدون من اللجوء في حال عدم تورطهم بالجرائم، وهو ما ينطبق أيضاً على رجال المعارضة ممن قاموا بانتهاكات"، مشيراً إلى ما سماه "سخرية القدر، فاليوم يطالب أركان النظام السوري السابق باللجوء، فيما كانوا في الماضي يطالبون بتسليم المعارضين لملاحقتهم وحبسهم أو حتى قتلهم".
أبعد من اللجوء
تنظر شريحة واسعة من اللبنانيين بريبة إلى ملف اللجوء وتصفه بـ"التهديد الوجودي للتركيبة الاجتماعية والصيغة القائمة على تعددية الطوائف"، حيث لا يقتصر الخوف من عدم عودة السوريين إلى بلادهم وإنما يتجاوز ذلك إلى خطر حرمان قرابة 150 ألف لاجئ فلسطيني في لبنان من "حق العودة" نتيجة الأفكار والمشاريع التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
يقارب الباحث في السياسات العامة واللجوء والهجرة زياد الصائغ ملف "النزوح السوري" و"اللجوء الفلسطيني" من جوانب مختلفة، مؤكداً أن "عودتهم الطوعية باتت أسهل من ذي قبل، خصوصاً بعد سقوط عوائق كثيرة كانت تمنع ذلك، لكن هذا يقتضي مساراً تشاركياً لبنانياً – سورياً مع الأمم المتحدة، وضمانات قانونية وأمنية واقتصادية واجتماعية لهم، وهنا بيت القصيد".
يلاحظ الصائغ أن "عودة اللاجئين السوريين، رغم كل المتغيرات الجيوسياسية لا تزال خجولة"، وهو ما يعزوه إلى "ضبابية الأفق السياسي في سوريا حتى الساعة، وتردد الأمم المتحدة في تزخيم هذا المسار"، مضيفاً أن "لبنان معني بوضع أسس للعودة إلى المناطق الآمنة ضمن استراتيجية متكاملة مرحلة، وهذا ممكن في حال إخراج القضية من بازارات الشعبوية والسياسوية".
وعن أخطار توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، يقول الصائغ إن "لبنان معني بملف تفاوضي أساسه عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى دولة فلسطين حين قيامها، وإعداد ملف بالتعويضات المستحقة للبنان عن عقود من وجود اللاجئين الفلسطينيين على أرضه، مع وجوب إنهاء حال السلاح الفلسطيني خارج وداخل المخيمات تطبيقاً لـ(اتفاق الطائف) والقرارات الأممية 1701 و1559 و1680".
في الموازاة، يصف الصائغ السياق العام بـ"المرتبك" في ظل استعادة الرئيس الأميركي دونالد ترمب خيار "إجهاض حق العودة"، معتبراً أننا أمام "استعادة منقحة لـ(صفقة القرن)، كما لطروحات الحلول الاقتصادية – المالية التي استهلت عام 2000، وكان الرد عليها في مبادرة السلام العربية في بيروت عام 2002، ومن ثم فإن الرد العربي، كما الدولي والأوروبي المساند لحل الدولتين، وأي رد مماثل لا بد أن يدعم مساراً تفاوضياً متكاملاً بالاستناد إلى قرارات الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية".
ويرحب الصائغ بـ"التحالف الدولي الذي أطلقته السعودية لقيام دولة فلسطين، وهنا يكمن إحياء الدبلوماسية العربية وعودتها إلى مربع الثقل الوازن للاستثمار في السلام العادل والشامل بالمنطقة، على أن طرح الرئيس ترمب يحتمل في عمقه كثيراً من الدفع باتجاه صفقة، فيما المطلوب حل مستدام".