ملخص
في ظل تحكم إسرائيل في معابر غزة، وتقييد دخول المحروقات للقطاع المحاصر، اضطر سكان غزة لإشعال النار في الكتب المدرسية والأبحاث الجامعية وكل ما هو متوافر من أوراق، من أجل إيقاد اللهب لطهي الطعام وصناعة الخبر.
أمام فرن الطينة البدائي يجلس الخباز نصار يراقب النار التي بدأت شعلتها تنخفض، يغلق الكتاب الذي يتصفح ورقاته، ويلقي نظرته الأخيرة على مغلف المطبوع ويقرأ العنوان "نجيب محفوظ صفحات من مذكراته" يمسكه ويرمي به في بيت النار ليزيد لهبها أكثر.
"أحرق آخر كتاب في مكتبة الباحث محمود عساف"، هذا ما قاله الخباز نصار الذي يحمل رغيف خبز ويضعه في فرن الطينة لينضج، ويبدأ في تقليب الأرغفة وسط النار التي تستعر بأوراق بحثية وكتب ثقافية وشهادات جامعية، اضطر أصحابها لإشعال النار فيها لطهي طعامهم بعدما نفد غاز الطهي.
مكتبة عمرها 35 سنة
في ظل تحكم إسرائيل في معابر غزة، وتقييد دخول المحروقات للقطاع المحاصر، اضطر سكان غزة لإشعال النار في الكتب المدرسية والأبحاث الجامعية وكل ما هو متوافر من أوراق، من أجل إيقاد اللهب لطهي الطعام وصناعة الخبر.
في الصباح الباكر، اتصل الخباز نصار بالكاتب والباحث الفلسطيني محمود عساف وعرض عليه شراء مكتبته ليشعل في أوراقها النار لأغراض الخبز، صدم الكاتب من محتوى المكالمة، وتعكر مزاجه وأغلق الخط غاضباً.
يقول عساف "أقمت مأتماً في قلبي، مكتبتي كانت صومعة أقضي فيها وقتي، عمرها يقارب 35 سنة، وتحتوي على 30 ألف عنوان، تتضمن مؤلفات لنحو 25 مؤلفاً شاركوا في معارض دولية، فيها 100 بحث علمي أعددتها ونشرتها في مجلات عربية".
الظروف الاقتصادية صعبة
يصمت عساف ويوجه سؤالاً لنفسه "كيف يمكن لهذا الإرث أن يكون وقوداً للنار؟"، يعيش الكاتب الفلسطيني بسبب الحرب ظروفاً اقتصادية صعبة ويعاني من الفقر المدقع، وبعد تفكير في عرض الخباز، اضطر للموافقة على بيع مكتبته ليشعل بها صاحب الفرن النار.
ويضيف عساف "كدت أن أموت من الجوع، لا أستطيع أن أتحمل نظرات الحرمان في عيون أطفالي، أنا بين المد والجزر بين أن أبيع أو لا أبيع، سوء الحال أدخلني في مساومة على قلمي وكتبي، هذا ما فعلته الحرب بنا".
تدخل إسرائيل غاز الطهي لغزة بكميات محدودة، ووفقاً لبروتوكول معين تعمل هيئة البترول الفلسطينية على تعبئة اسطوانات المواطنين كل 50 يوماً بوزن ثمانية كيلوغرامات، ولا تكفي هذه الكمية الأسر، ويضطر السكان لإشعال النار لإعداد طعامهم وخبزهم.
البكاء على الأبحاث العلمية
قبل أن يتوجه سكان غزة لحرق الأوراق، كانوا قد أشعلوا النار في الحطب والأخشاب حتى نفد من غزة، ما دفعهم إلى حرق الكتب المدرسية والأبحاث الجامعية وكل ما هو متوافر، من أجل إيقاد النار.
قبل الحرب أنهى رضوان دراسة الدكتوراه، ويحتفظ في بيته بأبحاثه الجامعية ودراسة الماجستير والكثير من الكتب والمراجع، وبسبب عدم توافر الوقود، أجبر على حرق كتبه الجامعية ورسالة التخرج الخاصة من أجل الحصول على الطعام.
يقول "بكيت كثيراً عندما أشعلت النار في أول رسالة جامعية قمت بإعدادها، كل ذلك لأجل طهي الطعام، يا ليتني مت قبل أن أفعل ذلك، صدقني لم أتذوق طعم الأكل، كل ما كان يدور في عقلي سؤال واحد "كيف حرقت أبحاثي العلمية؟".
ويضيف "الكتب والأوراق غير قادرة على إيقاد النار بشكل يمكننا من خلاله طهي الطعام كاملاً، في كثير من الأحيان يكون نيئاً، يا ليت يعرف الطعام ماذا استخدمنا لأجل طهوه، ويا ليت تعرف النار قيمة الأوراق التي حرقناها لأجل إشعالها".
إرث معرفي بات وقوداً
أمام موقد صغير تجلس نعيمة مدلل القرفصاء تقطع ورقاً وتدخله إلى بيت النار لتعد الطعام، وعيونها تذرف دمعاً باستمرار، تقول "كنت أدير المنطقة التعليمية التابعة للأمم المتحدة في محافظة رفح أقصى جنوب قطاع غزة، واليوم اضطر لحرق أطروحات الدكتوراه من أجل إعداد رغيف الخبز".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تجمع نعيمة ما تبقى من رسائل الماجستير وأوراق بحثية وتقدمها للنار، تضيف "كتبت مؤلفات وأسست نهجاً تربوياً في الأمم المتحدة، واليوم أحرق كل ذلك لأجل إعداد كوب من الشاي الساخن، الكل مسؤول ومتخاذل ومشترك بالجريمة".
حصلت فاطمة على مساعدة غذائية تحتوي على المعكرونة، ولإعدادها اضطرت لإشعال النار في رسالة الماجستير خاصتها، تقول "كلما خف لهب النار تحت قدر الطعام، أمزق المزيد من أوراق أبحاثي لضمان استمرار الاشتعال حتى ينضج الطعام".
وتضيف "لم تعد لدينا خيارات، صحيح قلبي يتحسر على مجهودي الذي استغرق سنوات لإعداد رسالة الماجستير، التي كنت دائماً أشعر بالفخر كلما نظرت لها، لكن اليوم مجبرين على إشعال النيران بأي وسيلة بعد نفاد كل أنواع الوقود وندرة توافر الحطب".
تجلس الطفلة رويدا أمام النار وتضع كتباً مدرسية في الموقد، تتحسر الفتاة المجتهدة على دفاترها التعليمية، وتقول بصوت خافت "مستقبلي التعليمي بات مجهولاً، بعد أن تم حرق كافة الكتب المدرسية وكل ما هو متوافر لإشعال النار".
الأمر لم يحدث في التاريخ الفلسطيني
يقول مدير عام وزارة الثقافة عاطف عسقول "في غزة اضطر الناس لحرق كتبهم المدرسية والجامعية وأطروحات الدكتوراه والأبحاث العلمية ومكتبات كبيرة لأجل إعداد الطعام، هذا الأمر لم يحدث في التاريخ الفلسطيني قبل ذلك".
ويضيف "هذه الحرب طمست الهوية التعليمية والثقافية وجعلت من إعداد الطعام أولوية عن الاحتفاظ بالمكاتب المعرفية، قبل اندلاع القتال في غزة، كان القطاع قطع شوطاً طويلاً في المعرفة وإثراء المكتبات بالمعارف، لكن حرباً عشواء بلا قوانين دثرت ذلك".
يعد ملف الوقود من البروتوكول الإنساني الذي تتنصل إسرائيل من تنفيذه، ولمحاولة حل هذه الأزمة تبرعت قطر بـ15 مليون ليتر من الوقود لمصلحة غزة، وبحسب معلومات "اندبندنت عربية" وافقت تل أبيب على تدفق هذه الكمية للقطاع، بما ينهي أزمة إشعال النار في الحطب والكتب المعرفية.