ملخص
لم يعد هناك "مركز" واحد للنشر أو المعرفة، بل بات بإمكان أي شخص أن يكتب وينشر بسهولة، مما أدى إلى تحدي الهيمنة التقليدية لدور النشر والمكتبات الأكاديمية وأتاح مزيداً من الحرية في التعبير والنشر سواء عبر المدونات أو منصات النشر المفتوح ومكتبات الكتب الإلكترونية التي لا تبعد الناشر التقليدي.
يتمتع اللسان بثقل استراتيجي من بين أعضاء جسد الإنسان بالتالي في حياته، فهو عدا عن أنه أداة التذوق والأكل، هو أداة الكلام أي التعبير، بالتالي هو أداة اللغة التي أسست لاكتشاف الأبجدية ومنها إلى الكتابة.
في يوم "اللغة الأم العالمي" الذي يوافق في الـ21 من فبراير (شباط) من كل عام، أشارت "يونيسكو" التابعة للأمم المتحدة إلى أن "الألسن هي الأدوات الأقوى التي تحفظ وتطور تراثنا الملموس وغير الملموس، وهي لا تساعد فقط في تعزيز نشر اللغات الأم وتشجيع التعدد اللغوي وثقافة الاختلاف اللغوي، وإنما تشجع على تطوير وعي أكمل للتقاليد اللغوية والثقافية في أنحاء العالم كافة، كما تلهم على تحقيق التضامن المبني على التفاهم والتسامح والحوار".
وتعتبر "يونيسكو" أن اختفاء كل لغة أصلية مهما كان عدد ناطقيها، يعني أن لساناً إنسانياً اختفى، خصوصاً أن لغة واحدة أصلية من أصل 7 آلاف لغة ما زالت متداولة حتى يومنا، تختفي كل أسبوعين، مما يعني اختفاء موروثها الثقافي والفكري، ويتعرض ما لا يقل عن 45 في المئة من اللغات الإنسانية لأخطار الاندثار، ولا يُستخدم منها في العالم الرقمي إلا ما يقل عن 100 لغة.
اللسان كان سبباً لنشوء اللغة للتعبير عن كل ما يحيط بنا، واللغة كانت سبباً لانتشار الكتابة كي تحفظ الذاكرة والأفكار والتعبيرات والعقود والقوانين والأساطير، إلا أن العصر الرقمي واللغات العالمية الموحدة التي يتسع انتشارها على حساب اللغات المحلية باتا يطرحان أسئلة كثيرة حول أحوال الكتابة في عصرنا الحاضر.
يخالف بعض علماء اللغويات والاجتماع الرقمي فكرة "يونيسكو" التشاؤمية حول مستقبل الكتابة واللغات في العصر الرقمي على اعتبار أن الفضاء الرقمي لا يلغي الكتابة التقليدية، بل يوسع إمكاناتها ويجعلها أكثر تفاعلية وديناميكية من خلال الوسائط المتعددة والمشاركة التفاعلية التي تدفع إلى تغيير طبيعة الكتابة بطرق لم تكُن ممكنة في عصر الطباعة.
والكتابة برأي الفريق المتفائل هي عملية ديناميكية متطورة وليست تقليداً ثابتاً، ويمكن للكتابة الرقمية توسيع إمكانات التعبير البشري بدلاً من أن تكون مجرد بديل للطباعة.
الكتابة قبل العصر الرقمي
في التعريف الأكاديمي المباشر، فإن الكتابة هي نظام رسمي لتسجيل الأفكار والأحداث والمعلومات، وظهرت كحل فرضته الحاجات العملية في الحضارات المبكرة، وقبل الكتابة اعتمد البشر على نقل المعلومات الشفوية وحفظها في الذاكرة، ثم احتاجوا إلى وسيلة لتسجيل وتوثيق المعلومات لتسهيل انتقالها بين الناس وبين الأجيال.
والكتابة هي التعبير المادي للغة المنطوقة، وتبين في الأبحاث الحديثة أن الشعوب التي لم تترك أثراً مكتوباً كان من الصعب تأريخها وتوثيقها، وتبدو وكأنها لم تمر، فتأريخ الماضي مستحيل من دون الكلمة المكتوبة، ويختفي سياق الأدلة المادية من الماضي القديم.
ويقدر الزمن الذي بدأ فيه الإنسان بتطوير اللغة والأبجدية بنحو 35 ألف عام قبل الميلاد، واعتبر العلماء رسوم الكهوف من فترة الإنسان الكرومانيوني (50000 - 30000 قبل الميلاد) وكأنها لغة إذ تعبر عن أحداث تجري في الحياة اليومية، وتبدو كأنها تحكي قصة رحلة صيد وقعت فيها أحداث معينة.
لكن الكتابة بالأحرف ظهرت بعد ذلك بزمن طويل في جنوب بلاد ما بين النهرين، نحو 3500 - 3000 قبل الميلاد، وكانت الكتابة المسمارية على ألواح الطين الرطب، ويقال إن نظام الكتابة لدى المصريين القدماء تطور من مسمارية بلاد ما بين النهرين، وأصبح يعرف بـ"الهيروغليفية".
ومع ظهور المدن في بلاد ما بين النهرين والحاجة إلى الموارد التي كانت تفتقر إليها المنطقة، تطورت التجارة عبر المسافات الطويلة ومعها الحاجة إلى القدرة على التواصل عبر المساحات الشاسعة.
وكانت أقدم أشكال الكتابة عبارة عن رسوم صورية لرموز تمثل الأشياء تستخدم للمساعدة في تذكر طرود الحبوب إلى أي وجهة ذهبت ولمن وكم يبلغ عددها وماذا تحوي، وكانت هذه الصور التوضيحية تطبع على ألواح من الطين المبلل ثم تجفف، وأصبحت بمثابة سجلات رسمية للتجارة، أما نمط الكتابة الأكثر دقة فلم يظهر إلا بعد عام 2600 قبل الميلاد، كنظام كتابة حقيقي بتركيبة معقدة من علامات الكلمات والرموز الصوتية التي سمحت للكاتب بالتعبير عن الأفكار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتطورت الكتابة في أميركا الوسطى على يد المايا نحو عام 500 قبل الميلاد، وتطورت كتابة الصينيين بصورة مستقلة.
وجاء نظام الكتابة لدى اليونانيين ثم الرومان من فينيقيا، وهو مختلف تماماً عن ذلك المعتمد في بلاد ما بين النهرين، وبحسب المؤرخ ديورانت فإن الفينيقيين لم يبتكروا الأبجدية، بل سوقوها بعدما أخذوها على شكل أجزاء ومقاطع من مصر وكريت وجزر حوض المتوسط، ثم طوروها في صور وصيدا وجبيل وقاموا بتصديرها إلى كل مدينة على البحر الأبيض المتوسط، ويمكن وصف الفينيقيين بوسطاء الأبجدية وليسوا منتجيها.
بحلول زمن هوميروس، كان الإغريق استولوا على هذه الأبجدية الفينيقية، وانتقلت أنظمة الكتابة المستوردة من الفينيقيين إلى ثقافات أخرى، لتصبح اللغة المكتوبة لتلك الثقافات، كاللغتين اليونانية واللاتينية في أساس النص الأوروبي، بينما صارت اللغات الآرامية السامية المتطورة عن الفينيقية الأساس للعبرية والعربية، وربما أيضاً للسنسكريتية.
الكتابة في العصر الرقمي
يُقال إنه في عصر تكامل المرئيات والوسائط السمعية والبصرية، لم تعُد الكتابة تقتصر على النصوص فقط، بل أصبحت مدمجة مع الصور ومقاطع الفيديو والرموز التعبيرية، مما يطور دورها من تسجيل اللغة وحفظها إلى تجربة تتميز بالمرونة والتجزئة والتفاعل البصري، ولهذا لم تعُد الكتابة في الفضاء الرقمي هي نفسها الكتابة التقليدية التي كنا نعرفها قبل ظهور شبكة الإنترنت.
وباتت الكتابة الرقمية تركز أكثر على "اللحظوية" أو تأدية الفكرة الفورية بدلاً من التفكير العميق في عالم المنشورات السريعة والتحديثات الفورية، ولهذا لم تعُد الكتابة نشاطاً خاصاً أو حكراً على أشخاص ملمين بالكتابة أو يعملون في مجالاتها، بل باتت نشاطاً تكلله التغريدات والمدونات والمناقشات والخواطر السريعة وربما القصص المصورة القصيرة المتداولة في الفضاء الرقمي.
وهذا ما يعتبره المتفائلون بأوضاع الكتابة في الزمن المعاصر إسهاماً في تأسيس الهوية الشخصية لكل من يكتب أفكاره في هذا الفضاء، وساعد الفضاء الرقمي على اللجوء إلى الاختصار وتكريسه طريقة في الكتابة، وعوضت الرموز التعبيرية والـ"إيموجي" عن نبرة الصوت ولغة الجسد، وحولت التفاعل إلى نوع مباشر من التواصل بين الكاتب على الوسائط الرقمية وقارئه، عكس الكتابة القديمة التي كانت عبارة عن اتصال باتجاه واحد بين المؤلف والقارئ.
في كتابه "فضاء الكتابة"، يرى عالم اللغات والاجتماع ج ديفيد بولتر أن الكتابة في العصر الرقمي لم تعُد مجرد نقل للمعلومات على صفحة ثابتة، بل تحولت إلى "فضاء ديناميكي" يتيح التفاعل وإعادة تشكيل وربط الأفكار بطرق غير ممكنة في النصوص المطبوعة التقليدية.
ويقصد بولتر بعبارة "فضاء الكتابة" الطريقة التي تنظم بها الثقافة أساليب إنتاج النصوص واستهلاكها، فبينما كان فضاء الكتابة المطبوع محدداً بالصفحات الورقية التي بين دفتي الكتاب وكل كتاب في المكتبة المنزلية الهائلة وكانت كمية المعلومات المكتوبة محددة بهذا الحجم من الكتب، فإن الفضاء الرقمي على العكس تماماً، هو فضاء لا مركزي ومفتوح ومتشابك ويوفر كمّاً هائلاً من المعلومات.
ويقال إن كم المعلومات الذي يتلقاه الفرد في اليوم الواحد في عصر الفضاء الرقمي يساوي ما كان ليجمعه القارئ العادي خلال عام في الزمن السابق على الإنترنت وانتشار المعلومات واختصارها وإرفاقها بالصور، مما يمكن تسميته "نمط الكتابة الجديد" أو المعاصر.
ويضيف بولتر الحجج لدعم الكتابة في العالم الرقمي، إذ يعتبر أن قارئ النصوص المطبوعة يقرأ المعلومات من البداية إلى النهاية وفق ترتيب محدد، أما في الفضاء الرقمي فيمكن للقارئ التنقل بحرية بين الأقسام المختلفة من النص الواحد المكتوب أو ما بين النصوص المختلفة التي تتناول الموضوع نفسه، مما يسمى "القراءة غير الخطية"، عدا عن الروابط التي تقود القارئ إلى مقالات أو وسائط أخرى، مما يغني بدوره الكتابة في الفضاء الرقمي إذ لم يعُد هناك "مركز" واحد للنشر أو المعرفة، بل بات بإمكان أي شخص أن يكتب وينشر بسهولة، مما أدى إلى تحدي الهيمنة التقليدية لدور النشر والمكتبات الأكاديمية وأتاح مزيداً من الحرية في التعبير والنشر سواء عبر المدونات أو منصات النشر المفتوح ومكتبات الكتب الإلكترونية التي لا تبعد الناشر التقليدي.