ملخص
مؤكد أن الفخ هو أنك تعتقد أنك تفترض أن المزيد من القوة، والمزيد من مظاهر القوة، والاستعداد لاستخدامها ربما حتى بطرق غير عقلانية، يعني بالضرورة المزيد من السلام. لماذا؟
لأن حال السياسة الدولية أكثر تعقيداً من ذلك، وعليه سوف يبقى الأمر شعاراً سياسياً عظيماً لترمب، لكن سيكون التحدي المتمثل في ترجمة ذلك بفعالية إلى سياسة خارجية، كبيراً وصعباً.
- خلال خطاب تنصيبه، والذي أستهل به ولايته الثانية، توقف الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب أمام فكرة ومفهوم "السلام من خلال القوة"، وهو ما يعيد إحياء عبارة تم اختيارها على مرّ الزمن، وقد كانت في واقع الحال في جوهر إدارته الأولى 2016- 2020. غير أن التساؤل الحقيقي موصول بما إذا كان ترمب يسعى إلى تحقيق استراتيجية؟ أم أنه يعتمد فقط على شعار ثابت؟ وهذا أمر سيكون مثيراً للجدل كشأن كل ما يتعلق بترمب الرئيس غير المتوقع في الحال والاستقبال.
والشاهد أنه من خلال استحضار فكر "السلام من خلال القوة"، يبدو الرئيس ترمب شديد الشبه بالرئيس الجمهوري رونالد ريغان، الذي رفع الإنفاق العسكري بشكل حاد في مواجهة الاتحاد السوفياتي في ثمانينيات القرن المنصرم، ما جعل سباق التسلح أمراً مكلفاً للغاية لحلف "وارسو"، ما تسبّب في سقوطه في نهاية الأمر، وذلك قبل أن يفتح الباب للتفاوض في زمن ميخائيل غورباتشوف، الذي كان حديث العهد بالإصلاح.
لم يكن ريغان وحده، في واقع الحال، هو أول من لجأ إلى هذا الطرح في أميركا المعاصرة، فقد سبقه هنري كيسنجر، رسول السعي الهادئ لتحقيق المصالح الوطنية المعروفة باسم السياسة الواقعية، الذي تحدث عن طرح "السلام من خلال القوة" أيضاً.
ويمكن لنا أن نتساءل بداية عن هذا المفهوم وكيف تمت بلورته لينتقل من المجال الفلسفي إلى الواقع الحياتي العملي في الداخل الأميركي، ثم طرح علامة استفهام عما يمكن أن يعنيه هذا المفهوم بالنسبة لولاية ترمب الثانية، حيث الخلافات مع كثير من الأطراف الدولية قائمة وقادمة بين السلام والحرب، وهل سيقتدي ترمب بريغان على رغم تغير السياقات التاريخية، وإن بقيت الصراعات على الزعامات القطبية كما هي، مع اختلاف أنه في زمن ريغان كان العدو الأول هو الاتحاد السوفياتي، بينما اليوم تمثل الصين القطب المناوئ للولايات المتحدة في طريق الهيمنة الأممية على مقدرات البشرية؟
أميركا ومفهوم السلام عبر القوة
في واقع الحال هناك أكثر من رؤية وتفسير لمفهوم السلام عبر القوة، عبر التاريخ، فهناك من يرى أن الاستراتيجي العسكري الروماني فيجتيوس هو صاحب المقولة الشهيرة "إذا كنت تريد السلام فاستعد للحرب". غير أن البعض الآخر ينسب هذا التعبير إلى سان أوغسطينوس في رائعته "مدينة الله"، وفريق ثالث يعزو العبارة إلى الإمبراطور الروماني هادريان، والذي تحدث طويلاً عن فكرة تحقيق الاستقرار من خلال بناء الجدران الدفاعية.
ولعل هذا المفهوم كان حاضراً منذ تأسيس الجمهورية الأميركية، فقد فهم الرئيس الأميركي الأول، وبطل حرب الاستقلال، جورج واشنطن هذا المفهوم جيداً، ولهذا تحدث أمام الكونغرس في عام 1793 قائلاً "إذا كنا نرغب في تأمين السلام، وهو أحد أقوى أدوات إزدهارنا الصاعد، فيجب أن يكون معروفاً، أننا مستعدون في كل الأوقات للحرب".
وآمن العديد من الرؤساء الأميركيين في هذا المفهوم، بدءاً من جورج واشنطن عينه، الرجل الذي رأى أن الاستعداد للحرب هو أحد أكثر الوسائل فعالية للحفاظ على السلام، فيما الرئيس الرابع للولايات المتحدة جيمس ماديسون رأى أنه مفهوم مدمج في السياسة الأميركية المستقرة، واعتبر أن السلام أفضل من الحرب، والحرب أفضل من الجزية.
أما رونالد ريغان فأشار إلى "أننا نعلم جيداً أن الحرب لا تأتي عندما تكون الحرية قوية، بل عندما تكون ضعيفة، في هذه الحالة، يتم إغراء الطغاة".
والثابت أن هذه الاستراتيجية قد دخلت في جوهر السياسات الأميركية عند العديد من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة ورؤساء البلاد منذ عام 1789، حتى اليوم، وتتلخص الفرضية الأساسية لهذه الاستراتيجية في أن الولايات المتحدة إذا ما بنت قدرات عسكرية هائلة، مع نسبة تفوق غير عادية على المهاجمين المحتملين، فلن تجرؤ أي دولة على وجه الأرض على مهاجمتها لأنها تعلم أن هذا من شأنه أن يجلب عليها الدمار السريع والكامل.
غير أن هناك من يرى أن هذا المفهوم يمكن أن يقود إلى عكس ما هو مطلوب، عبر الوقوع في فخ "غرور القوة المفرطة". ماذا عن ذلك؟
السلام من خلال القوة أم الحرب؟
يحاجج البعض بأن هذا المفهوم ليس واضحاً بما هو كافٍ إذا كان له أن يضمن السلام الأميركي في الداخل أم لا.
وعند البروفيسور بوب بريشا الخبير العسكري وأستاذ الإدارة العامة المشهور في جامعات أميركا، أنه بفضل الاستراتيجية القائمة على استخدام القوة العسكرية، فإن السلام في أميركا سوف يتحقق ويحافظ عليه، غير أنه إذا قبل الأميركيون مثل هذه الفرضية، فإن السؤال المنطقي التالي قد يكون "إلى أي مدى نحتاج إلى تسليح أنفسنا لكي نكون الرادع الذي نسعى إليه؟".
وهذا يستلزم ممارسة مقارنة مستمرة، تقوم بها مراكز الأبحاث والشركات الاستشارية الكبرى التي تراقب القدرات العسكرية لدول العالم. وهناك علامة استفهام ثانية قد تطرح إذا كان مفهوم "السلام من خلال القوة"، هو الاستراتيجية التي من خلالها ستتم إدارة الصراعات الأميركية حول الكرة الأرضية، وهو "هل تتضمن هذه الاستراتيجية الأسلحة التقليدية فقط، أم أنها قد تتضمن الأسلحة النووية أيضاً؟
السؤال الثالث الذي يطرح نفسه بنفسه "هل لدى الأميركيين أي دليل تجريبي على نجاح استراتيجية الأسلحة النووية الفائقة؟". في واقع الحال أن الأسئلة السابقة تقود حكماً إلى قضية جوهرية موصولة بما أشرنا إليه بالقول إن القوة المفرطة تشكل إغراء للسياسيين والعسكريين على حدّ سواء للدخول في معارك أكثر كارثية.
وتبدو فلسفة القوة مهيمنة ومسيطرة على الفكر الأميركي منذ بدايات نشأته، ولعل طرح القوة كان الأداة الوحيدة التي يمكن من خلالها الحفاظ على مقدرات السلام في "أمة قارية" تمتد بين محيطين غرباً وشرقاً.
ونقرأ في الأوراق الفيدرالية الأولى التي بنيت عليها فلسفة الحكم الأميركي، دفاع أحد أهم المؤسسين ألكسندر هاملتون، عن "السلام من خلال القوة" عبر تصريحه بأن "الحاميات القوية في الغرب والبحرية في الشرق من شأنها أن تحمي الاتحاد من تهديد بريطانيا وإسبانيا". من هنا، اتخذت القوة الجوية الثامنة التي تأسست قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية شعارها "السلام من خلال القوة". و"السلام من أجل القوة"، هو عنوان كتاب عن خطة دفاعية وضعها برنارد باروخ مستشار الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت أثناء الحرب العالمية الثانية.
وخلال الحملة الرئاسية للسياسي الأميركي الجمهوري الشهير باري غولدووتر، عام 1964، أنفق الحزب الجمهوري نحو خمسة ملايين دولار على الإعلانات التلفزيونية التي تروّج لموقف غولدووتر في السياسة الخارجية "السلام من خلال القوة".
غير أن المؤرخ العسكري الأميركي أندرو باسيفيتش يذهب ناقداً هذا المفهوم بقوله "إن الإيمان بفعالية القوة العسكرية يؤدي، بشكل حتمي، تقريباً، إلى إغراء استخدام هذه القوة. إن عبارة القوة من خلال السلام تتحول بسهولة إلى السلام من خلال الحرب".
بالقدر نفسه استخدم البروفيسور جيم جورج من "الجامعة الوطنية الأسترالية" هذا المصطلح لوصف جزء مما زعم أنه السياسة الخارجية الشتراوسية والمحافظة الجديدة لإدارة جورج دبليو بوش.
كما استخدمت عبارة "القوة من خلال السلام"، في بعض الأحيان لإثارة الانتقادات للنظام العسكري للدبلوماسية الذي ينادي به مفهوم "السلام من خلال القوة". وقد تبنّى النائب عن ولاية أوهايو دينيس كوسينيتش شعار "القوة من خلال السلام"، خلال حملته الانتخابية الرئاسية عام 2008 كجزء من برنامجه كمرشح سلام ضد حرب العراق.
هل نجحت فلسفة السلم من خلال القوة في التاريخ الأميركي الحديث، الأمر الذي قد يغري دونالد ترمب بتكرار هذه السياسة خلال سنوات حكمه الأربع؟
الريغانية وسلام القوة ضد السوفيات
خلال سنوات رئاسته الممتدة من 1981 إلى 1989، سعت مؤسسة مجلس الأمن الأميركي غير الربحية ASCF، ومزود البريد المباشر الخاص بها، شركة الاتصالات الأميركية، إلى التأثير في السياسة الخارجية للولايات المتحدة من خلال الترويج لمفهوم "السلام من خلال القوة". وكان الصراع مع الاتحاد السوفياتي في أوج قوته، في ذلك الوقت، فيما استهل ريغان برنامج "حرب النجوم" أو "الكواكب" عام 1983، ما أدخل الاتحاد السوفياتي في سباق تسلح غير متكافئ مع المقدرات المالية للولايات المتحدة.
في ذلك الوقت لعب تيار اليمين الديني التوراتي دوراً بالغاً في بلورة مفاهيم ريغان، وسوّق له رجالات من نوعية جيري فالويل وبات روبرتسون وغيرهما، فكرة روحانية عن "رب القوات، القوي الجبار، القاهر في الحروب".
في الـ 23 من مارس (آذار) 1983، ألقى رونالد ريغان من مكتبه في البيت الأبيض، خطاباً إلى الأمة الأميركية بشأن "الدفاع والأمن الوطني"، كان بمثابة "مانيفستو" للترويج لفكرة الحفاظ على السلام الأميركي من خلال تعاظم القوة الأميركية.
في ذلك الخطاب قدم ريغان واحدة من أكبر الموازنات الدفاعية الخاصة بالصواريخ الباليستية النووية بتكلفة إجمالية 26 مليار دولار موزعة على خمس سنوات.
في خطابه قال ريغان "قدمت إلى الكونغرس موازنة دفاعية تعكس أفضل تقديراتي وأفضل فهم للخبراء والمتخصصين الذين يقدمون لي المشورة بشأن ما يتعيّن علينا، وعلى حلفائنا، القيام به لحماية شعبنا في السنوات المقبلة". ويومها أضاف "هذه الموازنة أكثر من مجرد قائمة طويلة من الأرقام، لأن وراء كل هذه الأرقام تكمن قدرة أميركا على منع أعظم المآسي الإنسانية والحفاظ على أسلوب حياتنا الحرّ في عالم محفوف بالمخاطر في بعض الأحيان. إنها جزء من خطة مدروسة وطويلة الأجل لجعل أميركا قوية، مرة أخرى، بعد سنوات عدة من الإهمال والأخطاء".
وربط ريغان في خطابه المطول بين تعزيز الدفاعات الأميركية والحفاظ على السلام، عبر زيادة كبيرة في برنامج الدفاع. فهل حقق غرضه؟
المؤكد أنه نجح في ذلك، فقد قدّر لـ "الناتو" بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، سحق الاتحاد السوفياتي، من خلال دعم دول أوروبا الشرقية بداية، والتي تمردت على موسكو ومركزيتها من جهة، ومن ثم التقدم إلى قلب روسيا نفسها المسقط الرئيس للفكر الشيوعي، إذ كانت الأزمات الإقتصادية قد طحنت روسيا طحناً، ولم يجد الروس سوى الاستسلام، وتفكيك عقد الجمهوريات السوفياتية التي دارت في فلكه.
هل اليوم يشابه الأمس؟ وهل فلسفة القوة الأميركية تصلح لمواجهة ومجابهة الصين بنوع خاص، والتي تبدو قوة اقتصادية كبرى واعدة، وفي طريقها أيضاً لأن تضحى قوة عسكرية؟
سلام القوة عقيدة ترمب العسكرية
الذين استمعوا إلى خطاب تنصيب الرئيس الأميركي، لفتت انتباههم تلك الرؤية الماضوية لرونالد ريغان، والتي استعارها ترمب بقوة ووضوح، مع لمحات عصرانية من دون شك.
وعد ترمب بإنشاء جيش قوي وإنهاء الحروب أو تجنبها، والسعي إلى تحقيق السلام من خلال القوة.
تالياً بدا واضحاً أن هذه الفلسفة التي يتبناها ترمب، هي عينها التي يمضي في إطارها، معظم، إن لم يكن بقية أعضاء إدارته، وبخاصة ماركو روبيو الذي تم تثبيت ترشيحه من قبل مجلس الشيوخ وزيراً للخارجية الأميركية.
لم يكن هذا المفهوم الأيديولوجي بعيداً من عقل ترمب في ولايته الأولى، فعند بداية منصبه في يناير (كانون الثاني) 2017، استشهد ترمب بفكرة "السلام من خلال القوة" باعتبارها جوهر سياسته الخارجية الشاملة "أميركا أولاً". وعلى هذا النحو، تنص مقدمة استراتيجية الدفاع الوطني الأميركية لعام 2018 على ما يلي: "إن وضع القوات الأميركية جنباً إلى جنب مع الحلفاء، سيحافظ على السلام من خلال القوة، وتستمر الوثيقة في تفصيل ما يتطلبه تحقيق السلام من خلال القوة".
وأظهرت أربع سنوات هي عمر إدارة ترمب الأولى أن النهج البديهي الذي يتبناه يعني شيئاً محدداً للغاية بالنسبة لأعداء أميركا، وهو العنف الساحق والمروّع الذي يستخدم إذا شعر أن أعداءه قد ألحقوا الضرر بمواطنيه وبلاده ومصالحهم.
وتبني ترمب قوة مفرطة تصل إلى حدّ الوحشية، قوة لا تتناسب مع التعبيرات الملطفة المفضلة لدى النخبة في مجال السياسة الخارجية مثل "القتل المستهدف"، و"العمل العسكري الحركي".
وأثبتت تلك الآلية أنها وسيلة فعالة لتقييد الخصوم الأكثر شراسة. هل من مثال؟
عندما اقترح المستشارون العسكريون لترمب قائمة خيارات للتعامل مع الجنرال الإيراني قاسم سليماني، والذي كانت أميركا تتهمه بأن أياديه ملطخة بالدماء، ويخطط بنشاط لمزيد من الهجمات ضد أهداف أميركية، اختار ترمب الخيار الأكثر عدوانية.
في منتصف الليل، وبينما كان يتم نقل سليماني بعيداً من مطار عراقي، أطلقت طائرة من دون طيار من طرازMQ-9-Reaper صاروخاً من طراز Helfire أدى إلى تمزيقه إلى أشلاء مع العديد من أعضاء "الحرس الثوري الإسلامي الإيراني".
ولعله من نافلة القول إن ترمب لم يطالع حكماً، ما سطّره عالم السياسة الأميركي الشهير والتر راسيل ميد عن التقليدي الجاكسوني (نسبة إلى الرئيس الأميركي السابع أندرو جاكسون) عن السياسة الأميركية الخارجية، إذ لاحظ أن "أولئك الذين يفضلون الإعتقاد بأن الهيمنة العالمية الحالية للولايات المتحدة، مرت كثيراً بلحظات إنسانية مؤلمة رافقت فكرة السلام من خلال القوة".
على سبيل المثال، قتلت الغارات الجوية الأميركية في نهاية الحرب العالمية الثانية ما يقرب من مليون مدني ياباني، أي أكثر من ضعف العدد الإجمالي للقتلى في المعارك التي تكبدتها الولايات المتحدة في كل حروبها الخارجية مجتمعة.
وفي كوريا لاحظ ميد أن القوات الأميركية قتلت ما يقدّر بنحو مليون مدني من كوريا الشمالية، أي ما يقرب من 30 قتيلاً مدنياً مقابل كل جندي أميركي قتل في المعركة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فهل يعد نموذج السلام من خلال القوة فضيلة أخلاقية لدى ترمب؟
المقطوع به أن ترمب كبقية رؤساء أميركا الذين حلم كل منهم بمعركته الخاصة، تلك التي يظهر فيها فحولته السياسية والعسكرية عبر القوة الغاشمة. وهنا يمكن القول إن فضائل نشر مثل هذه القوة القاسية والمدمرة، تتلخص في أنها تسعى إلى هزيمة المعتدين في أسرع وقت ممكن، ما يؤدي إلى خسارة عدد أقل من الأرواح الأميركية، مقارنة بما قد يحدث في صراع طويل الأمد.
كما أن فلسفة السلام من خلال القوة تعمل كرادع ضد الهجمات المستقبلية، وحتى مجرد الإشارة إلى وجود فضائل لهذا النهج من شأنه أن يؤدي إلى إدانة من مؤسسة السياسة الخارجية، التي تندد بأنصار جاكسون باعتبارهم رعاة بقر غير أخلاقيين وانعزاليين. ولكن بالنسبة للعديد من الأميركيين، بخاصة أولئك الذين يعيشون في قلب أميركا بعيداً من النخب الساحلية، فإن هذا النهج في السياسة الخارجية والحياة، بشكل عام، يحمل صدى عميقاً.
ولعل التساؤل حول عقيدة ترمب الجديدة يحملنا على البحث في أفكار رؤساء آخرين بخلاف ريغان، أولئك الذين غالباً ما يستمد الرجل أو مفكروه مبادئهم منهم. من يقع على رأس قائمة هؤلاء؟
ترمب ونيكسون... نظرية المجنون
هل للرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون دالة على ترمب ما يمكن أن يزخّم ولايته الجديدة بمفاهيم السلام عبر القوة؟
في عام 1968، أخبر نيكسون مساعده الرئيسي أتش آر هالدمان أنه يجب استخدام ما سماه "نظرية الرجل المجنون" لإقناع الفيتناميين الشماليين بأنه "قد يفعل أي شيء لوقف الحرب في فيتنام".
وكان نيكسون نائباً للرئيس، وقد رأى كيف احتوى دوايت أيزنهاور الشيوعية بعدما أقنع الصين بإنهاء الحرب في شبه الجزيرة الكورية من خلال الاستفادة من التهديد المرعب المتمثل في الحرب النووية.
لقد وصف بعض الخبراء أمثلة على نهج ترمب بأنها "نظرية الرجل المجنون" التي ولدت من جديد، وهناك بعض الحقيقة في ذلك. ولكن هناك شيء واحد يبدو أن المنتقدين يغفلونه، وهو أن هذه ليست مسرحية هزلية، ففعاليتها تكمن في قدرة ترمب على عدم القدرة على التنبؤ، بمعنى أنه رجل غير متوقع، وعليه يخشى الجميع مما يمكن له أن يفعل، عطفاً على انفتاحه على السماح للتطورات الجديدة بتشكيل وتغيير استجابته في الوقت الحقيقي.
وعلى رغم أن هذا النهج قد يثير غضب منتقدي السياسة الخارجية لترمب، فإنه لم يظهر نجاحه في أي مكان أكثر وضوحاً من احتواء العدوان العسكري الروسي.
يخبرنا كليف سيمز مساعد ترمب الخاص في الفترة ما بين 2017 و2018، ونائب مدير الاستخبارات الوطنية للاستراتيجية والاتصالات، أن هناك حقائق تثبت أن ترمب يكاد يشتهر بكونه هذا المجنون الذي يخاف الجميع من ردود أفعاله.
لقد غزت روسيا جورجيا في عام 2008 عندما كان جورج دبليو بوش رئيساً، واستولت روسيا على شبه جزيرة القرم في عام 2014 عندما كان باراك أوباما رئيساً، ولاحقا غزت روسيا أوكرانيا مع جو بايدن رئيساً. ومع ذلك، عندما كان ترمب رئيساً، لم تستولِ روسيا على أراض من أي من جيرانها.
أكثر من ذلك، فإنه لم تتراجع شهية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتوسع خلال السنوات الأربع التي قضاها ترمب في منصبه، ولم يصبح العالم مكاناً أكثر أماناً فحسب، بل إن الجهات الفاعلة السيئة (بحسب المنظور الأميركي) من روسيا إلى الصين إلى إيران وكوريا الشمالية، كانت تعلم، ببساطة، أنها لا بد أن تكبح جماح نفسها أو تتعامل مع العواقب غير المتوقعة، لكنها شديدة الخطورة حتماً.
لقد نجح ترمب بالفعل في ولايته الأولى عبر منهجية السلام من خلال القوة، وحافظ، بالفعل، على أمن الأميركيين من دون البدء في الحرب، لكن ماذا عن الملفات الساخنة والمشتعلة في ولايته الحالية؟ وهل له أن يتعاطى معها من خلال فلسفة القوة المجلبة للسلام بحسب تقديره؟ أم أن الخروقات في الهيكل التكتوني العالمي تتسع، بحال من الأحوال، على العلاج بهذه النظرية؟
القوة الترمبية وتحديات السلام الأممي
تساءل كثيرون حول العالم عن مآلات ولاية ترمب الجديدة، وما إذا كانت هناك بشأنها تحديات جسام من نوعية التضاد القائم بين القوة والعسكرة، وبين أعمال السلام.
أحد أفضل الذين قدموا جواباً عن علامات الاستفهام المتقدمة، روبرت أوبراين مستشار الأمن القومي لترمب في ولايته الأولى، والذي أشار، في مقال كتبه قبل الانتخابات، إلى أن مفهوم السلام عبر القوة هذا يعني التعامل مع الصين بشكل مباشر كخصم.
وفي مقال أوبراين عبر مجلة "فورين أفيرز"، دعا أوبراين إلى تعزيزات عسكرية سريعة في جميع أنحاء آسيا، بما في ذلك نشر قوات مشاة البحرية الأميركية بالكامل في المحيط الهادئ.
في الوقت عينه، رأى أوبراين أن ترمب على رغم "التصورات الكاذبة" التي تتهمه بأنه يميل إلى تفعيل القوة المسلحة، فقد كان صانع سلام، مشيراً إلى تشجيعه التطبيع العربي مع إسرائيل، والصفقة التي أبرمها مع "طالبان" في أفغانستان والتي أدت إلى القضاء على وفيات القوات الأميركية.
إن عبارة "السلام من خلال القوة" لها جاذبية محلية واضحة، ومن المرجح أن يقول عدد قليل من الناخبين إنهم يرفضون السلام أو يفضلون الضعف. لكن جورج بيبي، المحلل السابق في وكالة الاستخبارات المركزية، قال إنه في حين أن من غير الواضح كيف سيتصرف فريق ترمب "أعتقد أن هذا ربما يكون أكثر من مجرد كلمة طنانة".
وغالب الظن أنه في تصور فريق ترمب، فإن "السلام من خلال القوة" يعني، على الأرجح، أيضاً، التركيز، بشكل أقل، على أولويات بايدن الداخلية في "البنتاغون"، مثل زيادة التنوع، وإمتلاك آلة القدرة على خوض الحرب، بحسب ما قال بيبي.
غير أنه وبحسب بيبي أيضاً، ربما يتوجب على ترمب أن يجد طريقه إلى التوازن، مثلما فعل ريغان الذي جمع بين تعزيز قوته العسكرية وتفعيل أدواته الدبلوماسية الذكية، ولهذا قدّر له أن يفكك أسطورة الاتحاد السوفياتي من غير أن يطلق رصاصة واحدة على الروس ولا على أحلافهم، ما فتح الطريق واسعاً، لاحقاً، لتعزيز السلام والاستقرار مع السوفيات.
أميركا العظيمة ومفترق طرق
هل من خلاصة؟ يدرك ترمب أن مفتاح الحفاظ على أمن أميركا في عالم يزداد خطورة يتمثل في "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، من خلال التجديد الاقتصادي، وفي الوقت نفسه، لا بدّ لها من أن تمتلك القوة المالية اللازمة لإنهاء حجز موازنة "البنتاغون" من أجل تمويل الجيش الذي تحتاج إليه الولايات المتحدة للدفاع الكافي، وخفض معدل الضريبة على الشركات، والقضاء على الممارسات التجارية غير العادلة لزيادة معدل نمو الناتج الإجمالي الأميركي.
إن موازنة القوة والسلام عند الرئيس ترمب لا بد أن تأخذ في اعتبارها أنه "إذا انحرفت كثيراً باتجاه مد غصن الزيتون، فقد يستغل الخصوم ذلك".
ومن ناحية أخرى، إذا انحرفت كثيراً باتجاه المحارب، فقد ينتهي بك الأمر إلى عدم تحقيق "السلام من خلال القوة"، بل إلى الحرب من خلال القوة.
في هذا الإطار، يؤكد جاكوب ستوكس الزميل البارز في مركز "الأمن الجديد"، أن "السلام من خلال القوة" يمكن أن تكون له نتائج مختلفة من الناحية النظرية والتطبيقية، وأنه حتى لو بنى ترمب الجيش، فإن الولايات المتحدة ستخسر ميزة رئيسة إذا شكك، مرة أخرى، في حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا.
ويقدم ستوكس فكرة مثيرة، ذلك أن قطع المساعدات العسكرية عن أوكرانيا "قد يمنحك الجزء المتعلق بالسلام، ولكن ليس بالضرورة الجزء المتعلق بالقوة".
هل طرح "السلام من خلال القوة"، وفي كل الأحوال يحمل في طياته فخاً مثيراً؟
مؤكد أن الفخ هو أنك تعتقد أنك تفترض أن المزيد من القوة، والمزيد من مظاهر القوة، والاستعداد لاستخدامها ربما حتى بطرق غير عقلانية، يعني بالضرورة المزيد من السلام. لماذا؟
لأن حال السياسة الدولية أكثر تعقيداً من ذلك، وعليه سوف يبقى الأمر شعاراً سياسياً عظيماً لترمب، لكن سيكون التحدي المتمثل في ترجمة ذلك بفعالية إلى سياسة خارجية، كبيراً وصعباً.