ملخص
صدر حديثاً ديوان "ذهب أجسادهن" للشاعرة المغربية عائشة بلحاج وكتاب "إلى العزيز فيودور دوستويفسكي" للشاعرة المصرية نهال النجار. في الكتابين تنزاح التصورات النمطية السائدة والموروثة في شأن الذات والآخر، وتتفجر رؤى ومحاولات جريئة للاشتباك مع العالم من منظور أنثوي ناضج، يتفادى التسطيح والإثارة، وينفذ إلى الجوهري والعميق.
لا تعني التمثلات النسوية في الإبداعات التي تكتبها المرأة العربية شعراً ونثراً ذلك الانتظام السهل في قضايا جندرية ومعارك اجتماعية وحقوقية تتخذ الذكورية خصماً لها، ولا تعني أيضاً بطبيعة الحال تلك الإحالات الفجة إلى معالجات وتعبيرات ولقطات تشخيصية تنبني على كسر التابو، خصوصاً في الجنس، للإيهام بجسارة المرأة وقدرتها على التحدي ورفض الوصاية.
لقد تجاوزت المغامرات الإبداعية الأنثوية مثل هذه الدوائر الضيقة، ومضت في نماذجها الواعية نحو الإنساني العام، الذي يشمل المرأة والرجل معاً من جهة، ولكنه يراعي الفروق النوعية من جهة أخرى. وهذه الفروق، التي تؤثر في ماهية الإبداع وتجسداته بالضرورة، هي حقيقة لا تقبل التشكيك، إذ إن تجربة الحياة وملابسات الواقع وتفاصيل اليوميات التي تعيشها المرأة تختلف عما يكابده الرجل، كما أن طبيعة تفاعلات المرأة وتعاملاتها المادية والاستبطانية مع الجاري حولها على الأرض والمشتعل بداخلها مختلفة عن طبيعة الرجل، مما يمنح فكرة الكتابة من منظور نسوي صفة الصلاحية وجانباً من المنطقية في أحوال كثيرة.
الانزلاق والتضخم
تحت هذه المظلة يمكن التعاطي مع إصدارين جديدين لافتين، الأول هو ديوان "ذهب أجسادهن" للشاعرة المغربية عائشة بلحاج (دار "كتب"، بيروت)، والثاني هو كتاب "إلى العزيز فيودور دوستويفسكي" للشاعرة المصرية نهال النجار (دار "اكتب"، القاهرة)، وفيه تنسج سلسلة من الرسائل ذات الطابع الإفضائي، موجهة إياها إلى الأديب الروسي الأيقوني دوستويفسكي (1821-1881). وتأتي نصوص الكتابين، الشعرية والنثرية، مشحونة بطاقة أنثوية استثنائية، وممسوسة برغبة محمومة في تحرير الروح والجسد من طريق العشق، بوصفه معبراً للخلاص من الموقت والزائل، نحو بلوغ عالم دائم لانهائي.
وفي سبيل إدراك تلك الغاية، تتقاطع في نصوصهما المعنويات والحسيات معاً في حالات الانفتاح على الذات والآخر، ففي رحلات عائشة بلحاج الاستكشافية تأبى إلا أن "تنزلق في جسدها كل يوم"، وفي فضاءات نهال النجار اللامعقولة لا تنفك "تحلم بقلبها يتضخم كل ليلة"، ليتسع لهذه المراوغات والمدارات كلها.
"ذهب أجسادهن"
في ديوانها "ذهب أجسادهن" ثمة منصة تتخذها الشاعرة عائشة بلحاج نقطة انطلاق في لعبة التخفي والإفصاح، هي مقولة رولان بارت التي تفتتح بها مجموعتها "ما تخفيه لغتي يقوله جسدي". في هذه التجربة، وعاء اللغة هو وسيط توصيلي توصيفي باهت، يتعامل مع الحالة من الخارج وفق مدلولات قاموسية مسبقة، ولا يقدر هذا الوسيط العاجز على تخليق الحالة كما هي، لدى صاحبتها ولدى المتلقي على السواء، فالكلمات جثث على قارعة الطريق، وفي الفراغ، لا يمكن أن يصلحها الترميم.
أما الذي يقوله الجسد في سيرته الاعترافية والتطهرية، فهو طوبوغرافيا الوجود والتحقق، وهو الاشتباك العميق مع الداخلي الكامن والمعيش الملموس والكوني والفلسفي، وهو المعنى والماهية، كهذا الذي تسرده الشاعرة مثلاً عن المراوحة والتأرجح وسط دوامات العشق بين الظمأ والارتواء "حتى لو فاض الحب عن جسدي، لن يتلاشى العطش، الذي أجر خلفي، كنهر يركض من البحر إلى البحر، حالماً بالامتداد".
على قلق، كأن الريح تحتها، بتعبير المتنبي، تتخبط الذات الشاعرة في تنقلاتها الانفلاتية المتمردة على السكون والعطب، مثل "بندول يتقلب في ساعة معطلة". كل شيء صار له قانون يحكم حركته، فما شأن الفوضى والانهيارات في العالم المرتبك، وأية قاعدة تنظم الانهيارات والتشظيات والمشاهد المبعثرة، والجسد الممزق كخريطة بلد متنازع عليه، وما نهاية المضي قدماً في العواصف؟ "ما زالت قدماي بالتردد نفسه، لم تألفا أية خطوة. كل شيء جديد وقابل للانزلاق".
ما تكتشفه الشاعرة المغربية، صاحبة المجموعات الشعرية "ريح تسرق ظلي" و"قبلة الماء" و"لا أعرف هذه المرأة"، في ديوانها الجديد، أن الجسد هو الذهب الحقيقي الذي يلمع خلف الأسطح الخارجية، وخلف الأثواب الزائلة الزائفة. هذا الجسد، هو الضوء والظلال معاً، هو انعكاس الدهشة في المرايا، هو الحياة التي تكبر في الأسئلة، هو المبادرة المكتملة والفعل الإرادي الذي لا سلطان عليه، هو القدرة على رأب التمزقات في الأرواح والأثواب.
هكذا، تتبلور القصيدة بوصفها شبكة احتمالات تنضح حياة وحرية وحباً ومتاهة وأملاً وألماً وتأملاً في آنٍ واحدٍ "أحلق في أراضٍ مجهولة، في حمى تلف بي آخر النهار. كل شيء يتخدر، إلا الألم". وتبدو الكتابة، بحد تعبير الشاعر أدونيس في كلمته على غلاف الديوان، كأنها تجيء من أفق آخر، أفق الذاتية المتحررة من جميع أنواع السلطات الكابحة، وأفق الكينونة المنفتحة على الأعماق والأبعاد المجهولة، وعلى الأسئلة المهمشة أو المطموسة، اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، إضافة إلى المكبوت نفسياً وجسدياً، بصراً وبصيرة ومخيلة، تقول بلحاج "مثل المروحة، ألف الاحتمالات بين يدي، إلى الأبد".
رسائل إلى دوستويفسكي
وفي كتابها "إلى العزيز فيودور دوستويفسكي" تشتغل الشاعرة نهال النجار على لعبة التخفي والإفصاح أيضاً، متخذة من رسائلها العصرية التي تبعثها افتراضياً إلى الأديب الفيلسوف الروسي وسيلة للمرور عبر الزمان والمكان. وتوسع المؤلفة لعبتها، لتصير للاختباء دلالات أكثر إدهاشاً، خارج أفق التوقع تماماً، إذ قد يكون اختباء الذات في الآخر وليس منه "نحن النساء، يحدث أن نشتهي الاختباء، ليس من أحدهم، ولكن في أحدهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن خلال تلك المراسلات الإفضائية الحميمية، وكأنها بين صديقين مقربين يجمعهما شغف مشترك، تسعى الكاتبة إلى مساءلة الحاضر والماضي في وقت واحد، بمعطياتهما معاً، وإجراء مناوشات شعرية وجدلية عميقة بينها وبين دوستويفسكي على كل المستويات. وتتخذ هذه الحوارات كلها اتجاهاً أحادياً (أحاديثها الشخصية إليه)، ولكنها تنفتح ضمنياً على ردوده وإجاباته المتوقعة والمسكوت عنها، وذلك من خلال الإلمام الثقافي والمعرفي لديها ولدى القارئ بمؤلفات الأديب الروسي وسيرة حياته كواحد من أبرز الشخصيات الأدبية والفكرية والفلسفية في القرن الـ19.
تستلهم نهال النجار، صاحبة المجموعة الشعرية "سريالية الملامح"، روح دوستويفسكي في فهمها واستكشافاتها لأغوار النفس البشرية، ليست كروائية استقصائية وفيلسوفة ذات نزعة وجودية مثله، وإنما كشاعرة مشغولة بدواخلها ومعنية بالهامشي من الأمور والمواقف والأحداث وركام التفاصيل اليومية في المقام الأول. زادها الأساس هو العشق المتأجج في صدرها، والملكات الأنثوية الاستبصارية، والرغبة الجامحة في تغيير الواقع الكابوسي الخانق من حولها، ولو من خلال أحلامها فحسب، أو "علبها المغلقة" كما تسميها، وهل رسائلها إلى دوستويفسكي إلا جزء من هذه الأحلام التي لا تفرط فيها؟ تقول في إحدى رسائلها إليه "أنت كثير جداً، وأنا في دوامة الحياة أفقدني تدريجاً. في كل يوم أفقد شيئاً من وجهي، عيوناً، أنفاً، فماً. أفقد أشياء من روحي، مشاعري، أحاسيسي، كلما ابتعدت عن طفولتي ازدادت مساحات الفقد، وتغيرت".
وتتحول حالات العشق، أو نوباته بتعبير أدق، لدى نهال النجار إلى طوفان هادر من الاعترافات وتعرية الذات وإعادة صياغة العلاقة مع الأنا الداخلية، والآخر، والعالم "لم يكن في حياتي سوى إعادة هيكلة هذا الرأس". ومن ذلك البوح السري، ما تقر به في شأن أنها ليست امرأة ذكية، وأنها ربما تخسر كثيراً من أجل عاطفتها، "لكنني أحبني وأنا أحب! وحين أحب، أخجل كثيراً، أطيل النظر في الجماد، في الأرض، في سقف الغرفة، وربما في مسمار وقع سهواً، أطيل النظر في كل الأشياء، سوى عينيه!".
ولأن الوحدة أقسى ما في الوجود، فإن المشاركة التي تحققها الكاتبة برسائلها إلى دوستويفسكي تفكك تلك الوحدة، وتصهرها، فتغدو الذات بمأمن من التجمد، وبمعزل عن العدم، وتنمو فيها براعم الشجاعة ومواجهة الانكسار كنباتات تلائمها الظلال وأشعة الشمس على السواء "لست أتقبل الهزيمة بسهولة ولا بغير سهولة، إن الغريق يتشبث بقشة مهماً بلغت درجة عزوفه عن الحياة".