Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من بلفور إلى ترمب... وعود صنعت مأساة فلسطين

كما في الأمس كذلك اليوم هناك توظيف غربي للمتغيرات الإقليمية

(من اليسار) اللوردات إدموند ألنبي وآرثر بلفور والسير هربرت صموئيل في الجامعة العبرية عام 1925 (مكتبة الكونغرس)

ملخص

طبيعة المشروع الغربي في منطقة الشرق الأوسط اختلف، في حين كان وعد "بلفور" مشروعاً استيطانياً استراتيجياً، والهدف اليوم يتركز على احتواء إيران، وليس تقسيم المنطقة من جديد، على رغم أن بعض المشاريع تتحدث عن خرائط جديدة.

توالت التنديدات في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعد تصريحاته بإقامة دولة فلسطينية في السعودية، والتي أثارها عبر "القناة الـ14" الإسرائيلية، في موازاة ردود فعل رسمية وشعبية رافضة في العالم العربي وكذلك غرباً. وكان نتنياهو خلال مقابلته الإعلامية أشار إلى إمكانية إقامة دولة فلسطينية في الأراضي المملكة مستنداً إلى اتساع مساحتها. ونقلت صحيفة "جيروزاليم بوست" قوله في المقابلة "إن السعوديين قادرون على إنشاء دولة فلسطينية في السعودية، فهم يملكون كثيراً من الأراضي هناك". وفي إجابة عن سؤال حول التطبيع مع السعودية بشرط الموافقة على مطلبها بإقامة دولة فلسطينية، قال نتنياهو "لن يتوصل إلى اتفاق من شأنه تعريض دولة إسرائيل للخطر".

الشعب الفلسطيني صاحب حق في أرضه

ردت وزارة الخارجية السعودية على كلام نتنياهو مباشرة وأصدرت بياناً أعربت فيه عن رفضها القاطع لتصريحاته، معتبرة أنها تهدف إلى "صرف النظر عن الجرائم المتتالية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي تجاه الأشقاء الفلسطينيين في غزة، بما في ذلك ما يتعرضون له من تطهير عرقي". وشدد البيان على أن "الشعب الفلسطيني الشقيق صاحب حق في أرضه، وليسوا دخلاء عليها أو مهاجرين إليها يمكن طردهم متى شاء الاحتلال الإسرائيلي الغاشم".

بدوره وصف الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط تصريحات نتنياهو بأنها "انفصال تام عن الواقع"، وأنها "أوهام لا وجود لها إلا بأذهان من ينطقون بها". كما دانت مصر والأردن التصريحات، واعتبرتها مصر "تعدياً سافراً على سيادة المملكة"، بينما أكد الأردن رفضه أي محاولات لتهجير الفلسطينيين أو توطينهم خارج أراضيهم.

وأعربت دول مجلس التعاون الخليجي، بما في ذلك الإمارات والكويت وقطر، عن رفضها تصريحات نتنياهو مؤكدة على مركزية القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني. 

"النكتة السخيفة"

لم يقتصر الأمر على التنديدات العربية، بل صدرت ردود فعل معارضة في الداخل الإسرائيلي لتصريحات نتنياهو، وأثارت انتقادات من بعض السياسيين الإسرائيليين الذين اعتبروها غير مسؤولة، وقد تضر بالعلاقات الإقليمية. وتناولت وسائل الإعلام الإسرائيلية التصريحات بحذر، مشيرة إلى أنها قد تؤثر سلباً في مساعي التطبيع مع الدول العربية. ووصفت مراسلة صحيفة "يديعوت أحرونوت" للشؤون العربية ليؤور بن أري، تصريحات نتنياهو بـ"النكتة السخيفة". وتابعت أن تصريحات نتنياهو أحدثت ردة عكسية ضد إسرائيل، وأسهمت في توحيد العالمين العربي والإسلامي حول طرح سياسي، وتأكيد الموقف المبدئي أن تحقيق السلام يكون من خلال حل الدولتين. 

وأتت تصريحات نتنياهو عقب تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال لقاء جمع الاثنين في البيت الأبيض، اقترح ترمب خلاله نقل سكان غزة إلى مصر والأردن، وأن يصبح القطاع الفلسطيني ملكية أميركية، وهو ما رفضته الدولتان، ودانته مواقف عربية ودولية وشعبية عديدة. وقال نتنياهو إن اقتراح الرئيس الأميركي حول سيطرة الولايات المتحدة على غزة ونقل سكانه هو "ثوري"، مشيراً إلى أن ترمب "عازم على تنفيذ خطته". 

 

تصريحات نتنياهو تعوق تقدم مسار السلام

في المحصلة عكست تصريحات نتنياهو وكذلك ترمب توجهاً قد يؤدي إلى تداعيات سلبية على العلاقات الإسرائيلية - العربية ويعقد مساعي التطبيع ويقوض جهود السلام في المنطقة. ومن الضروري أن تتبنى القيادة الإسرائيلية مقاربة أكثر توازناً وواقعية تأخذ في الاعتبار حقوق الشعب الفلسطيني وتطلعات الدول العربية لتحقيق سلام شامل وعادل، لأن تلك التصريحات ستعوق تقدم مسار السلام مع الدول العربية، بخاصة السعودية التي تؤكد ضرورة إقامة دولة فلسطينية كشرط للتطبيع. أيضاً قد تدفع هذه التصريحات دولاً عربية أخرى إلى إعادة النظر في علاقاتها مع إسرائيل خوفاً من تداعيات مشابهة.

"صفقة القرن" و"وعد بلفور"

من هذه الزاوية أعاد "وعد ترمب" تسليط الضوء على "وعد بلفور"، وبعد مرور أكثر من 100 عام، جاء وعد الرئيس الأميركي، الذي تجسد في إطار ما يعرف بـ"صفقة القرن" في الـ28 من يناير (كانون الثاني) 2020، وهي خطة سلام اقترح فيها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتوسيع السيادة الإسرائيلية على أجزاء من الضفة الغربية، مقابل دولة فلسطينية بشروط مشددة. 

وجاء هذا الوعد في سياق سياسي داخلي ودولي حساس، حينها كان ترمب يواجه معركة إعادة انتخابه ويريد كسب دعم "اللوبي الصهيوني"، و"المسيحيين الإنجيليين" الذين يدعمون إسرائيل بشدة. أيضاً نتنياهو كان يواجه قضايا فساد، وكان في حاجة إلى انتصار سياسي يعزز موقفه الداخلي. وكانت الصفقة تهدف إلى إعطاء الشرعية لتوسيع المستوطنات وضم مناطق من الضفة الغربية، ولكن كما في "وعد بلفور"، لم يستشر الفلسطينيون بصورة جادة، وتم تجاهلهم، وبطبيعة الحال كانت الخطة منحازة بالكامل لمصلحة إسرائيل.

التشابهات والاختلافات في الظروف 

"وعد بلفور" الصادر في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1917، كان إعلاناً بريطانياً عبر رسالة وجهها وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور إلى اللورد ليونيل روتشيلد، يعبر فيها عن دعم لندن لإنشاء "وطن قومي لليهود في فلسطين". وجاء هذا الوعد في سياق الحرب العالمية الأولى وتنافس القوى الاستعمارية على النفوذ في الشرق الأوسط. بريطانيا التي كانت تخوض حرباً ضد الدولة العثمانية، والتي كانت تسيطر على فلسطين، مثَّل بالنسبة إليها دعم الحركة الصهيونية وسيلة لكسب دعم يهود العالم، بخاصة يهود أميركا وروسيا. وهذا لا يبتعد عن المصالح في تقسيم تركة الدولة العثمانية، إذ اتفقت بريطانيا وفرنسا على تقسيم الشرق الأوسط بموجب اتفاقية "سايكس بيكو" (فرنسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس) 1916، وهي معاهدة سرية بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية حينها وإيطاليا على أقسام منطقة "الهلال الخصيب" (سوريا ولبنان والعراق وفلسطين والأردن) بين فرنسا وبريطانيا، ولتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا وتقسيم الدولة العثمانية التي كانت المسيطرة على تلك المنطقة في الحرب العالمية الأولى.

واعتمدت الاتفاقية على فرضية أن الوفاق الثلاثي (التفاهم غير الرسمي بين الإمبراطورية الروسية والجمهورية الفرنسية الثالثة والمملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا)، سينجح في هزيمة الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، ويشكل جزءاً من سلسلة من الاتفاقات السرية التي تأمل في تقسيمها، و"وعد بلفور" كان جزءاً من هذا المشروع. رافق ذلك ضغط اللوبي الصهيوني والحركة الصهيونية بقيادة حاييم وايزمان التي مارست ضغطاً قوياً على بريطانيا، وطرحت فلسطين كوجهة مناسبة بسبب الرواية الدينية والتاريخية لإسرائيل الكبرى، أو "أرض الميعاد"، لكن الوعد لم يأخذ رأي السكان الأصليين بالاعتبار، ولم يذكر الفلسطينيين، وتم تجاهل حقهم في تقرير المصير. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ما أوجه التشابه بين "الوعدين؟"

على مدار أكثر من قرن ظل "وعد بلفور" رمزاً لتدخل القوى الكبرى في تقرير مصير الشعوب، إذ منحت بريطانيا، من دون وجه حق، اليهود وعداً بإقامة "وطن قومي"، متجاهلة حقوق أصحاب الأرض الأصليين. وبعد مرور أكثر من 100 عام، جاء وعد الرئيس الأميركي ترمب، الذي تجسد في "صفقة القرن"، ليعيد التاريخ نفسه في سياق مختلف، لكن بالمنطق الاستعماري ذاته، ترسيخ الاحتلال على حساب الفلسطينيين عبر قرارات أحادية الجانب. وتجاهل الوعدان إرادة الفلسطينيين في كونهما شرعا الاحتلال قانونياً وسياسياً، مستندين إلى القوة لا إلى الحق. كلاهما جاء في لحظات ضعف عربي وتفكك، ذلك أن "وعد بلفور" صدر في خضم الحرب العالمية الأولى، حيث كانت المنطقة خاضعة للانتداب، بينما جاء "وعد ترمب" وسط صراعات إقليمية وانقسامات فلسطينية. كما أن تداعيات الوعدين لم تقتصر على الجانب السياسي، بل انعكست على الواقع الديموغرافي والجغرافي، عبر تهويد الأرض وتوسيع الاستيطان، مما يجعل حل الدولتين أكثر تعقيداً، لكن على رغم التشابه فإن هناك اختلافاً رئيساً، جاء "وعد بلفور" كبداية للمشروع الصهيوني المدعوم دولياً، وعام 1917 لم تكن بريطانيا متأكدة من نجاح المشروع الصهيوني في حين أن "وعد ترمب" جاء بعد قرن من تأسيس إسرائيل، ومجرد تعزيز لدولة قائمة بالفعل، أضف إلى أن "وعد بلفور" صدر عن قوة استعمارية كانت تسيطر فعلياً على فلسطين، بينما جاء "وعد ترمب" من قوة عظمى داعمة لإسرائيل، وليست صاحبة سلطة مباشرة عليها. إلا أن النتيجة واحدة، تثبيت وجود الاحتلال وتقويض الحقوق الفلسطينية، مما يجعل الوعدين وجهين لعملة واحدة في سجل التآمر على القضية الفلسطينية. 

إعادة رسم الخرائط السياسية وفقاً لمصالح القوى الكبرى

تتشابه الظروف الإقليمية والدولية المحيطة بالوعدين، "وعد بلفور" جاء لتقاسم التركة العثمانية في سياق تقاسم القوى الاستعمارية المنطقة بعد انهيار الدولة العثمانية، مما أدى لاحقاً إلى تأسيس كيان صهيوني يخدم مصالح بريطانيا والغرب. واليوم ومع اندحار المحور الإيراني، هناك محاولات لإعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة، خصوصاً بعد التطورات والهزائم التي لحقت بأذرع طهران، أي هزيمة "حزب الله" أمام إسرائيل، وسقوط النظام السوري، والحرب المدمرة في غزة، والاغتيالات التي طاولت قادة "حماس"، والتطورات في العراق، واليمن. ومما لا شك فيه أن هناك أهدافاً للقوى الكبرى واللاعبين الإقليمين لتقاسم النفوذ الإيراني من دمشق، مروراً ببيروت وبغداد والداخل الفلسطيني.

تشكيل المنطقة بطرق لا تخدم طهران

كما في الأمس كذلك اليوم هناك توظيف غربي للمتغيرات الإقليمية. ولم يكن "وعد بلفور" فقط لمصلحة اليهود، بل كان جزءاً من استراتيجيات بريطانيا لضمان نفوذها في الشرق الأوسط. واليوم، هناك تحركات أميركية وغربية تسعى إلى إعادة ترتيب المشهد الإقليمي بما يخدم مصالحها، سواء عبر اتفاقات التطبيع، ودعم قوى محلية ضد النفوذ الإيراني، أو الضغط على حلفاء طهران مثل "حزب الله" والحوثيين. أيضاً عام 1917، كان العرب في مرحلة ضعف، ولم يمتلكوا القدرة على فرض أجنداتهم في ظل الهيمنة البريطانية والفرنسية. واليوم، وعلى رغم امتلاك إيران وحلفائها أدوات قوة، فإن هناك مؤشرات إلى التراجع بسبب الضغوط الاقتصادية والعسكرية، مما قد يعيد تشكيل المنطقة بطرق لا تخدم طهران، ولكن على رغم أوجه التشابه هناك أوجه للاختلاف، من حيث طبيعة القوى الكبرى الفاعلة. في ذلك الزمن كانت بريطانيا وفرنسا تقتسمان النفوذ، ولكن اليوم تتنافس الولايات المتحدة وروسيا والصين على النفوذ الدولي مع تراجع الدور الأوروبي التقليدي. أيضاً اختلف اللاعب الإقليمي الأساس، ففي عام 1917 لم يكن هناك من محور إيراني، بل كانت الدولة العثمانية القوة الإسلامية الرئيسة، ومع هذا فإن إيران ليست وحدها في الحلبة، فهناك قوى أخرى تسعى إلى تعزيز نفوذها.

وفي السياق لا بد من الإشارة إلى أن طبيعة المشروع الغربي في المنطقة اختلفت في حين كان "وعد بلفور" مشروعاً استيطانياً استراتيجياً، فإن الهدف اليوم يتركز على احتواء إيران وليس تقسيم المنطقة من جديد، على رغم أن بعض المشاريع تتحدث عن خرائط جديدة.

في النتيجة تتشابه الأساليب والمصالح الدولية، لكن السياق العام مختلف. فإذا كان "وعد بلفور" أدى إلى تأسيس كيان جديد، فإن التطورات اليوم قد تؤدي إلى إعادة ترتيب الأدوار وليس إنشاء كيان جديد بالكامل. ما يحدث هو محاولة لضبط إيقاع النفوذ الإيراني، وليس استئصاله نهائياً، لأن إيران تظل لاعبة رئيسة بغض النظر عن التحديات التي تواجهها.

الوعدان

هناك تشابه كبير بين الوعدين، فكلاهما جاء في سياق دعم غربي لإسرائيل على حساب الفلسطينيين، وكلاهما تجاهل الحق الفلسطيني في تقرير المصير، ولكنَّ هناك اختلافاً جوهرياً، فـ"وعد بلفور" كان مدفوعاً بحسابات استراتيجية بريطانية في الحرب العالمية الأولى، بينما "وعد ترمب" كان مرتبطاً بالانتخابات الداخلية الأميركية. إجمالاً، يمكن القول إن "وعد ترمب" هو "امتداد" لـ"وعد بلفور"، لكنه ليس نقطة البداية، بل تتويج لمسار طويل من دعم الغرب للمشروع الصهيوني على حساب الفلسطينيين.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل