ملخص
صباح الـ15 من يناير الماضي خرج الزوجان برفقتهما الطفلة الرضيعة وتوجها إلى وهبة (عمة تالا) وتركاها في عهدتها، وبعد ساعات وعند وصولهما برفقة العشرات من المحتجين المدنيين إلى منطقة سد تشرين كان الحظ السيئ ينتظرهما.
منذ منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي أصبحت تالا ذات الأشهر التسعة يتيمة بعدما قتل والداها معاً في قصف تركي على سد تشرين، حين كانا ضمن وفود المدنيين المحتجين على قصف الفصائل السورية الموالية لتركيا والطيران التركي سد تشرين.
في مدينة كوباني المشهورة بمقارعتها تنظيم "داعش" والمهددة بغزو تركي جديد، تسكن عائلة تالا وذووها حيث يعمل والدها أدهم علي (37 سنة) مهندساً معمارياً بينما كانت والدتها هيزا محمد (22 سنة) تعمل في إحدى مؤسسات الإدارة الذاتية التربوية.
وفي اليوم السابق لمقتلهما زار والدا تالا عمتها وهبة (45 سنة) في منزلها بالمدينة وطلبا منها أن تعتني بابنتيهما في غيابهما، فالزوجان قررا الانضمام إلى ركب المدنيين المحتجين على القصف التركي على سد تشرين، وقالت "تسبب القصف التركي في قطع المياه والكهرباء عن مدينتنا"، بهذا الكلام كان أدهم أقنع أخته بدافعه إلى الاحتجاج في سد تشرين الذي يبعد عن كوباني نحو 55 كيلومتراً وتعتمد عليه المنطقة في الكهرباء ومياه الشرب والري.
في حديثها إلى "اندبندنت عربية" تخبرنا العمة وهبة عن مدى اهتمام الوالدين الشابين بطفلتهما الرضيعة ومحبتهما لها، "الكل يعلم كم كان أدهم وهيزا مهتمين ومتعلقين بطفلتهما تالا"، لكنها تقول إن أخاها وزوجته لم يكن لهما أي عمل هناك في السد سوى الاحتجاج السلمي ضد القصف التركي الذي يطاول سد تشرين.
وتلبية لنداء الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا ومنذ الثامن من يناير الماضي يتوجه المدنيون من مناطق مختلفة في شمال شرقي سوريا إلى سد تشرين للاحتجاج على قصف تركيا والفصائل السورية المدعومة منها، الذي جاء استكمالاً للعملية العسكرية التي شنتها تلك الفصائل في الـ30 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 على منطقة تل رفعت ومن ثم منبج بريف حلب الشمالي والشرقي، وتركزت العمليات لاحقاً في ريف منبج المحاذي لسد تشرين، إلا أن المعارك والمواجهات المباشرة تبعد عن السد بمسافات مختلفة تراوح ما بين ثمانية و13 كيلومتراً، في حين أن منطقة السد ومحيطه تُستهدف بالقذائف المدفعية والطائرات الحربية والمسيرة وفق المعلومات الميدانية.
خروج إلى القدر
صباح الـ15 من يناير الماضي خرج الزوجان برفقتهما الطفلة الرضيعة وتوجها إلى وهبة (عمة تالا) وتركاها في عهدتها، وبعد ساعات وعند وصولهما برفقة العشرات من المحتجين المدنيين إلى منطقة سد تشرين كان الحظ السيئ ينتظرهما فوق مياه نهر الفرات، حيث السد الاستراتيجي لدى السوريين ومربط الصراع الدائر حالياً بين قوات سوريا الديمقراطية "قسد" وفصائل الجيش الوطني المدعوم من تركيا، التي بات بعضها محسوباً على وزارة الدفاع السورية الجديدة بعد "مؤتمر النصر" الذي عقد في الـ29 من يناير الماضي بدمشق من قبل عدد من الفصائل المعارضة لنظام الأسد واتخذ فيه قرار تعيين أحمد الشرع رئيساً لسوريا، قصف السد بطائرات وقذائف بصورة مباشرة مما أدى إلى مقتل ستة مدنيين وجرح 16 آخرين إضافة إلى دمار لحق بسيارات المحتجين المتجمعين فوق هيكل السد وكذلك سيارات الإسعاف وغيرها من الأضرار التي لحقت بالمكان، وكان أدهم علي وهيزا محمد والدا تالا من بين القتلى.
اتهامات متبادلة
تتهم الإدارة الذاتية تركيا وفصائل الجيش الوطني المدعومة منها باستهداف المدنيين وقتلهم خصوصاً في سد تشرين ومناطق أخرى، وبحسب الإحصاءات الرسمية للضحايا في سد تشرين فإن 24 شخصاً قتل وأصيب 221 آخرون وجميعهم من المحتجين المدنيين، إضافة إلى سبعة صحافيين منذ الثامن من يناير الماضي مع توجه أول قافلة للمحتجين المدنيين، حيث قصفوا قبل وصولهم إلى جسم السد.
في حين أن الضربات توالت في فترات وأيام لاحقة وحصدت أرواح أشخاص آخرين منهم الفنان المسرحي الكردي جمعة خليل المعروف بـ"بافي طيار" والرياضي كيفو عثمان، إضافة إلى استهداف طواقم طبية سلطت الضوء عليها منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقريرها المعنون بـ"جرائم حرب مفترضة على يد قوات تدعمها تركيا" والصادر في الـ30 من يناير الماضي، في حين اتهمت الحكومة التركية قوات سوريا الديمقراطية و"وحدات حماية الشعب" باستخدام المدنيين دروعاً بشرية عند سد تشرين.
وقالت هبة زيادين وهي باحثة أولى في شؤون الشرق الأوسط في "هيومن رايتس ووتش" في تقرير منظمتها "أظهر الجيش الوطني السوري والقوات التركية نمطاً واضحاً ومقلقاً يتمثل في الهجمات غير القانونية ضد المدنيين والأعيان المدنية، ويبدو أن الطرفين يحتفيان بهذه الهجمات"، وأضافت "بصفتها الداعم الرئيس للجيش الوطني السوري، تركيا ملزمة ردع الانتهاكات التي يمارسها الجيش الوطني السوري، وإلا فإنها تخاطر بالتواطؤ في جرائمه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بحسب المنظمة، فإن سد تشرين أصبح نقطة محورية للقتال بين تحالف تركيا والجيش الوطني السوري وقوات سوريا الديمقراطية، وعلى أثره توقف السد عن العمل منذ الـ10 من ديسمبر (كانون الأول) 2024 نتيجة تضرره أثناء الاشتباكات، مما حرم قرابة 413 ألف شخص من المياه والكهرباء في منطقتي منبج وكوباني، ووفقاً لـ"منتدى المنظمات غير الحكومية في شمال شرقي سوريا"، وهو تحالف من المنظمات الدولية العاملة في الشمال الشرقي، ثمة حاجة إلى إصلاحات عاجلة لاستعادة الخدمات الأساس وحماية سبل العيش.
وكذلك حذرت "اللجنة الدولية للصليب الأحمر" من أنه في حال تضرر السد، "ستكون العواقب الإنسانية والدمار الناتج من إطلاق مياه الفيضانات مدمرة وقد تسبب أضراراً جسيمة بالبيئة".
تالا وحيدة في وجه الزمن
بين هذا الجدل والاتهامات المتبادلة بقيت تالا وهي لم تبلغ الشهر الـ10 من عمرها بعد يتيمة الأبوين وفي يوم واحد، أثناء تشييع والديها مع ضحايا جراء القصف ذاته وفي مقبرة الشهداء في مدينة كوباني، وضعت تالا على نعشي والديها والأكف تحملها من حضن إلى حضن ويتورد خداها أحياناً برداً وتارة خوفاً من الجمع الغفير الذي يحيط بها، في حين أن العمة وهبة كانت تحتضنها بين الفينة والأخرى إلى جانب أقارب آخرين يشفقون على الطفلة الرضيعة ومصيرها المجهول من دون أبوين.
ما إن انتهت مراسم الدفن في المقبرة إلا وعادت وهبة علي بابنة أخيها تالا إلى منزل الوالدين القتيلين، حيث كانت تعيش معهما جدة تالا من أبيها، ومنذ تلك اللحظة باتت وهبة مسؤولة عن رعاية الطفلة الرضيعة والعودة مجدداً للاعتناء والاهتمام بوالدتها الثكلى التي تبلغ من العمر نحو 75 سنة، وقالت "إن الأمر ثقيل وصعب عليَّ كثيراً، فمنذ أن قتل أخي وزوجته تفرغت للاهتمام بوالدتي المسنة وتالا".
حيرة العمة
لقد تأثرت حياة العمة أيضاً بفقدانها أخيها وتراكمت عليها أعباء غير متوقعة، فوهبة لديها عائلة مكونة من أربعة أطفال وتنتظر استكمال معاملة لم الشمل في إحدى الدول الأوروبية التي من المقرر أن تسافر خلال الأشهر القليلة المقبلة وفق ما تطلبه الإجراءات الرسمية، وبمشاعر مختلطة ما بين الحزن والفقدان لأخيها المهندس الذي كان سنداً وعوناً لها والحنان على أطفالها الذين هم أيضاً في حاجة إليها، فهي تشعر بالحيرة تجاه مستقبلها وعائلتها وابنة أخيها اليتيمة التي تبنتها وباتت ترعاها مع أطفالها، فأمام رغبتها باصطحابها معها أينما كانت تشعر وهبة بصعوبة إمكانية قبول السفارة الغربية بضمها إلى عائلتها والسفر بها وبصوت وشفاه مرتجفة تقول "لن أترك تالا وحيدة أريدها معي ولا أعرف ممن أطلب المساعدة".
بعد نحو أسبوعين من مقتل والديها تألف تالا وجه عمتها وباتت مرتبطة بها وتعودت على العيش معها شيئاً فشيئاً، تقول عمتها والدمع محبوس في عينيها "لا يمكنني ملء مكانة أمها لكنها تنام معي وباتت تعرفني وحدي وكأني أمها، لكنني سأرعاها قدر استطاعتي وكأني أمها".