ملخص
حدث الشرخ الأول بين "طالبان" وباكستان عندما زادت وتيرة أعمال العنف في المناطق الحدودية الباكستانية مما أشار إلى أن الخلايا النائمة لحركة "طالبان" الباكستانية عاودت نشاطها بكل قوة بعد سيطرة الحركة الأفغانية على كابول، ورغم إثارة الأمر من الجانب الباكستاني وتوقعه التحرك السريع من حكومة "طالبان" فإن الأخيرة تخلت عن مسؤوليتها ووصفت الأمر بالشأن الداخلي لباكستان.
لا تزال مشاهد دخول مقاتلي "طالبان" المسلحين القصر الرئاسي في العاصمة الأفغانية كابول وترحيب الشعب والقيادات الباكستانية بها على مواقع التواصل الاجتماعي حاضراً في وجدان المراقبين لا سيما أن العلاقة بالطرفين أخذت منحىً سيئاً منذ ذلك الحين حتى وصلت إلى حد تبادل إطلاق النار بين الجانبين.
يبدو الأمر محيراً لمن يتابع الأحداث من خلال وكالات الأنباء العالمية التي تصف باكستان وأجهزتها الأمنية كداعم أساس لـ"طالبان" أفغانستان، إذ كيف تحول "أصدقاء وقت الشدة" إبان حرب الولايات المتحدة على الإرهاب وسقوط حكومة "طالبان" إلى خصوم يتبادلون الاتهامات وإطلاق النيران بعد عودة "طالبان" إلى سدة الحكم في أفغانستان.
نبحث في هذا التقرير عن طبيعة العلاقة بين حكومة باكستان و"طالبان" الأفغانية وعن أسباب تدهور العلاقات في الآونة الأخيرة.
جذور التوتر والماضي المتشابك
تتشارك باكستان وأفغانستان حدوداً برية بطول 2600 كيلومتر، وتعتمد أفغانستان على جارتها بصورة أساسية في الوصول إلى الأسواق العالمية لكونها "دولة حبيسة"، وتربط القبائل الحدودية على الجانبين أواصر الدم والتاريخ والثقافة المشتركة، إلا أن العلاقة بين الدولتين كانت متوترة في غالب أوقاتها ومن الصعب فهم علاقة باكستان بـ"طالبان" الأفغانية في غير هذا السياق الممتد عبر التاريخ الحديث للدولتين.
الاعتراض الوحيد في جمعية الأمم المتحدة على قرار استقلال باكستان وكونها دولة ناشئة ذات سيادة مستقلة كان من جانب جارتها أفغانستان التي رفضت القبول بالحدود الدولية التي تفصل الدولتين، واستمرت معاناة باكستان في أيامها الأولى مع أفغانستان بسبب دعم الأخيرة الحركات التي تدعو إلى انفصال مناطق البشتون عن باكستان. وما إن عادت المياه إلى مجاريها وتحسنت العلاقات الثنائية وتبادل الرؤساء الزيارات حتى بدأت سلسلة الانقلابات الدامية في أفغانستان، ووصل الحال إلى تدخل الاتحاد السوفياتي ونزوح ملايين الأفغان إلى باكستان.
وتمثل هذه المرحلة نقطة البداية للعلاقة العميقة بين باكستان والحركات الإسلامية الأفغانية وتدخلها المباشر في الشؤون الأفغانية، إذ دعمت باكستان الجماعات الإسلامية المسلحة أو "المجاهدين" في حربهم ضد الاتحاد السوفياتي بالتعاون مع الولايات المتحدة. لم يكن لـ"طالبان" وجود حينذاك، لكن الحرب الأهلية بين الفصائل الأفغانية بعد مغادرة السوفيات سمح للملا محمد عمر وجماعته الناشئة المكونة من المقاتلين المحليين بالبروز على المستوى المحلي والسيطرة في الإقليم تلو الآخر حتى دخول كابول عام 1996 وتشكيل حكومة سميت لاحقاً "الإمارة الإسلامية"، لتكون باكستان إحدى الدول الثلاثة التي تعترف بها في العالم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"طالبان" صديقة باكستان؟
ومع صعود "طالبان" إلى السلطة في نهاية القرن الـ20، عادت آمال باكستان بتكوين علاقة جيدة مع جارتها خصوصاً أن بعض قيادات "طالبان" تلقوا تعليماً في المدارس الدينية الباكستانية إلى جانب دور باكستان الرئيس في دعم "المجاهدين" ضد الاتحاد السوفياتي.
هذه العوامل إضافة إلى اعتراف باكستان بحكومة "طالبان" دفعت كثيرين إلى الاعتقاد بأن الأجهزة الأمنية الباكستانية واستخباراتها القوية كانت تستخدم "طالبان" للتلاعب بالمشهد الأفغاني وأن "طالبان" تعتمد على باكستان بشكل أساسي، لكن الحقيقة هي أن "طالبان" كانت منذ بادئ الأمر كياناً مستقلاً في تحركاتها وقراراتها مع حفاظها على علاقة أخوية بباكستان خلال فترة حكمها.
ومن المثير أن باكستان التي كانت تعد داعمة لـ"طالبان" وقفت مع الولايات المتحدة أثناء حملتها العسكرية على أفغانستان عقب أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001، ووفرت قواعدها الجوية وطرقها البرية لقوات التحالف لشن الحرب على حكومة "طالبان". ليس هذا فحسب، بل سلمت باكستان السفير الرسمي لحكومة "طالبان" لدى باكستان، الملا ضعيف للولايات المتحدة في سابقة تاريخية ومنافية لأعراف الدبلوماسية الحديثة.
ويرى الصحافي المتخصص في الشؤون الأفغانية، طاهر خان، خلال حديثه مع "اندبندنت عربية"، أن "طالبان لم تثق بباكستان أبداً بسبب وقوف الأخيرة مع الولايات المتحدة واعتقالها عدداً من قيادات طالبان مثل الملا عبدالغني برادر الذي لم يطلق سراحه إلا بعد بدء محادثات الدوحة والملا عبيدالله الذي توفي في السجون الباكستانية".
ورغم اتهام المسؤولين الأميركيين والأفغان الأجهزة الأمنية الباكستانية بالازدواجية والسماح سراً لـ"طالبان" الأفغانية بالتحرك عبر الحدود، وجمع التبرعات، وتشكيل مجلس شورى في مدينة كويتا الباكستانية، وتوفير الدعم الاستخباراتي لهم في بعض الأحيان، فإن طاهر خان يعزو ذلك كله إلى التقارب الجغرافي بين البلدين وسهولة الحركة على جانب الحدود. ويرى أن "باكستان لم تدعم طالبان، بل كانت حليفة الولايات المتحدة طوال أعوام وجودها في أفغانستان".
لماذا العداء الآن؟
لا شك أن باكستان رحبت بعودة "طالبان" إلى الحكم عام 2021 وحاولت فتح صفحة جديدة مع أفغانستان. وباشرت الإدارة الجديدة في أفغانستان أيضاً بإصدار تصريحات إيجابية حيال الجانب الباكستاني وتبادل الطرفان زيارات للمسؤولين والوزراء والقيادات العسكرية.
وحدث الشرخ الأول عندما زادت وتيرة أعمال العنف في المناطق الحدودية الباكستانية مما أشار إلى أن الخلايا النائمة لحركة "طالبان" الباكستانية عاودت نشاطها بكل قوة بعد سيطرة "طالبان" الأفغانية على كابول، ورغم إثارة الأمر من الجانب الباكستاني وتوقعه التحرك السريع من حكومة "طالبان" فإن الأخيرة تخلت عن مسؤوليتها ووصفت الأمر بالشأن الداخلي لباكستان.
ويبدو أن إسلام آباد أخطأت في حساباتها عندما توقعت أن "طالبان" الأفغانية ستساعد في حل مشكلاتها مع "طالبان" الباكستانية التي تشن حرباً شرسة على المؤسسات الباكستانية، خصوصاً أن "طالبان" الأفغانية يربطها تاريخ الكفاح ضد السوفيات والأيديولوجيا المشتركة، بحركة "طالبان" الباكستانية، لذا من الصعب أن تخاطر "طالبان" الأفغانية بأمنها الداخلي وعلاقتها مع الفصائل المسلحة من أجل باكستان.
ومع ارتفاع عدد القتلى في باكستان إثر الهجمات الإرهابية التي تشنها "طالبان" الباكستانية وعدم استجابة الحكومة الأفغانية لمطالب باكستان بأخذ إجراءات صارمة ضد الحركة، زادت حدة التصريحات بين الجانبين وحلت الاتهامات محل الترحيب وكشف رفع غطاء الحفاوة والتكريم عن تاريخ طويل من انعدام الثقة والخيانات بين الجانبين. وسرعان ما انعكس برود العلاقة على الأرض إذ أعلنت باكستان ترحيل اللاجئين الأفغان وإغلاق الحدود لتتفاقم الأزمة الاقتصادية في أفغانستان مع عودة مئات آلاف اللاجئين من جهة وتأخر وصول السلع من جهة أخرى.
ورغم تأكيد المسؤولين ضرورة تحسين العلاقات الثنائية، فإن الحال الأمنية في المناطق الحدودية الباكستانية تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. وتنشر حركة "طالبان" الباكستانية مقاطع تظهر مقاتليها وهم يتجولون بحرية في المقاطعات الباكستانية مما يدفع القيادة الباكستانية إلى اتخاذ إجراءات عسكرية صارمة واستهداف معاقل الحركة داخل الحدود الأفغانية.
من جانبها تؤكد إدارة "طالبان" احترام سيادة أفغانستان وتعتزم على الرد في حال حدوث انتهاك لها، وهذا ما حدث في الشهر الأخير عندما تبادلت القوات الباكستانية والأفغانية النيران على الحدود سقط على إثرها قتلى وجرحى من الجانبين، إضافة إلى ذلك تتجه "طالبان" إلى الدول الأخرى في المنطقة مثل الصين لتخفيف اعتمادها التجاري والدبلوماسي على باكستان. وأثار اجتماع وزير خارجية "طالبان" أمير خان متقي مع مسؤول الخارجية الهندي فيكرام ميسري في الثامن من يناير (كانون الثاني) الماضي تساؤلات حول لجوء أفغانستان إلى خصم باكستان التاريخي في المنطقة بسبب خلافات أفغانستان مع إسلام آباد.
ويرى الصحافي طاهر خان أن خلافات الحكومة الباكستانية مع "طالبان" الأفغانية ليست محصورة بتعامل الأخيرة مع حركة "طالبان" الباكستانية، بل يمتد الأمر في رأيه إلى أبعد من ذلك مما يدفعه إلى الاعتقاد بأن العلاقة الثنائية بين البلدين لن تتحسن في قادم الأيام.