ملخص
يتساءل مراقبون للوضع في سوريا، كم من الوقت ستحتاج إليه السلطات الجديدة لتضبط ملف الأمن؟ ولماذا تتجاهل الإدارة السورية التعقيب على عمليات القتل والتعذيب؟
شهدت سوريا في خلال الأيام الماضية تسجيل أول حالة قتل تحت التعذيب في عهد الإدارة الجديدة، الضحية العشريني، لؤي طلال طيارة، يتحدر من واحدة من كبرى عائلات مدينة حمص، ووالدته من آل الأتاسي، أكبر عائلات سوريا التي منها أتى رؤساء جمهورية ورؤساء حكومات ووزراء خلال عصر المناخ الديمقراطي قبل استحواذ آل الأسد على السلطة، وكانت تشغل منصب عضو قيادة فرع حزب البعث في حمص حتى سقوط النظام.
ساعة واحدة
مقتل الشاب أثار زوبعة من الرفض والامتعاض والقلق في الشارع، إذ بدأت القصة بتوجيه مذكرة من النيابة العامة للقبض على الشاب أواخر الشهر الماضي، بتهمة حيازته أسلحة غير مرخصة وانتسابه لميليشيات "الدفاع الوطني"، وذلك لأنه لم يقم بإجراءات تسوية وضعه قانونياً.
وتوجهت دورية أمنية إلى منزله وحين لم يجدوه طلبوا من أهله إبلاغه بمراجعة مقرهم الأمني في فرع حزب المدينة، وبالفعل حين عاد الشاب للمنزل ذهب إلى المراجعة، لكن مراجعته لم تدم أكثر من ساعة واحدة ليتحول إلى جثة هامدة تحت ضراوة التعذيب الذي لم يفهم سببه بعد.
التفاعل الواسع للخبر وخصوصية العوائل المتضررة دفعت سريعاً رئيس جهاز الأمن العام في حمص إلى التصريح عبر وكالة الأنباء الرسمية "سانا" في شأن ملابسات القضية، مؤكداً حدوثها وشارحاً وقوع تجاوزات من بعض أفراد العناصر الأمنية في حق الفتى، مما أدى إلى وفاته على الفور ليصار إلى فتح تحقيق رسمي مباشرة وتوقيف جميع العناصر الأمنية المسؤولة عن الحادثة وتحويلهم إلى القضاء العسكري، مبيناً أن هذه الحادثة ستلقى تعاملاً جدياً وصارماً للغاية ولن يكون هناك تهاون في محاسبة المسؤولين.
وأشار مدير الأمن أيضاً إلى أنه لا تهاون في ما حصل، وأن التحقيق ونتائجه ستكون شفافة تماماً وستعلن فور الانتهاء منها مباشرة، مؤكداً أن ذلك الإجراء سيتخذ مع كل من تسول له نفسه التعدي على القانون.
المشكلة في المجرم أم في الإجرام؟
تكاد تكون هذه المرة الثانية التي تعقب فيها السلطات على حدث أمني، بعد مجزرة قرى فاحل والشنية ومريمين قبل أيام أيضاً، ويبدو أنه ثمة تطابق في شكل التصريحات ومحاسبة المتورطين وتحويلهم إلى القضاء وما إلى هناك، ولكن ما ينقص تلك الآلية هي الشفافية الفعلية في إعلان الدوافع التامة وأسماء المتورطين وأي قضاء عسكري يعمل والقضاء المدني نفسه معطل، في حين أن السلطات لا تألو جهداً في عرض أوجه "فلول النظام" حين يتم القبض عليهم. ليتحول السؤال نحو الشكل التالي: "هل المشكلة في هوية المجرم أم الإجرام نفسه يجب نبذه؟
البحث عن عقد اجتماعي
رسمياً لا تسعى السلطات الجديدة إلى قلق من أي نوع أو استفزاز للشارع، لكن ذلك يحصل يومياً، فأصوات الرصاص التي لا مبرر لها في المدن تكاد لا تتوقف، وحرق بعض المقدسات الدينية لعدد من الطوائف يحصل، وقبل يومين ارتكبت "عناصر إجرامية" مجزرة في قرية أرزة شمال حماة راح ضحيتها ثمانية مواطنين، وغيرها أيضاً.
كل ذلك الوبال يسقط على رأس الجمهورية الجديدة التي تسعى إلى كسب ود الخارج قبل تنظيم أمور الداخل، فما لم يكن هناك دستور جامع وعقد اجتماعي يراعي الحقوق والواجبات من دون تمايز بين أفراد المجتمع لن تتمكن الإدارة الجديدة من ضبط الأمور على ما يجب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا "تمون" على الجميع
تلك الأسباب وغيرها تقود إلى عدم اعتراف السلطة بالجرائم التي تحصل، أو في أقل تقدير نكرانها وعدم التصويب عليها، لا سيما مع وجود عناصر غير منضبطة ما زالت تحتفظ بقوامها العسكري وترسانتها العسكرية وإن كانت من النوع الخفيف في أحيان كثيرة.
ولأن القيادة الجديدة وجدت فراغاً هائلاً في البلد ومؤسساته كان عليها سده بأية طريقة ممكنة وبأقل الخسائر، فتراها تعمل ليل نهار على تنظيم هيكلية وزارتي الدفاع والداخلية، ولكن مراقبين يرون في الوقت نفسه أنها لا "تمون" على كل الفصائل على الأرض، ومن بينها الأجنبية، وذوو الثأر، ومجرمو السجون، وغيرهم.
صراع الهوية
وإن كان يحسب للقيادة الجديدة أنها أحسنت في تقديم نفسها دبلوماسياً وسياسياً، ولكن عناصرها، في بعض النقاط، ما زالوا يسألون المارة عن هويتهم الطائفية، وخلال عمليات التفتيش يقومون بإذلال بعض الناس وإجبارهم على تقليد صوت الحيوانات، ومواقع التواصل الاجتماعي مليئة بتلك المقاطع المصورة، التي يصورها ويبثها أفراد المداهمة أنفسهم.
والحديث هنا عن 14 عاماً من الحرب، وانسلاخ المكونات السورية عن بعضها، مما جعل تنامي الثأر النفسي حالة لا بد منها، إذ إن معظم العناصر اليوم صغار في السن وممن لم يعاصروا تعايش المكونات قبل الحرب، ولدوا أو تربوا في إدلب التي تحمل لوناً واحداً وفكراً واحداً وشريعة واحدة.
لذا لم يكن غريباً بالمطلق تعليق لصاقات على حافلات النقل تلزم النساء بالجلوس خلفاً والرجال أماماً، ولا تعليق مناشير الدعوة والنقاب الشرعي في الطرقات، ولا مظاهر الدعاة في المقاهي والمطاعم، كل ذلك جاء محمولاً على خلفية متشددة نمت في ظل صراع الأيدولوجيات مع النظام السوري السابق وطهران وموسكو خلال الحرب.
رد فعل السلطة
مرة أخرى ماذا ستقول الإدارة الجديدة؟ وبماذا ستعقب على ما يحصل؟ ستقول نحن لبسنا البزة الرسمية، و"قد" نصبح دولة مدنية ديمقراطية كما تشترط عليها أمم الوفود التي تزورها ويزورنها، وهذا سبب جديد لعدم رمي حجر في مياه راكدة مجالها مواقع التواصل الاجتماعي التي ستنسى الحدث خلال يومين أو ثلاثة، بل وكيف ستدين وتهاجم وتواجه قاعدتها الشعبية. الهجوم على الحاضنة الشعبية سيحمل معه الهلاك لقادته، ليبقى التعويل على التمكن من ضبط الأمور والإمساك بزمام الشارع رويداً رويداً، وإن كان الحق أحق بأن يقال، فإنه وعلى رغم ما حصل ويحصل، ولكن الأمور باتت أفضل قياساً بالشهر الأول بعد انتصار الثورة، وها قد انقضى عليها شهران.
الآن مداخل ومخارج الأحياء العلوية وأحياء الأقليات مطوقة بحواجز أسمنتية تمنع مرور السيارات ولا تحجب مرور المارة، فيما يترك مدخل أو اثنان للسيارات وتوضع عليها حواجز تفتيش، تلك الخطوة أسهمت كثيراً في تراجع حالات الخطف من المنازل والطرقات، وإن كان يراها بعضهم تضييقاً وخناقاً.
لا تتحمل مسؤوليتها جنائياً بل أخلاقياً
الخبير في الشؤون الأمنية ثابت الناطور يرى أن "ما يحصل طبيعي، بل وفي حده الأدنى قياساً بانتصار ثورة وسقوط نظام كان يتحكم حتى بأنفاس الناس"، ويقول "كنا نتوقع مجازر وآلاف القتلى وهذا الجانب الملآن في كأس الانتصار، أنه لم يحصل، أما بقية ما يحصل فهو مدان ومرفوض ولكنها تصرفات غير منظمة أو منضبطة أو تحمل توجيهاً لذا ما زالت تتسم بالفردانية"، ويضيف "لا تعقب القيادة السورية على عمليات القتل، لأنها ترى أنها لا تتحمل مسؤوليتها جنائياً بل أخلاقياً، وهي بحاجة إلى وقتها لضبط الأمن والأمان خصوصاً مع حل جهاز الشرطة وتشكيل آخر بديل يريد وقته كاملاً للانتشار ومعرفة كيفية التعامل مع الناس والملفات الأمنية والجنائية".
عامل الزمن
بدوره يرى الضابط الشرطي مؤمن عياش، الذي تقاعد قبل نحو عقدين من الزمن، أن "الإدارة السورية الجديدة أخطأت كثيراً بحل جهاز الشرطة الذي كان يضم عشرات آلاف الضباط والعناصر المدنيين والمدربين جيداً ومعظمهم يتقن عمله بتفان وإخلاص"، ويتابع "عدم التعليق على كثير من الانتهاكات هو جزء من السياسة الرسمية للدولة التي لا تستطيع إعلانها، فنحن اليوم نتحدث عن شهرين فقط من سقوط النظام، وإن حمل كل حدث تعليقاً ستبدو السلطة عاجزة وغير مؤهلة للحكم ولن يراعي أحد عامل الزمن الذي تحتاج إليه، هي لا تملك شيئاً لتقوله حالياً، ولكنها مع الوقت ستصبح مسؤولة تماماً أمامنا وأمام المجتمع الدولي عن الانتهاكات، وليس دفاعاً عنها ولكنها لا تمتلك عصا سحرية، كما أنها في الوقت ذاته كان يمكن لها اتخاذ إجراءات ذات مفاعيل أقوى، ولعل أبرزها ما فعلته بالإعفاء السريع لوزير داخلية تصريف الأعمال وتعيين بديل منه".