ملخص
يبحث العائدون إلى شمال غزة عن ذكريات جميلة في بيوتهم ولا يجدون إلا الركام "اندبندنت عربية" عاشت يوماً في مناطق مختلفة من الأحياء التي تعرضت لدمار واسع ورصدت رد فعل الغزاويين.
عندما حطت أقدام عبير في حي "تل الهوا" مكان سكنها غرب مدينة غزة، وقفت مبهورة من حجم الدمار، حائرة تنظر في المباني السكنية المدمرة عاجزة عن نطق أي كلمة، كل ما تفعله فقط التجوال بعينيها في أرجاء المنطقة.
سقطت دمعة من عين عبير شقت طريقها إلى خدها، لكنها بسرعة أعادت وتمالكت نفسها وضربت كفاً بكف، وأخذت تسير رويداً إلى مكان بنايتها السكنية لتتفقدها، بعد غياب دام نحو 15 شهراً، كانت خلالها نازحة في المنطقة الإنسانية جنوب غزة.
السير فوق الركام
قبل الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل ضد حركة "حماس" في غزة، كان حي "تل الهوا" عبارة عن تجمع سكني فيه 90 عمارة، كل واحدة مكونة من سبع طبقات، وفي كل طبقة أربع شقق سكنية، ويعيش في هذا المكان أكثر من 2500 عائلة، والمنطقة مصنفة من أرقى مناطق القطاع.
أثناء الحرب، ركز الجيش الإسرائيلي ضرباته العسكرية على حي "تل الهوا" كما باقي مناطق القطاع، لكن كل قصف في المنطقة يحرم عائلات ممتدة من حقها في السكن، ويعدم فرص الحياة في هذا التجمع السكني.
على أطراف أصابعها تسير عبير فوق أكوام الحجارة المتناثرة التي غطت المكان برمته، تقول "لا أعرف إذا كنت أمشي على شارع أو أسير فوق عمارة مدمرة، الردم في كل ناحية"، وعلى رغم ذلك تحاول السيدة الوصول إلى شقتها السكنية.
في الطريق تعثرت عبير وسقطت على جانبها وتأذت يدها، وبعد صعوبة السير فوق الركام، وصلت إلى مكان سكنها، نظرت من أسفل إلى أعلى، ابتسمت وأضافت "العمارة قائمة، فيها كثير من الأضرار لكنها لم تتحول إلى كومة ركام".
عمارة قائمة وأساسات مدمرة
تفقدت عبير مدخل العمارة، كان مغطى بالركام، وعندما تفحصت أعمدة أساسات البناية وجدت جزءاً منها مهترئاً وقسماً آخر سقط بالفعل، وبقية الأساسات قائمة، ركضت على الدرج نحو الطبقة الرابعة لتتفقد شقتها السكنية.
ركام ورماد وأعمدة متناثرة في المكان، هذا ما وجدته عبير، ورغم ذلك قررت العيش في شقتها السكنية غير المهيأة، توضح أن الشعور بالعودة إلى حيها لا يوصف، لكن رؤية الدمار يعني العودة بالزمن لمئات السنين.
تنوي عبير تنظيف بيتها، وتشير إلى أنها بدأت بالفعل في إزالة الردم، علماً أن بيتها قد تعرض لعمليات نهب وسرقة وبات ساحة خاوية من كل شيء، لا ثلاجة ولا غسالة ولا غرف نوم ولا حتى أبسط الأمتعة، تضحك السيدة ضحكة غير مفهومة، وتقول "ماذا سأفعل في تلك الأغراض، من الأساس لا كهرباء في غزة".
ذكريات على الأطلال
تتجول عبير في بيتها، تدخل غرفة تتفقدها وتقول "هذه غرفة أطفالي هنا كانوا يلعبون وفيها أسرة نومهم"، ثم تشق طريقها إلى غرفتها تتفقد خزانتها لكنها فارغة، وفي الصالة تقف تتذكر أجواء عيد ميلاد طفلتها الأخير، تتحسر ولا تقوى على فعل شيء.
أسوة عبير، بدأ كثير من الغزاويين الذين أنهكتهم الحرب وحولتهم إلى نازحين بالعودة إلى أطلال منازلهم، إلا أن فرحتهم بالوصول إلى شمال غزة أحبطتها صدمة مشاهد الدمار الكامل الذي حل بالمناطق.
ولاء من سكان مخيم جباليا عندما وصلت إلى منطقتها، أغمى عليها من هول الدمار، تقول "المشهد مروع، يمكنني القول كاد قلبي يتوقف، دمر بيتي بالكامل، لا أعرف أين سأعيش".
حاولت ولاء السير داخل مخيم جباليا للوصول إلى بيتها، لكنها لم تعرف أين كانت تسكن ولا تعرف أين موقع منزلها من الأساس، تضيف "كل الدور هنا فوق بعضها مسحت عن الخريطة، كنت أعيش في بيت حنون لم يكن مجرد غرف وصالة بل كان صندوقاً من الذكريات".
لم تقو ولاء على مواصلة الحديث، شهقت أنفاسها بصعوبة، تنهدت وبكت كثيراً لكنها سرعان ما استجمعت قواها ونهضت مغادرة المكان وهي تسير وتتلفت إلى الوراء.
يبحث عن أي شيء
حكايات العائدين إلى شمال غزة مريرة، وهذا صهيب وقف أمام دمار بيته ينبش بين الحجارة، سألناه عما يبحث، نظر نحونا خلسة وقال "عن أي ذكريات، عن سرير طفلي الذي كان ينام عليه، أو صورة والدتي، عن أواني المطبخ التي كنت أطهو بها لصغاري، أبحث عن أي شيء ولا أجد شيئاً".
أمام بيته وقف صبري يقول، "تحول المنزل إلى هيكل بلا روح"، كان الرجل مشتاقاً إلى شمال غزة ولكنه عندما وصل إلى هناك صدم كلياً، تشجع ودخل بيته الذي يصفه قائلاً "تحول إلى هيكل عظمي فحسب، وماتت الذكريات".
صورة عائلية ولعبة أطفال
يزيل صبري بيديه الضعيفتين أكوام الركام من هيكل بيته، وفجأة وجد صورة ورقية مطبوعة بالألوان، ضحك والدمعة في عينيه وقال، "لقد نجت ذكرى واحدة، هذه صورة تجمعني مع زوجتي وأولادي، فيها حب كبير، حرمنا منه"، ووقف يتمعن في الصورة.
شجعته هذه الصورة للنبش أكثر، وأخذ يحرك الحجارة المتناثرة، في غرفة الأطفال عثر على لعبة طفلته، عبارة عن أسد مصنوع من الإسفنج، طار فرحاً، وأوضح أن صغيرته كانت تملك هذه اللعبة الوحيدة بسبب وضعه المالي الصعب، وكانت تتذكرها كثيراً فترة الحرب.
واصل صبري البحث لكن لا شيء في المكان، طأطأ رأسه، وغادر يبحث عن مأوى جديد يصنع فيه ذكريات يعرف أنها ستكون قاسية ومليئة في نقل المياه والركض وراء رغيف الخبز، يشتم الحرب بجميع الألفاظ ثم يصمت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الإيواء صعب حتى عالمياً
يقول سام روز من وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، إنه يتعين على سكان غزة بدء حياتهم من الصفر، ولا يتوقع أن يجدوا مأوى، بعدما خلفت الحرب دماراً واسعاً، وصلت نسبته إلى 79 في المئة.
ويضيف، "بالنسبة إلى الكثيرين في غزة فإن العيش في الخيام فرصة نادرة ولا تزال بعيدة، الأمم المتحدة قادرة على إدخال 20 ألف خيمة، كانت عالقة عند الحدود، وهذه كمية غير كافية، نحن نواجه صعوبة في تلبية الطلب الكبير على الملاجئ".
ويشير إلى أنه "ليست هناك كميات كافية من الخيام المصنوعة لعمليات الإغاثة في أي مكان من العالم وليس في غزة فحسب، ولهذا أعتقد أن الناس ستبقى في الشوارع وقرب منازلهم التي تحوي ذكرياتهم الجميلة، لكنهم سيتحسرون على تلك الأيام".