Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سرديات الماضي المستعاد في "ثلاثة طوابق للمدينة"

هشام أصلان يمعن في جعل المدينة خلفية للتجريب القصصي

لوحة للرسام المصري محمد صبري (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

يمكن القول إن القصة القصيرة، شأنها شأن الرواية، فن مديني في الأساس، تم استحداثه لتلبية رغبات الطبقة المتوسطة المرتبطة ببدايات العصر الحديث، حين كانت النوع الأدبي الصاعد مع صعود هذه الطبقة. من هنا كانت المدينة إحدى الثيمات الرئيسة في مجموعة "ثلاثة طوابق للمدينة" (دار الشروق) لهشام أصلان.

ليست موضوعة المدينة في قصص هشام أصلان امتداداً لما كتبه شعراء جيل الريادة التفعيلية، بخاصة عند أحمد عبدالمعطي حجازي، الذي كانت المدينة – بالنسبة إليه – صادمة اجتماعياً ونفسياً، وذلك لأن أصلان الابن يكتب عن المدينة بوصفه ابنها العليم بشوارعها وأحيائها، بخاصة الشعبية، عاشقاً لأجوائها الليلية الرحيمة على العكس من نهاراتها التي تتحول فيها إلى "دمية عملاق تأكل سكانها مبتسمة، متجاوزة دورها كمدينة، تزحف فوق أرواح هؤلاء السكان، متنازلة عن أي معنى للجمال والحياة".

ولا شك في أن ذلك يرجع إلى صراعات النهار التي لا تنتهي، بينما يصبح الليل رفيق الفنانين والمعذبين، "فيتجلى كقطعة منفصلة عن تلك الضواحي الممتدة، ويوفر شيئاً من الحياة لأصحاب المساء". نحن إذاً أمام وحدة المكان وتقابلات الزمن، وهو ما سيتكرر كثيراً على مدار المجموعة، إذ يبدو الزمن المعيش مقبضاً فاقداً للجمال والحياة، ولعل هذا ما يفسر شيوع تقنية الاسترجاع والحنين الدائم إلى الماضي، ناهيك بامتداح الليل في مقابل النهار.

 استعادة الماضي

تبدأ قصة "ابتسامة من الماضي" بهذه العبارة الغامضة، "لا بد من قصة عن مصور"، لكن الأمر يتكشف حين يعلل الكاتب ذلك بأن هذا "المصور" هو أحد الأبطال الذين "يصلحون لاستدعاء الذكريات، إن كنت تحب الكتابة عن الماضي، ويساعدون على الشطح بالخيال إن كنت تريد طريقة مضمونة للخروج من الواقع". تحدد هذه السطور طريقة السارد في تجاوز الواقع الراهن، وذلك من خلال العودة إلى الماضي أو بالخيال الذي يصنع واقعاً موازياً أكثر جمالاً، ومن بين هؤلاء الأبطال يختار صاحب استوديو قديم في الحي الشعبي كان يذهب إليه ليرى ابنته فائقة الجمال ويظل ينظر إلى صورتها المعروضة في واجهة الاستوديو، وعلى رغم هذه العودة المحددة تختلط الأزمنة في ذهنه، فلا يعرف في أي زمن يعيش وإلى أي فترة تنتمي تلك اللحظات التي يتحدث عنها، يقول معبراً عن هذه المتاهة، "كان الليل خيم، وفسرت خفوت الضوء داخل استوديو التصوير بأن علو الضوء يفسد عملية التحميض، ولكن أي تحميض؟ في أي زمن تجري تلك اللحظة؟ لا يهم".

إن ما يهمه – تحديداً - هو استعادة هذه اللحظة بغض النظر عن محدداتها التاريخية. على أن الأكثر غرابة هو نهاية هذه القصة بتلك النقلة الزمنية الواسعة حين يفاجأ السارد برؤية شعر لحيته الأبيض في المرآة التي على الحائط الجانبي بالاستوديو. وهكذا تتسع حركية الزمن ويتم التلاعب به بحيث يتجاوز الثنائية المشار إليها التي تتمثل في تقابل الليل والنهار. والأمر نفسه نجده في قصة "الغريب المبتسم" الذي يستدعي فيها السارد مقابلته القديمة له – منذ سنوات طويلة – مع أصدقاء "البار"، والقصة مقسمة إلى جزأين، ينتهي الأول بحكاية رواها ذلك الغريب للسارد عن ولد صغير مر على المقهى واستأذنه أن يشرب من كوب الماء الموضوع على طاولته.

قال إن الولد بعدما ذهب استدار وابتسم له، ثم يسأل السارد، "إيه رأيك، تنفع قصة؟". وفي الجزء الثاني يرتد الزمن إلى مرحلة الطفولة حين يتذكر السارد تحذير أمه له من كبار السن، فيظل ممسكاً بيدها في ذهابها وإيابها، وعندما تحمل حاجاتها باليدين يمسك بجلبابها، وذات ظهيرة أفلت منه طرف الجلباب وغابت أمه عن عينيه فيقترب – بعد توجس طويل – من رجل مسن ويطلب منه بعض الماء ويشرب، وأخيراً تعثر عليه أمه، ثم نفاجأ أن هذا "الغريب" هو الرجل نفسه الذي تحدث عنه في بداية القصة، والذي اقترح على السارد أن يكتب قصة هذا الولد الذي هو نفسه ذلك السارد في طفولته. بما يعني أننا أمام بنية دائرية تبدأ بحدث ما ثم تعود إليه في النهاية.

الموت معاً

تتكرر ثيمة الموت داخل هذه المجموعة بصورة لافتة، ويبدو ذلك من تردد دال المدافن التي تزاحم الأحياء، حيث يختلط الموت والحياة، ففي قصة "زيارة ليلية" يقول، "زمان، لم يكن هناك ما يفصل بين مساحة المقابر وبين سفح الضاحية العالية، كنا نرى حافتها من الأعلى بسهولة ومئذنة صغيرة تطل بوضوح من فوق الحافة"، بل إن المقابر تتحول إلى أماكن للمعيشة، فيما يشبه الحياة داخل الموت وأماكنه، يقول في "مهرجان ليلي صغير": "فكرت، كيف أن الحياة داخل أحواش المقابر وبين طرقاتها معتادة في القاهرة".

وهكذا لم تعد المقابر مجرد مكان للدفن فقط أو للسكن بل للحياة بكل ما تعني. وأحياناً – وعلى غير المنطقي - يتحول الموت إلى حال لقاء وتوافق عاطفي، كأن السيد والسيدة داخل قصة "مدينة وراء الليل" قد اتفقا على موعد الرحيل. وهو ما يذكرنا بجملة بهاء طاهر التي صدر بها روايته "شرق النخيل"، "لو نموت معاً". فالموت معاً ينفي عذاب أحد الطرفين وحزنه على رحيل الآخر. يقول هشام أصلان في بداية تلك القصة، "في الصباح تحركت جنازتان، تقابلتا في المنتصف، حيث مساحة المقابر تفصل بين قلب المدينة وبين الضاحية العالية، جنازة لرجل والثانية لسيدة، كأنهما قررا – في الوقت نفسه – أن يغلقا حكاية البيت القديم، البيت الذي شيدته السيدة دون أعمدة خرسانية، وكان هو أول سكانه". وهنا يتحول الموقف إلى رؤية شعرية، باعتبار الشعر أوسع من القصيدة، إذ يمكننا أن نصف مشهداً سردياً أو سينمائياً أو لوحة فنية بالشاعرية. وشعرية القصة القصيرة توجه قديم منذ يحيى الطاهر عبدالله الذي وصلت القصة على يديه إلى درجة الغنائية، ثم تأكدت مع دعوة إدوار الخراط إلى ما سماه بـ"الكتابة عبر النوعية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والحقيقة أننا نجد أثراً لذلك عند هشام أصلان في قوله – في قصة "شهيق"، "سلام على مساحة صغيرة لم تزل سليمة من داخلك، في ابتسامات قليلة تلتقطها بين شرود يحفز ماء العين في الاستجابة للأغاني والروائح وإن ذهب أصحابها". ولا ترجع شاعرية هذه السطور إلى المجاز بمعناه القديم، بل إلى ذلك التدفق الغنائي المعبر عن ذات السارد وشروده وبكائه وتفعيل إحساسه بكل ما هو جميل. ويستمر السارد في تصوير أشكال الموت المختلفة، فإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه نجده يسرد قصة زوجة عمه – في قصة "مراحل زينب" - منذ كانت شابة، ثم إنجابها لإبراهيم وانتهاء بلحظة وفاتها، مقدماً كل هذه الفترة الزمنية من خلال ما يعرف بـ"الثغرة الزمنية" التي تتمثل في الانتقالات الزمنية الواسعة من مرحلة إلى أخرى، ممهداً للحظة الموت بالحديث عن ذلك المرض الذي أصاب جسد "زينب" بالنحول الشديد، بحيث "لم يعد نفسه الجسد الذي استطاعت صاحبته تكتيفي بينما كنت مراهقاً، كي يستطيع الطبيب خياطة الجرح في إصبع قدمي دون بنج".

وفي صباح الجنازة يرفض أن يدخل البيت ويظل يتأمله من الخارج، إلى أن يدخل غرفة إبراهيم التي شهدت ألعاب صباهما معاً، ويفتح جهاز التسجيل ويأخذ منه شريطاً قديماً لحميد الشاعري، ويضعه في جيبه ثم يخرج للجلوس وسط المعزين. هذه اللقطة التي ينهي بها القصة تعني أنه أراد أن يحتفظ بأثر يذكره – دائماً - بإبراهيم وأمه حتى كأنهما على قيد الحياة، فالذكر للإنسان عمر ثانٍ. وتتوازى مع هذا الموت المتكرر فكرة الأفول والرغبة في الوحدة، التي تكررت في كثير من القصص، مثل قصة "خطة استدعاء الوحدة" التي ينهيها بقوله، "الآن، كل شيء جاهز تماماً. أنا رجل وحيد يستطيع أن يسخر من العالم وقسوته بارتياح". لقد تحولت الوحدة – التي تعني أيضاً فكرة الاستغناء - إلى أداة لمقاومة العالم والسخرية منه ومن قسوته.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة