Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مشقة العودة لغزة... طريق بلا معالم نحو مدينة غير صالحة للحياة

على رغم كل هذه التحديات فإن الوصول إلى مشارف المنطقة لا يعني انتهاء المحنة بل بداية الصراع من أجل البقاء

رحلة العودة لشمال غزة استغرقت أياماً مشياً على الأقدام (اندبندنت عربية - مريم أبو دقة)

ملخص

قطع النازحون نحو ثمانية كيلومترات حتى وصلوا إلى مشارف مدينة غزة، وهناك لا سيارات نقل ولا وسائل مواصلات بدائية، الجميع يسير فقط، وحتى يتمكن أحدهم من الوصول إلى مشارف مدينة بيت لاهيا أقصى شمال القطاع عليه السير لثلاثة أيام متتالية وسط اكتظاظ العائدين.

عندما أذنت إسرائيل للنازحين في المنطقة الإنسانية جنوب غزة بالعودة لمناطقهم في شمال القطاع، هرع غيث مسرعاً إلى السوق وأخذ يبحث بتمعن عن دواليب صغيرة وقطع خشب مهترئة ليصنع منها عربة جر يدوية بدائية.

وفي زاوية بعيدة من النازحين، أخذ يجمع قطع الأخشاب ويربطها ببعضها ويثبتها بواسطة مسامير من الحديد، ثم ركب الدواليب للعربة، وفور الانتهاء من تجهيزها قفز فرحاً، وربط حبلاً متيناً في طرفي الكارو البدائية، وعلى خصره شد الحبل وأخذ يجرب آلية سير وسيلة النقل التي ابتكرها.

عربة لسحب الأمتعة والأطفال

على عجالة وضع في الكارو التي لا يتجاوز عرضها 90 سنتيمتراً وطولها المتر الواحد فقط، أسطوانة غاز الطهي ذات الحجم الصغير، وحقيبة فيها أدوية الرشح ومسكنات آلام ومضاد حيوي وبعض الملابس المهمة، وفي حقيبة أخرى أصغر حجماً من الأولى جمع معلبات الجبنة من نوع فيتا وكيلوغراماً واحداً من السكر.

ويقول غيث "أمتعة بسيطة وربما لا أحد يحملها في رحلته، لكنني سأتوجه إلى منطقة حرب، تحولت مبانيها إلى كومة ركام، ولا يوجد هناك طعام ولا غاز طهي ولا حتى مياه صالحة للشرب"، ولا يملك الرجل وقتاً للحديث إذ يرغب في مغادرة أماكن النزوح إلى أحب مكان على قلبه.

لدى غيث طفلان صغيران، الأول عمره سنتان، والثاني ثلاث سنوات، أجلسهما على العربة التي صنعها لتوه، وربطهما بحبل صغير، وانطلق برفقة زوجته إلى شارع البحر ليعود سيراً على الأقدام لشمال القطاع.

تغيرت معالم الطريق

بالصدفة، أوقف غيث عربة يجرها حمار، وعرض على سائقها 70 دولاراً مقابل أن يوصله إلى تبة النويري آخر نقطة يسمح لوسائل المواصلات بلوغها، فحمل أمتعته القليلة وانطلق في رحلة تتساوى فيها الرغبة في الحياة مع الموت.

يجهل الرجل الطريق التي تغيرت معالمها كثيراً بفعل الحرب، إذ حولها الجيش الإسرائيلي الذي كان يتوغل في غزة، إلى نقطة عسكرية وأطلق عليها "محور نتساريم"، ومنع أياً من سكان غزة الاقتراب من المكان.

في الطريق إلى تبة النويري، اعتبر غيث نفسه محظوظاً، فهو يركب عربة يجرها حمار بينما آلاف النازحين العائدين لشمال غزة يسيرون مشياً على الأقدام، يحملون حقائبهم البسيطة على ظهورهم، وبحسرة يبادلهم النظرات.

يجر الكارو بدل الحيوان

نفض غيث شعره، وقرر مواساة العائدين لشمال غزة، وأخذ يخاطب أحدهم "الحمد لله على السلامة"، ثم يوجه كلامه لنازح آخر "سنعود لغزة وأخيراً"، لكن النازحين مرهقون من السير على أقدامهم ويزاحمون بعضهم في شارع البحر الذي احتضن سيلاً بشرياً قدر عدده بنحو 300 ألف نسمة.

بعد ساعة وصل غيث إلى تبة النويري وعليه الآن أن يشق طريقه نحو غزة سيراً على الأقدام كما بقية النازحين العائدين، إذ يمنع الجيش الإسرائيلي أي وسيلة مواصلات من دخول حاجز نتساريم العسكري، ومن يخالف التعليمات يطلق عليه النار.

وضع غيث الحبل الذي ربطه بالعربة على خصره، وأخذ يسير في شارع البحر، كانت الطريق مهترئة، كلها حفرات ومطبات ولا أسفلت في محور نتساريم، بصعوبة كان يجر الكارو بدلاً من الحيوان، لكنه ما زال بكامل قوته، فالطريق لم تبدأ بعد.

قطع غيث أول ساعة من السير مشياً، بعدها بدأ التعب يتسلل إليه والإرهاق أخذ يظهر على ملامحه، لكن الأمل يراوده في أن يصل إلى مدينة غزة وشمال القطاع، وتوقف قليلاً ليأخذ قسطاً من الراحة، وحينها لاحظ انتشاراً مكثفاً لجنود الجيش الإسرائيلي على جانب واحد من الطريق، فدبّ الرعب في قلبه وواصل مسيره.

العكاكيز أسقطت صاحبها

إلى جانب غيث، كان يسير سالم الذي بترت قدمه اليمنى بسبب إصابته في الحرب، ويحمل عكازين مهترئين لمساعدته في المشي، يلهث الرجل ويضغط على نفسه ليواصل طريقه، يقول "من ثلاث ساعات وأنا أمشي، لقد اهترأ عكازاي، ولم يعودا صالحين لمواصلة الطريق".

الطريق كانت صعبة، في وسط الشارع بركة من المياه الراكدة تغطي المسار بأكمله، وليقطع العائدون لغزة الممر لا مفر من أن تطأ أقدامهم في المياه الضحلة، فيقول سالم وهو يحاول التقاط أنفاسه "أعاني إعاقة يصعب عليّ السير في الماء بواسطة عكازات، عملية مرهقة وشاقة".

وضع سالم طرف عكازيه على حافة بركة المياه الضحلة، كانت بعمق 40 سنتيمتراً ولزجة للغاية، تمالك نفسه وقفز أول خطوة، لكن عكازيه لم يحملاه، وتزحلق وسقط في المياه، ويضيف "في وقتها كان الناس مشغولين بأنفسهم، ولا أحد يقوى على مساعدة الآخر، تملكهم الإرهاق والتعب".

استنجد سالم بأحد النازحين العائدين، وجمع عدداً من الشباب لمساعدته فحملوه وهو مبلول بالمياه المتسخة وساعدوه على قطع الطريق.

أمتعة على كرسي متحرك

كانت الساعة تشير إلى الخامسة والنصف عندما وصلت الجدة سوسن إلى مشارف مدينة غزة، والظلام بدأ يحل على غزة، ووضع السيدة صعب للغاية، فهي مقعدة وتتنقل على كرسي متحرك تدفعه لوحدها.

إلى جانب الكرسي المتحرك، تضع الجدة سوسن قليلاً من أرغفة الخبز وحقيبة تزن 14 كيلوغراماً، وعلى حافة ظهر الكرسي تربط أسطوانة غاز الطهي، يداها ترتعشان من التعب لكنها تستمر في دفع العجلات.

طريق الجدة سوسن صعبة، الشارع مليء بحجارة من مخلفات الميناء الأميركي العائم، ولا تقوى على مواصلة دفع كرسيها إلى الأمام، وعلى رغم ذلك تحاول بكل جهد وهي تقول "من الصعب أن يبادر أحد لمساعدتي، الجميع يحملون أمتعتهم".

حاول سند بالفعل دفع الكرسي المتحرك للجدة، لكن الطريق وعرة، وما إن قطع مسافة كيلومتر، تفاجأ بمرتفع رملي كبير يتجاوز طول المترين، حينها استسلم، وعجز عن مساعدة الجدة سوسن، فظلت هناك عالقة لنحو ساعتين تحاول تجاوز تلك العقبة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كشافات الهواتف وسيلة إنارة

بدأ الظلام يلف المكان، فاستعان النازحون العائدون بكشافات هواتفهم النقالة لإنارة دربهم، لكن الطريق الطويلة أجبرتهم على التوقف عن السير، والجلوس في شارع البحر والرياح القوية تضرب أجسادهم المنهكة، فلم يقوَ حينها أحد على مواصلة السير للعودة لشمال غزة واضطروا إلى المبيت في الشارع.

كان الجيش يتمركز في كل زاوية، مرة يطلق النار في الهواء وتارة يحرك طائرات الـ"درون" الصغيرة، وأحياناً يطلق على النازحين أشعة الليزر الخضراء، ويحرك الدبابات من مكانها، وتقول شيماء "لم أغمض عيني من شدة الخوف، شعرت بأن قلبي يخفق بسرعة وكاد أن يتوقف".

قطع النازحون نحو ثمانية كيلومترات حتى وصلوا إلى مشارف مدينة غزة، وهناك لا سيارات نقل ولا وسائل مواصلات بدائية، الجميع يسير فقط، وحتى يتمكن أحدهم من الوصول إلى مشارف مدينة بيت لاهيا أقصى شمال القطاع عليه السير لثلاثة أيام متتالية وسط اكتظاظ العائدين.

نقطة التفتيش معاناة ورعب

في طريق صلاح الدين وهو الشارع الثاني المسموح للنازحين العائدين لغزة فيه ركوب العربات، كانت المعاناة قاسية أيضاً، إذ دمرت الدبابات الشارع وتحول إلى حفر ومطبات، وعلى رغم ذلك نصبت حواجز تفتيش عسكرية على الطريق.

جهز الجيش الإسرائيلي سبعة مسارات للسيارات فقط، بينما تزاحمت في شارع صلاح الدين نحو 21 ألف عربة، وعلى مقربة من محور نتساريم نصبت تل أبيب حاجزاً عسكرياً لتفتيش السيارات والركاب بدقة عالية، وتولت هذه المهمة قوات قطرية وأميركية ومصرية بإشراف مباشر من جنود إسرائيل.

تعطلت عربة محفوظ قبل حاجز التفتيش بنحو 300 متر، وعندما سلكت الطريق كان عاجزاً عن تشغيل السيارة، بسرعة رفع الجنود أسلحتهم نحو وسيلة المواصلات خوفاً من حدوث أي طارئ، لكن السائق رفع يديه إلى أعلى في وضع الاستسلام وهتف بصوت عالٍ "سيارتي تعطلت".

لا يقوى محفوظ على دفع العربة لوحده، وطلب المساعدة من آخرين، لكن الجيش الإسرائيلي رفض ذلك، ويقول "عرقلت الطريق نحو خمس ساعات، كان الليل قد حل، والظلام دامس جداً، بسببي نام النازحون ليلتهم في سياراتهم".

وعندما دخلت سيارة دعاء إلى جهاز الفحص الأمني، أطلقت صفارة إنذار وأُضيئت اللمبة الحمراء، حينها ظن رجال التفتيش أن السيدة تحمل سلاحاً، من الخوف أغمي عليها حتى تدخل الفريق الصحي، وعلى رغم ذلك خضعت لتفتيش عسكري صارم.

وطلبت قوات التفتيش من دعاء فتح أبواب السيارة، وأخبروها أنه يجب عليها السير في طريق ترابي موازٍ بينما يتم فحص مركبتها بواسطة أجهزة إشعاعية، ليسمح لها بمواصلة طريقها، استغرق الأمر نحو نصف ساعة مما تسبب بازدحام الشارع خلفها بالسيارات.

وعندما انتهت القوات من فحص المركبة، حان دور تفتيش دعاء، فرفعت يديها لأعلى ومرر أحد رجال الأمن جهازاً إشعاعياً على جسدها، ثم أدخلها غرفة التفتيش اليدوي، وعلى رغم كل هذه التحديات فإن الوصول إلى مشارف مدينة غزة لا يعني انتهاء المحنة، بل بداية الصراع من أجل البقاء، فتلك المنطقة دمرها الجيش بالكامل وجعلها غير صالحة للحياة.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير