ملخص
تطهير غزة بتهجير أهلها إلى مصر من المرات القليلة التي تتوقف فيها القاعدة الشعبية العريضة من المصريين أمام تصريح أجنبي مدققة في كل كلمة باحثة في ما وراء كل مضمون عن المعنى المقصود لا مكتفية بطوفان الـ"سوشيال ميديا" أو براكين جيوش التحليل وخبراء الشرح والتفنيد من المؤثرين والمؤثرات
ما زالت "أم حمزة" تؤنب "حمزة" في السوبرماركت وهو يركض في اتجاه مياه غازية محببة إليه وشرائح بطاطا مقلية بعينها لم تحل محلها كل أنواع البطاطا الأخرى، وتصيح بصوت مسموع لتعم الفائدة وتتجذر الفكرة: "حمزااااا، هذه مقاطعة"، وما زال "أبو حمزة" ممسكاً بتلابيب القهوة التي يقر إنه لا يحب مذاقها، ولكن نصرة لفلسطين ودعماً لأهل غزة سيستمر في تجرع المذاق غير الطيب للقهوة المحلية، ولو رحمة ونور على أرواح قادة "الحركة".
اجتياح مشاعر مصري
حركات كثيرة وأفعال عديدة ومشاعر لا أول لها أو آخر تجتاح المصريين منذ بداية حرب القطاع صبيحة اليوم التالي لعملية السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، بعضهم سار في ركب حملات ومبادرات لدعم "الإخوة" في غزة، وذلك بين تبرعات ولو قليلة، إذ العين بصيرة لكن اليد قصيرة، لا سيما في زمن الأزمات الاقتصادية المتواترة والمتصاعدة، وآخرون بحثوا عن سبل توصيل المساعدات العينية والمادية للصامدين في القطاع، ودعاء يصدح في المساجد وزوايا الصلاة العائدة بكل قوة بعد منع وحجب بغرض التنظيم وتحجيم جماعات الإسلام السياسي، وملصقات متناهية الصغر على أجهزة الكمبيوتر ومتوسطة على واجهات المحال ومتناهية الكبر على خلفيات السيارات في خرق كامل لقوانين المرور واتساق كلي وشعبوية الدعم المصري للقطاع وأهله، وفواتير الشراء من المحال والمطاعم التي تؤكد دعمها القضية بعبارة "خمسة من كل 1000 جنيه تنفقها في فروعنا تذهب لأهلنا في غزة"، وبالمرة الصيد في مياه المقاطعة العكرة وتعظيم الأرباح وتصعيد الفوائد، ومتابعة نارية للأحداث في أيامها الأولى لحظة بلحظة، وبعدها تدوين وتعليق وتغريد، بالدعاء على الظالم وطلب النصرة للمظلوم، وأمارات الدعم الشعبي ظلت متأججة على حالها، إلى أن بدأت الدفة تتحول تارة صوب لبنان و"حزب الله" وأخرى جهة اليمن والحوثيين، وأخيراً إلى سوريا وسقوط النظام وهيمنة "هيئة تحرير الشام"، وعلى رغم ذلك تبقى قاعدة مصرية شعبية عريضة مع غزة وأهلها.
هذه القاعدة الشعبية العريضة فتحت أبواب قلوبها على مصارعها لسكان غزة، سواء أولئك الذين بقوا في الداخل على مدى أشهر الحرب الـ15، ومنهم من فتح أبواب بيوته لهم حرفياً عبر استضافة هنا أو جيرة سند ودعم هناك أو المسارعة لتقديم ما تيسر من مساعدة ولو نفسية لمن دخلوا مصر على مدى أشهر الحرب تحت تسميات مختلفة ولدواع متعددة.
دعم طبيعي وتديين للقضية
بدت أجواء الدعم الشعبي طبيعية ومتوقعة إلى حد كبير، المصريون على مدى عمر القضية وتاريخها البالغ 77 عاماً لم يكتفوا بالتعاطف والتعاضد، ولكن كثيراً منهم تماهى مع القضية واعتبرها قضيته وتعامل معها باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من حياته ومماته، وفي أعوام المد الديني وتصاعد حركات وجماعات ومعتقدات الإسلام السياسي التي ألقت بظلالها على المنطقة تحول جزء غير قليل من القضية الفلسطينية إلى قضية دينية خالصة، أصبحت فلسطين "المحتلة" معركة بين المسلمين واليهود، بين الخلافة الإسلامية وأرض الميعاد اليهودية.
في أعوام المد الديني تحولت القضية من أرض محتلة وشعب واقع تحت احتلال قوة غاصبة متغطرسة إلى أرض إسلامية محتلة وشعب مسلم واقع على احتلال قوة يهودية متغطرسة. تضاءلت السياسة والقوانين الدولية وحقوق الإنسان ومقاومة الاحتلال وإعادة الحق إلى أصحابه والأرض إلى أهلها، وتفاقم الدين والشرع والشريعة وحقوق المسلمين والجهاد الإسلامي ضد اليهود وإعادة الحق إلى المسلمين والأرض إلى المسلمين.
تغذية التوجه الديني
صحيح أن تديين القضية لم يحدث من الجانب العربي فحسب، ولكن إسرائيل وقادتها، إضافة إلى جماعات الإسلام السياسي بأنواعها غذوا هذا التوجه، لا سيما في خطابهم الموجه إلى المنطقة العربية وبلاد المسلمين.
العرب وبينهم المصريون أكلوا الطعم، وأسهموا بقدر كبير في أسلمة القضية، حتى بات المسيحيون يشعرون أن حتى تعاطفهم لم يعد مطلوباً أو مرغوباً.
بعد أيام قليلة من عملية "طوفان الأقصى" حذر الكاتب والطبيب خالد منتصر من تحويل الصراع العربي - الإسرائيلي إلى صراع إسلامي - يهودي، مؤكداً أن ذلك من شأنه أن يدفن قضية الاحتلال إلى الأبد، وقال في مقال عنوانه "القضية سياسية وليست دينية": "نتنياهو يخرج ويتحدث عن العماليق في التوراة الذين يجب إبادتهم، ويتم الرد عليه بأنهم سيختبئون خلف شجر الغرقد وسيشير إليهم الحجر ويفتن عليهم ويرشد عن مكانهم لنقتلهم! يتحدثون عن أرض ميعاد، فيكون الرد أحفاد قردة وخنازير، وتتصاعد ألسنة اللهب الدينية والتلاسن العقائدي، القضية سياسية بحتة، القضية قضية محتل يحتل أرضاً ويهجر شعباً قسرياً ويستهدف مدنيين، ليست قضية دينية أو أرض ميعاد أو هيكل سليمان، وغزة فيها المسلم والمسيحي، ولا يمكن أن تختزل في تنظيم يرفع شعاراً دينياً ويعترف بأنه فرع للإخوان، قضية فلسطين أكبر من جماعة دينية، قضية فلسطين لها عناصر كثيرة ومعايير مختلفة عن القياسات الدينية المنحازة الضيقة، إنها قضية وطن لا خلافة".
وكعادة كل من ينتقد تديين القضية الفلسطينية، ويطالب بإعادتها إلى خانة الاحتلال والتحرر، لا الحرام والحلال، ناله ما ناله من اتهامات تراوح ما بين دعم الصهيونية وكراهية الدين وازدراء المتدينين.
تعاطف بنكهة دينية
ومضت أتون الحرب على مدى نحو 15 شهراً لتحصد نحو 50 ألف قتيل، وتشير تقديرات حديثة إلى أن العدد يفوق 64 ألفاً، إضافة إلى نحو 112 ألف مصاب، ناهيك بدك القطاع بصورة شبه كاملة، وأجواء الدعم والتعاطف والغضب تغلب عليها المشاعر الدينية.
ووصل الأمر إلى درجة أن كثراً يعتقدون أن كل أهل غزة مسلمون، قبل أيام قليلة كتب أحدهم على "فيسبوك" أن صديقاً مسيحياً من أهل غزة يبحث عن فرصة عمل أو هجرة. معظم التعليقات عبرت عن دهشة، وربما صدمة المعلومة: مسيحيون في غزة الإسلامية؟!
"غزة الإسلامية" وجدت نفسها في مواجهة جديدة مع القاعدة الشعبية العريضة في مصر عقب سريان ما قاله الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن "تطهير" غزة بنقل سكانها إلى مصر والأردن!
تدقيق شعبي نادر
لعلها من المرات القليلة التي تتوقف فيها القاعدة الشعبية العريضة من المصريين أمام تصريح أجنبي، مدققة في كل كلمة، باحثة في ما وراء كل مضمون، منقبة عن المعنى المقصود، لا مكتفية بطوفان الـ"سوشيال ميديا" أو براكين جيوش التحليل وخبراء الشرح والتفنيد من المؤثرين والمؤثرات، ومن ثم إعادة تدويرها.
"أريد من مصر والأردن إخراج الفلسطينيين من القطاع في محاولة لإحلال السلام في الشرق الأوسط، نتحدث عن مليون ونصف المليون شخص لتطهير المنطقة، غزة مكان مدمر، وهذه الخطوة (التهجير لمصر والأردن) قد تكون موقتة أو طويلة الأجل"، هكذا أعلن ترمب.
وفي مصر توقف بعض المصريين عند كلمة "تطهير"، وآخرون اندهشوا لمفهوم السلام عبر تفريغ المنطقة من سكانها، وفريق ثالث صدمه العدد المراد تهجيره، ورابع اندهش لفتح باب الاحتمال أمام التهجير "الطويل الأجل"، لكن الجميع صدمته الفكرة!
لسان حال أثير "السوشيال ميديا" ومعه واقع الأحاديث في الشارع أقرب ما يكون إلى السكرة التي راحت، والفكرة التي جاءت، سكرة الحرب والقتل والعدوان والطغيان والهدم والنزوح وحياة الخيام ودك المستشفيات والمقابر الجماعية والأشلاء التي تكسر القلوب لم تذهب بالمعنى المعروف، ولكن فكرة التهجير التي كثيراً ما اعتبرها إسلاميون ومعارضون ومنتقدون للنظام المصري "فزاعة" يجري استخدامها لتضخيم الخطر القادم من الحدود الشمالية الشرقية، أو "شماعة" يجري استخدامها لتبرير سياسات تضييق استثنائية، أو "ملهاة" لإلهاء المصريين عن تعويم جديد للجنيه، أو ارتفاع مرتقب لوقود، أو فرض مقيت لضريبة أو رسوم إضافية أو ما شابه، أصبحت واقعاً يحمل إمضاء رئيس الدولة الأقوى والأكثر تأثيراً في العالم.
يزخر الأثير الافتراضي بكم مذهل من التحليلات الشعبية والاجتهادات العادية لمصريين يحاولون قراءة ما يجري، هذه الأجواء المرتبكة والجهود المدهوشة تجد نفسها ممزقة بين أمس قريب كان قوامه تحول المقاطعة إلى أسلوب حياة، والدعاء لغزة وأهلها في كل صلاة، وتثبيت ملايين الملصقات الداعمة لفلسطين على كل المركبات والأبواب والهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر، وعمل "لايك" و"شير" لأي تدوينة أو تغريدة أو مناشدة يقول صاحبها إنه يطلب دعماً ما لغزاوي في مصر، أو لغزاوية تصنع الحلوى لتساعد أهلها في سداد إيجار الشقة أو شراء ملابس للصغار، من دون التحقق من صدقيتها أو التحري عن طالبها.
استيقظوا على "فكرة"
استيقظ المصريون على وقع "فكرة" التهجير بعد ما اتخذت شكلاً أكثر جدية، يميل إلى المنهج المدروس، ويجنح صوب "المخطط" الذي طال إنكاره أو إفساده أو الاحتياط منه. جانب من الارتباك يصر على التعامل مع ما قاله الرئيس الأميركي دونالد ترمب من منطلق ديني، هذه المرة يزج البعض بالمكون المسيحي إذ "المسيحيون يعملون على دعم اليهود" وهي سردية يلوكها بعض من مشايخ الإنترنت وعلى مواقع "إسلامية" غير رسمية، لكن تحظى بمتابعات مليونية وإعجابات لا تتوقف من متابعين من كل الدول العربية والإسلامية.
آخرون أصابتهم فكرة التهجير بذعر لم يكن في الحسبان، سواء خوفاً من منافسة إضافية في ملف اللاجئين الذين يرى بعضهم إنهم يقاسمون المصريين لقمة عيشهم المحدودة وفرص عملهم الضئيلة، أو تحسباً لتفريغ غزة من أهلها العرب "المسلمين" واستبدال إسرائيليين يهود بهم، أو قلقاً على سيناء التي يقفز اسمها مع كل حديث عن التهجير.
وعلى اختلاف النيات وتباين المشاعر تحرص الغالبية على بدء الحديث بـ"بالطبع هذا لا يؤثر في دعمنا لإخوتنا" أو "المؤكد أن نصرة أهل غزة لا علاقة لها بمخاوفنا" وغيرها، وكأن حرجاً ما يدور في العقل الباطن، أو إعادة نظر واضحة في ماهية الترحاب بالإخوة والدعم للأخوات الذين يفترض أنهم قدموا لمصر بصفة موقتة "لحين نصرة الإسلام وعزة المسلمين في غزة"، بحسب ما عبر أحدهم على تدوينة كتبتها سيدة من غزة على إحدى صفحات "الفلسطينيين في مصر" على "فيسبوك".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كتبت السيدة قبل ساعات "أختكم من غزة تبحث عن فرصة عمل في محيط منطقة أكتوبر وزايد، أحمل شهادة من معهد العلوم الإسلامية، واضح أن إقامتنا في مصر ستطول، وقد نفدت مدخراتي كلها، ولولا أهل الخير لتشردت في الشارع مع صغاري".
تعليقات المصريين تراوحت ما بين الدعاء لها بالستر والصحة، ومقترحات بأماكن ربما توفر لها فرصة عمل، والتساؤل عن سبب عدم الحصول على مساعدات من الفلسطينيين المقتدرين في مصر، وتأكيد "نصرة الإسلام والمسلمين" وذلك قبل السؤال عن معوقات العودة إلى غزة بعد وقف إطلاق النار!
تظاهر بالانتصار؟
عقب الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار، حاول بعض المصريين وبعض أهل غزة ممن قدموا إلى مصر هرباً من الحرب بعد رحلة عبور اعترتها كثير من المتاعب مع قدر غير قليل من السرية وحساسية المجاهرة بطريقة الدخول والشركات التي ضلعت فيها والمصروفات التي سُددت، إشاعة جو من البهجة والفرحة، على اعتبار أن المقاومة قد انتصرت وأن "حماس" لقنت العالم درساً في الصمود والانتصار، وأن غزة فرضت شروطها على إسرائيل والعالم، وبعيداً من ماهية المشاعر، وكم في المئة منها جاء نابعاً من يقين بأن غزة انتصرت، وكم في المئة كان الغرض منه إسعاد أهل غزة ورفع روحهم المعنوية، فقد أتى حديث الرئيس الأميركي "تطهير" غزة عبر تهجير أهلها إلى مصر والأردن بمثابة تلقي صفعة قوية، تؤدي إما إلى الإفاقة من حلم أو حتى كابوس، أو التعامل مع المرحلة المقبلة باعتبارها تهديداً كبيراً وخطراً عظيماً يستوجب حداً أدنى من البراغماتية في التعامل والواقعية في التناول.
وفي خضم هذه الأجواء المرتبكة شعبياً، يتساءل بعضهم عن موقف المعابر وما يقال حول العبور في هذه المرحلة الحاسمة والخطرة، قيل كثير، وكُتب كثير، وتبادل الجميع أخبار النفي المصري الرسمي لتقاضي أموال بالدولار في مقابل تأمين العبور، وكذلك قصص العابرين ممن أجمعوا على عدم الإفصاح أو تأكيد عدم معرفة من تسلم المال، وكثيراً ما تحولت تفاصيل العبور أثناء الحرب على غزة إلى أرض معركة باتت معتادة بين معارضي النظام المصري ومؤيديه ومعهم غير المؤيدين بالضرورة، ولكن الرافضين لما يسميه بعضهم بـ"الإنكار المستمر للتضحيات المصرية في ملف القضية الفلسطينية والمطالبات المزمنة بمزيد".
اليوم، وفي ضوء مطالبة ترمب بالتهجير، بل وترحيب وزير المالية الإسرائيلي اليميني بتسلئيل سموتريتش بـ"الفكرة الرائعة"، تتوارى قليلاً جدليات التفاصيل لمصلحة ملف التهجير.