ملخص
لن يشفع لبايدن تذرعه بحديث "الأوليغارشية" في نهاية أيامه، مما يعني أنه مرشح لأن يكون أحد الرؤساء الأميركيين الذين "لعنوا لاحقاً".
عرفت الحياة السياسية الأميركية للرؤساء المنقضية فتراتهم الرئاسية ما يعرف بخطاب الوداع، الذي يأتي عادة كنوع من أنواع تقديم كشف الحساب عن الفترة التي أمضاها في البيت الأبيض، ونادراً ما تخلف أحد الرؤساء عن هذا التقليد، إلا الذين لقوا حتفهم قبل اكتمال ولايتهم مثل أبراهام لنكولن وجون كينيدي.
وكان أول خطاب وداع عرفته الولايات المتحدة الأميركية هو خطاب الوداع الخاص بأول رئيس للبلاد جورج واشنطن، الذي نشر في صحيفة "بنسلفانيا بوكيت" في الـ19 من سبتمبر (أيلول) عام 1796 تحت عنوان "الجنرال واشنطن لشعب الولايات المتحدة لأعوامه الرئاسية للولايات المتحدة"، الذي حذر فيه من الإحباطات التي تحلق فوق رأس الجمهورية الأميركية الوليدة، والمخاوف من التوسع والتمدد الإمبراطوري، ذاك الذي يستجلب صراعات ليست في صالح الدولة، عطفاً على إقناع الأميركيين بأن رئاسته تلك لم تعد ضرورية بالنسبة إلى أميركا، فقد كان الأميركيون يريدونه لفترة رئاسية ثالثة، إلا أنه رفض ذلك مكتفياً بولايتين فحسب، ومن بعدها رغب في العودة إلى مزرعته وخيوله.
من بين أهم خطب الوداع للرؤساء الأميركيين المعاصرين، يتذكر الشعب الأميركي خطاب وداع الرئيس دوايت أيزنهاور، في الـ17 من يناير (كانون الثاني) 1961 الذي حذر فيه من خطورة توحش المجمع الصناعي العسكري الأميركي، والأذى البالغ الذي يمكن أن يلحق بمسارات ومساقات الديمقراطية الأميركية، حال مضى قدماً، سادراً في غيه، وهو ما جرت به المقادير لاحقاً، وها هي الأمة الأميركية تشكو تغولاً واضحاً للفكر العسكري، وبخاصة في ظل موازنة لـ"البنتاغون" تقدر بتريليون دولار، وهذا هو الرقم المعلن، فيما غالب الأمر تبدو هناك قصص وروايات خيالية حول أنشطة العسكرة الأميركية في السر لا الجهر.
نهار الأربعاء الـ15 من يناير ألقى الرئيس الأميركي جو بايدن خطاب الوداع، ولعل الغريب في أمره أنه عاد بأذهان الأميركيين إلى أوان أيزنهاور، وخطاب وداعه مرة جديدة، مع اختلاف في تسمية المجمع الذي بات يتهدد أميركا، عطفاً على تحذيره مما سماه "حكم الأوليغارشية" في الداخل الأميركي، ذاك الكفيل بأن يتهدد نسق الديمقراطية الذي قامت عليه الجمهورية منذ استقلال الولايات المتحدة، ومن غير أن يغفل أخطار تركز السلطة والثروة في يد القلة القليلة، وما يمكنها أن تفعله عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعالم المعلومات المزيفة والأكاذيب المروجة بقوة وبانتشار سريع في طول البلاد وعرضها.
هل تحولت الولايات المتحدة الأميركية بالفعل إلى دولة أوليغارشية، أم أنها في الطريق إلى ذلك بالفعل؟
في معنى "الأوليغارشية" أول الأمر
تجمع موسوعات المعرفة المختلفة من البريطانية إلى "ويكيبيديا" ومؤلفات العلوم السياسية الرصينة على أن "الأوليغارشية" تعني "حكم الأقلية"، وهي شكل من صور الحكم حين تكون السلطة في أيدي عدد صغير من الناس، أولئك الذين يتميزون عادة بواحدة أو أكثر من الخصائص، مثل النبل أو الشهرة أو الثروة أو التعليم أو السيطرة المؤسسية أو الدينية وربما السياسية أو العسكرية.
ومثل كثير من التصنيفات الأكاديمية والعلمية التي لا نزال نستخدمها اليوم، فإن مصطلح "الأوليغارشية" عُرف في الأصل من قبل الفيلسوف اليوناني أرسطو في كتابه الشهير "السياسة"، وفيه زعم أن الناس "حيوانات سياسية" اجتماعية بطبيعتها، وترغب غريزياً في العيش في مجتمع.
وعلى مر التاريخ غالباً ما كان ينظر إلى هياكل السلطة التي تعتبر "أوليغارشية" على أنها قسرية وتعتمد على الطاعة العمياء أو القمع من أجل الوجود. وقد كان أرسطو رائداً في استخدام المصطلح بمعنى حكم الأغنياء، ومقارنته بالأرستقراطية، بحجة أن "الأوليغارشية" كانت الشكل المنحرف للأرستقراطية.
وفي أوائل القرن الـ20 توسع روبرت ميتشلز في هذه الفكرة في كتابه "القانون الحديدي للأوليغارشية"، وزعم أن الديمقراطيات مثل جميع المنظمات الكبيرة تميل إلى أن تصبح "أوليغارشية" بسبب ضرورة تقسيم العمل، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى نشوء طبقة حاكمة تركز على الحفاظ على سلطتها.
وفي كتاب السياسة لأرسطو نجد دراسة للحكومات المختلفة في العالم القديم، وقد خلص الفيلسوف اليوناني الكبير إلى أن هناك ستة أنواع أساسية من الحكم، إذ يمكن أن يحكم الدولة زعيم واحد، أو مجموعة صغيرة من النخب، أو من خلال المشاركة الجماعية للشعب.
فإذا كانت القيادة تعمل لمصلحة الجميع يطلق عليها الملكية أو الأرستقراطية أو النظام السياسي على التوالي.
أما إذا أصبحت الدساتير فاسدة وكانت القيادة تعمل فقط من أجل تعزيز مصالحها الذاتية فتوصف بالاستبداد أو "الأوليغارشية".
وبالنسبة إلى أرسطو فإن "الأوليغارشية" هي شكل فاسد من أشكال الحكم، وهي عندما تكون السلطة في أيدي مجموعة صغيرة من النخب التي تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة بدلاً من الصالح العام.
ما الذي قاله بايدن بالتحديد عن علاقة الولايات المتحدة بالنخب "الأوليغارشية"؟ وهل هو على خطأ أم صواب لجهة تحول الولايات المتحدة من دولة ديمقراطية إلى نظام "أوليغارشي" فاسد؟
بايدن والتحذير من السلطة والثروة
عادة ما يطلق على الولايات المتحدة الأميركية تعبير "أميركا الكوربوراتورية"، وكأن أميركا ليست سوى شركة كبيرة يديرها مجلس إدارة منتخب، وتساق بمفاهيم الربح والخسارة، وغالب الظن أن هذا صحيح للغاية، لا سيما أن الآباء المؤسسين كانوا قد اعتنقوا الفلسفة السياسية الحديثة للمنظر الإيطالي الأشهر نيكولا ميكيافيللي، وبراغماتيته الشهيرة، ومن هنا ارتبطت العملية السياسية في الداخل الأميركي بالثروة ارتباطاً جذرياً يكاد يكون زواجاً كاثوليكياً.
وعلى رغم ذلك حاول بايدن أن يقدم رؤية تاريخية قابلة للنقد الكبير والخطر، ففي خطاب وداعه أشار إلى أنه "قبل أكثر من قرن من الزمان وقف الشعب الأميركي في وجه بارونات السطو آنذاك، وحطم صناديق الثقة، ولم يعاقبوا الأثرياء، بل أجبروهم على التزام القواعد التي وضعها الآخرون".
من هذا المنطلق أكد بايدن مخاوفه من تركيز السلطة في أيدي حفنة قليلة من الأثرياء للغاية، والعواقب الخطرة المترتبة على ترك إساءة استخدامهم السلطة من دون رادع.
وقال بايدن "اليوم تتشكل في أميركا حكومة قلة من الثراء الفاحش والسلطة والنفوذ تهدد حرفياً ديمقراطيتنا بأكملها، وحقوقنا وحرياتنا الأساس، وفرصة عادلة للجميع للتقدم، ونحن نرى العواقب في مختلف أنحاء أميركا وقد رأينا ذلك من قبل".
هل كان خطاب بايدن، وكما رأى كثير من المحللين السياسيين الأميركيين، الذين تابعوه، خطاباً سوداوياً متشائماً إلى أقصى حد ومد؟ أم أنه جاء خطاباً واقعياً يكشف الغطاء عن الحالة السياسية الراهنة التي أضحت عليها الولايات المتحدة الأميركية؟ أو ربما بمعنى أدق التي كانت عليها منذ نشأتها وحتى الساعة، ولم يكن كثر ينتبهون للأمر، غير أنه مع شيوع وذيوع وسائل التواصل الاجتماعي وتبعات المجتمع الرقمي بات ما يقال همساً في المخادع ينادى به قولاً وفعلاً من فوق السطوح؟
من الواضح للغاية أن ولاية بايدن التي بدأت بوعود باستعادة روح أميركا قد انتهت بإخفاقات عديدة، تمثلت في انخفاض معدلات التأييد التي حققتها إدارته، وفي وقت هو يترك البيت الأبيض يخلف من وراءه قضية الحكم "الأوليغارشي" والمخاوف التي أسهم في صنعها، لجهة اختطاف روح الديمقراطية من قبل مجموعات البراغماتيين وأصحاب رؤوس الأموال.
هل باتت أميركا "أوليغارشية" بالفعل؟
ربما فتح بايدن بخطاب وداعه "صندوق باندورا" حول شأن الحكم في الداخل الأميركي، وهل تحول بالفعل من السياقات الديمقراطية إلى أنظمة مناوئة لها بالمطلق أي أوليغارشية؟
تبدو كلمات خطاب بايدن واقعية في ضوء الدراسات التي قُدمت من جانب جامعة "برينستون" الأميركية الشهيرة، فقد وجد تحليل 1779 من نتائج السياسات الأخيرة أن "النخب الاقتصادية والمجموعات المنظمة التي تمثل مصالح الأعمال لها تأثيرات مستقلة كبيرة على سياسة الحكومة الأميركية"، في حين أن المواطنين العاديين "لا يتمتعون بأي تأثير مستقل أو تأثير ضئيل في أفضل الأحوال ".
ماذا يعني ذلك؟
بعبارة مقتضبة، يعني ذلك أن الولايات المتحدة هي نظام حكم يحكمه عدد صغير من النخب، أما بقية الدول الأخرى فليست كذلك.
البحث الذي نحن بصدد الحديث عنه أجراه اثنان من علماء السياسة، مارتن جيلينز وبنجامين بيج، وكان من جزءين، أولاً قاسا مقدار النفوذ السياسي الذي تتمتع به مجموعات مختلفة في أميركا، ثم قارنا ذلك ببعض التعريفات الفنية للديمقراطية والحكم "الأوليغارشي" وأشكال أخرى من الحكم.
وأسفرت الدراسة عن نتائج مثيرة بالفعل، ذلك أنه في ما يتعلق بالسياسة العامة في قرارات الكونغرس، جاء تأثير المواطنين العاديين بحدود الخمسة في المئة، أما مجموعات المصالح فتمثل ضغوطاً في حدود 24 في المئة، ومجموعات رجال الأعمال نسبة مشاركتها في صناعة القرار الأميركي تمثل 43 في المئة، بينما الطامة الكبرى هي أن الأثرياء في الداخل الأميركي يمتلكون قدرات تصل إلى 73 في المئة على صناعة القرار السياسي للكونغرس.
دراسة "برينستون" المشار إليها تكاد تقطع بأنه ليس الأثرياء في الداخل الأميركي فقط هم من يمتلكون اليد العليا في صياغة وصناعة القرار الأميركي، بل الكارثة وليس الحادثة هي أن المواطنين الأميركيين الاعتياديين لا يتمتعون بأي نفوذ تقريباً. عن أي ديمقراطية غناء يتكلمون؟
حديث بايدن عن "الأوليغارشية" الأميركية القادمة، بل حكماً القائمة، يفتح الباب أمام معضلة أخرى، ذلك أن المشكلة الكبرى في الداخل الأميركي اليوم ليست في وجود الثروة، أو في أن الأميركيين الأثرياء لديهم آراء سياسية، بل إن المشكلة الكبرى تكمن في أن الحكومة لا تمثل سوى 10 في المئة من الشعب الأميركي، أما الآخرون فيعيشون في ظل شيء أقل من الديمقراطية.
وتبدو "الأوليغارشية" الأميركية اليوم مقنعة، بمعنى أنها تتستر في ثياب المجموعات المنظمة التي تمارس الضغوط بصورة منتظمة وتقيم علاقات ودية مع المسؤولين الحكوميين، وتنتقل بين الوظائف العامة والخاصة، وتقدم معلومات تخدم مصالحها الذاتية إلى المسؤولين، وتصوغ التشريعات، وتنفق قدراً كبيراً من المال على الحملات الانتخابية.
هل الأمر جد خطر؟
في جوهرها هذه مشكلة فساد ناجمة عن دور المال في النظام السياسي الأميركي، وهذا الفساد يتعارض - جوهرياً مع المثل العليا للجمهورية الأميركية، التي يبدو أنها على موعد مع التحول إلى الإمبراطورية، مما يتجلى من خلال طروحات ترمبية قبل أن يدخل البيت الأبيض، بعضها مرتبط بجزيرة غرينلاند في القطب الشمالي، وبعضها الآخر في المكسيك، فيما الجائزة الكبرى التي تتطلع إليها أعين ترمب قائمة في كندا والمكسيك.
هنا تبدو الإشكالية، إذ يتحول حراس النظام من الشعب الأميركي، كما يتكلم المؤرخ الأميركي الشعبوي هوارد زين، وهؤلاء هم الأكثر حرصاً على مصالح الجمهورية، إلى دائرة أصحاب المصالح الذين عادة ما تكون ولاءاتهم لمصلحة أنفسهم وأعمالهم.
ولعل الناظر إلى نظام تمويل الانتخابات الأميركية من عند حملات أصغر بلدية في الداخل الأميركي وصولاً إلى مقام الرئاسة يعرف أين يوجد العطب الرئيس الذي يقود إلى حكم "الأوليغارشية"، من منطلق أن "من يدفع للجوقة هو من يحدد اللحن". على أن تساؤلاً شغل عقول الأميركيين "لماذا تذكروا جميعاً خطاب أيزنهاور حين استمعوا إلى خطاب بايدن؟".
مجمع بايدن الصناعي التكنولوجي
قبل نحو 64 عاماً، وكما أشرنا إلى ذلك سلفاً، توقف الجنرال - الرئيس أيزنهاور، في خطاب وداعه أمام المؤسسة الصناعية العسكرية، التي كانت تعد في ذلك الوقت أخطر جماعة ضغط في الداخل الأميركي والمهدد الأكبر للديمقراطية.
على أن ذلك التهديد تطور لاحقاً، فبات هناك مجمع الأوراق المالية في "وول ستريت"، ثم لوبي النفط الذي أوصل رؤساء بعينهم إلى البيت الأبيض مثل بوش الأب وبوش الابن، مروراً بجماعات الضغط الخاصة بكارتلات الأدوية، ومن غير إغفال للمجمع الاستخباري، الذي يمثل حجر الزاوية في الدولة الأميركية العميقة.
اليوم يضع الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن الأميركيين والعالم أمام مجمع آخر، موصول بعالم الصناعات التكنولوجية، إذ باتت "أوليغارشية" معرفية مغايرة، تتحكم في مفاصل الجمهورية الأميركية، "أوليغارشية" تتمثل في الحوسبة الكمومية والمعرفة الرقمية والذكاءات الاصطناعية.
قال بايدن "الآن وبعد ستة عقود من تحذيرات أيزنهاور أشعر بالقدر نفسه من القلق في شأن الصعود المحتمل لمجمع صناعي تكنولوجي".
والشاهد أن الصعود الصاروخي للمعرفة التكنولوجية بات يطرح تساؤلات جدية عن العلاقة بين التقدم التكنولوجي والتراجع الإنسانوي، بمعنى الخوف من توحش الآلات على حساب البشرية.
وكانت الانتخابات الرئاسية الأميركية منذ عام 2016 وحتى انتخابات 2024 مجالاً خصباً لسطوع شمس "الأوليغارشية" المعرفية الرقمية.
وخسرت هيلاري كلينتون الانتخابات في 2016 من جراء قدرة معرفية اخترقت أجهزة حواسيب الحزب الديمقراطي، وكشفت للعالم تآمراً داخلياً على المرشح المنافس لها بيرني ساندرز.
في 2020 بدا أن هناك جزءاً بالغاً من خسارة ترمب، حدث بسبب التضييق عليه معلوماتياً من خلال وقف حساباته على "تويتر"، مما دعاه لاحقاً إلى إنشاء شبكته الخاصة "تروث" للترويج لما يود أن يروجه.
في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 اكتسح الجمهوريون الديمقراطيين، ومن ضمن أسباب عدة كان نجاح المنافسة عبر المقدرات المعرفية التكنولوجية، إلى درجة أن الجمهوريين أنفسهم فوجئوا بهذه النتيجة الهائلة، التي وقفت وراءها مقدرات تكنولوجية غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية.
على أن الوجه الآخر من هذه المخاوف بات يرتبط ارتباطاً جذرياً بالثروات الهائلة التي يمتلكها القائمون على هذا المجمع الصناعي التكنولوجي، مما يعني أنهم يمتلكون ضلعين من أضلع النفوذ الإمبراطوري الأميركي، أي المال والمعرفة، وكلاهما مكمل ومتمم للضلع الثالث أي القوة المسلحة.
ويمكن لنا هنا أن نتساءل هل هذا التزاوج بين الثروة والمعرفة يخضع الديمقراطية الأميركية بالفعل لرغبات "الأوليغارشيين" الذين باتوا ظاهرين غير خفيين؟
"أوليغارشية" معلوماتية تحكم أميركا
قديماً قيل في زمن الإمبراطورية الرومانية أن من يعطي الخبز هو القادر على إعطاء الشريعة، واليوم يبدو الخبز المعرفي أهم بكثير من الخبز الجسدي، وعليه فإن من يتحكم في المقدرات المعرفية التكنولوجية هو عينه من سيتحكم لا في الداخل الأميركي فحسب، بل حول العالم برمته.
سريعاً توقف بايدن في خطاب وداعه مع جزئية في غاية الأهمية باتت عنصراً فاعلاً في بناء الأمم بل والإمبراطوريات، تلك الموصولة بالرقائق الإلكترونية، التي تدور من حولها الصراعات حول العالم، بل جزء كبير من المواجهة الصينية - الأميركية تجري من حولها .
في خطابه لفت بايدن النظر إلى قضية المعرفة "الأبوكريفية" أو المنحولة، التي تنتشر كالنار في الهشيم أميركياً وعالمياً، من جراء امتلاك وسائل المعلومات العصرانية.
وأكد بايدن أن "تخلي وسائل التواصل الاجتماعي عن التحقق من الحقائق، يمكن أن يشكل خطراً كبيراً على حرية المعلومات والسعي وراء الحقيقة في الولايات المتحدة"، مضيفاً أن "الصحافة الحرة تنهار" وتفسح المجال أمام "أنهار من المعلومات المضللة والمغلوطة التي تمكن من إساءة استخدام السلطة"، وأضاف "الحقيقة تطغى عليها الأكاذيب التي تروى من أجل السلطة والربح. يتعين علينا أن نحمل منصات التواصل الاجتماعي المسؤولية عن حماية أطفالنا وأسرنا وديمقراطيتنا ذاتها من إساءة استخدام السلطة".
على أن حديث بايدن لجهة المعلومات والسلطة والثروة، يتضمن تناقضاً قوياً، بين حرية إتاحة المعلومات من جهة، مما ينظمه الدستور الأميركي ضمن أهم النقاط الجوهرية التي حرص عليها المؤسسون، أي حرية الرأي والقول والمكاشفة والمصارحة وعدم التعرض لأي صاحب رأي.
لكن على الجانب الآخر تطفو نازلة من النوازل، تلك المتمثلة في عدم القدرة على التحقق من صدقية كل ما يقال أو يذاع، ما ينشر وما يكتب، لا سيما في ظل سهولة أن يضحى كل من يمتلك هاتفاً ذكياً صحافياً وكاتباً، معلقاً ومذيعاً، ناشراً، بل قاضياً مجازاً يصدر أحكاماً.
أما الطامة الكبرى التي تنتظر الداخل الأميركي والعالم برمته فتتمثل في سياقات الذكاء الاصطناعي، إذ سيضحى من شبه المستحيل الفرز والتمييز بين ما هو حقيقي وما هو مزيف، بل إن خطورة الذكاءات الاصطناعية تتمثل في مقدرتها على خلق عوالم موازية وليس عالماً واحداً، مما يجعل أصحاب الشركات التكنولوجية والمواقع الاجتماعية والمحطات الفضائية والإذاعات الدولية والصحف الرقمية هم أصحاب اليد الطولى في الترويج للأفكار وصناعة القرار الأميركي.
هل بايدن على حق في إبداء مخاوفه على هذا النهج؟ وهل بات المجمع الصناعي التقني هو الوجه الثاني لـ"الأوليغارشية" السياسية السلطوية الأميركية؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رئاسة ترمب وتجليات "الأوليغارشية"
في إدارته الثانية من الواضح أن ترمب يحيط نفسه بالمليارديرات النافذين على سطح الحياة الأميركية، وبما يمكن أن يجعل، بالفعل، من مخاوف بايدن واقع حال مؤكداً لا محتملاً. ووفقاً لأحد التقديرات التي أوردها الكاتب الأميركي جويل ماتيس من مجلة "الأسبوع الأميركي"، فإن ترمب يجمع من حوله طائفة من أغنى المستشارين وأعضاء مجلس الوزراء في تاريخ أميركا، بثروة إجمالية تقدر بنحو 450 مليار دولار، وأبرزهم إيلون ماسك، أغنى رجل في العالم، الذي شهدت مسيرته السياسية تحولاً غريباً، وقد يراه بعض المراقبين مريباً، من رجل يرفض أن يقدم لترمب دولاراً واحداً لحملته الانتخابية قبل عام إلى متبرع بنحو 130 مليون دولار في الشهرين الأخيرين من حملة الرئيس المنتخب.
في هذا السياق يعتقد البروفيسور بيرني ساندرز المستقل من ولاية فيرمونت، وكما جاء في تصريحاته لبرنامج "قابل الصحافة" على قناة "أن بي سي" أن "الولايات المتحدة تتحرك بسرعة نحو شكل أوليغارشية من أشكال المجتمع"، وأضاف "لم يحدث من قبل أن امتلك مليارديرات في أميركا مثل هذه الثروة والسلطة".
ويبدو حديث ساندرز واقعياً شكلاً ومضموناً، وهو ما يتفق فيه معه سكون نوفر من مجلة "سلايت"، ويرى أنه "غالباً ما ينظر إلى الأوليغارشيين على أنهم رجال أعمال من أوروبا الشرقية يتمتعون بنفوذ كبير على الحكومة"، لكن الأمر لم يعد كذلك، فقد حان الوقت لتوسيع تعريف "الأوليغارشي" والبدء في "تطبيق الوصف ليس فقط على ماسك ولكن على كثير من أثرياء أميركا".
والثابت أن إدارة ترمب الثانية تواجه بالفعل تساؤلاً جذرياً عما إذا كانت بالفعل "إدارة أوليغارشية" لا سيما أن الأمر يتجاوز إيلون ماسك، فهناك مارك زوكربيرغ، رجل "فيسبوك"، الذي بلغت به الطموحات، ذات مرة، حد التفكير في إصدار عملة عالمية عبر أدواته المعرفية التي باتت إحدى أدوات السيطرة على العالم.
إلى جانب ماسك وزوكربيرغ يوجد رجل الملياردير الأشهر، مؤسس مجموعة "أمازون" العملاقة، تلك التي باتت لاعباً فاعلاً ومؤثراً في الداخل الأميركي، وكذلك في الخارج، جيف بيزوس، وهناك كذلك المدير التنفيذي لشركة "أبل" تيم كوك، والمدير التنفيذي لشركة "غوغل" ساندر بيتشاي، والرئيس التنفيذي لشركة "تيك توك" شو تشيو.
ما معنى ذلك؟ باختصار، أنه الآن أكثر من أي وقت مضى ستعتمد الطريقة التي تتفاعل بها شركات التكنولوجيا مع الحكومة الفيدرالية على تفاعل قادتها مع الرئيس. وإذا كان هذا يبدو وكأنه احتمال قائم، فيجب أن يكون مألوفاً أيضاً لمستهلكي الأخبار السياسية المزعجة ولكن إلى حد ما التي تحركها الشخصية بصورة لا مفر منها خلال الإدارة الأخيرة. على أن أحد الأسئلة المثيرة التي يطرحها حديث بايدن عن "الأوليغارشية" التي تبدو محلقة من حول ترمب "هل مصالح هؤلاء متطابقة؟ أم أن أميركا يمكنها أن تشهد حرباً طاحنة ضروساً بينهم مما يزيد احتقان الديمقراطية في الداخل الأميركي؟".
يتساءل جون هيرمان كاتب العمود في موقع "إنتلجنسر" هل سيقنع ماسك ترمب بتهميش جيف بيزوس؟ وهل سيتمكن هو أو مارك أو ساندر بطريقة ما من السيطرة على "تيك توك"، أم سيقنع ترمب بتركه يموت؟ ما الذي سينعكس على ملايين الأميركيين من العملاء والمستخدمين والموظفين والمشاركين في الاقتصاد من مناقشات مليارديرات ترمب في منتجعه الفاخر في "مارالاغو" حيث يتبدى بوضوح بالغ الفارق الشاسع الذي يعزل الأميركيين ما بين "البروليتاريا" الفاعلة، و"الأوليغارشية" الحاكمة.
لم يعد أصحاب المليارات الأثرياء يؤثرون في السياسة من وراء الكواليس فحسب، بل إنهم في إدارة ترمب يستولون رسمياً على السلطة، وهذا أمر خطر، لا سيما أنه يعني مطابقة بين النظام الأميركي الذي لم ينفك يسبح بحمد ومجد الإمبراطورية الديمقراطية، مع الأنظمة "التوتاليتارية" الشمولية، لا سيما أنه غالباً ما يمس الأثرياء والأقوياء، الخط الفاصل بين المناصب العامة والمصالح الخاصة.
خلال رئاسته حذر الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأميركية توماس جيفرسون من الأخطار المناهضة للديمقراطية المتمثلة في تركيز الثروة قائلاً عام 1816 إن الأشخاص المهتمين بالربح ليسوا "الأشخاص الذين يمكن الوثوق بهم للحفاظ على نقاء الحكومة وحقوقنا آمنة". على أن السؤال الأخير قبل الانصراف "من المسؤول عما وصلت إليه الأحوال في الولايات المتحدة؟".
مسؤولية بايدن والنخبة السياسية الحاكمة
يتبقى التساؤل الأخير قبل الانصراف "هل بايدن بريء تماماً هو والنخبة السياسية التي عمل معها من وصول الأوليغارشيين إلى قمة الهرم الأميركي؟".
يحاجج الكاتب الأميركي جون ماكغويرك من "ناشيونال إنترست" بأن بايدن ليس بريئاً تماماً، فقد عمل طوال 50 عاماً في حقل السياسة الأميركية ومع رؤساء بدءاً من نيكسون، وعليه فإنه ليس من المنطقي أن يحذر اليوم بعدما اختلت الأمور، وكان من الممكن، بل من الواجب أن يسارع إلى محاربة تلك الأوضاع التي اختلت فيها مستويات المساواة وتوزيع الثروة بين الأميركيين.
لن ينسى الأميركيون أن بايدن تطارده اتهامات استغلال نفوذه حين كان نائباً لأوباما، وتورطه مع شركات النفط في أوكرانيا، والدور الذي لعبه في حماية ابنه هانتر وقتها، وصولاً إلى استغلاله منصبه الرئاسي وحقه في العفو عن ابنه، مما أفقده ما تبقى له من صدقية عند عموم الأميركيين.
لن يشفع لبايدن تذرعه بحديث "الأوليغارشية" في نهاية أيامه، مما يعني أنه مرشح لأن يكون أحد الرؤساء الأميركيين الذين "لعنوا لاحقاً".