ملخص
تواجه الصين تباطؤاً اقتصادياً كبيراً، مما يتيح للولايات المتحدة فرصاً لتقليل الاعتماد على سلاسل التوريد الصينية وتعزيز سياسات تجارية أكثر صرامة تحت إدارة ترمب لكن المخاطر التي قد تواجهها أميركا قد تشمل ارتفاع التكاليف والركود الاقتصادي وتحديات إعادة توجيه سلاسل الإمداد.
تختلف الصين التي سيواجهها الرئيس المنتخب دونالد ترمب عام 2025 جذرياً عن تلك التي واجهها عند مطلع ولايته الأولى عام 2017، أو حتى عن تلك التي فاوضها في شأن اتفاق تجاري قرب نهاية عهده الماضي. الآن، وللمرة الأولى منذ أكثر من أربعة عقود، تنخفض حصة الصين من الاقتصاد العالمي، فبعدما بلغت ذروتها لتتخطى 18 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي عام 2021، تسجل اليوم نحو 16 في المئة فحسب.
تباطأ النمو الاقتصادي في الصين بصورة كبيرة منذ انهيار قطاع العقارات داخلها عام 2021 والأثر الذي خلفته القيود المرتبطة بجائحة كورونا على جميع أنواع النشاط الاقتصادي عام 2022. ولم يشهد الطلب المحلي واستهلاك الأسر سوى انتعاش محدود بعد رفع تلك القيود نهاية عام 2022. وبينما أظهرت معدلات النمو الرسمية للناتج المحلي الإجمالي الصيني ارتفاعاً طفيفاً، فإن اختلال التوازنات التجارية وانخفاض الأسعار المحلية يشير إلى واقع اقتصادي أكثر قتامة. ولا تزال الصين اقتصاداً مستنداً إلى الاستثمار، وهي تمثل أكبر مصدر للاستثمار في العالم (نحو 28 في المئة) وأكبر منتج صناعي عالمي (35 في المئة)، لكنها تشكل فقط نحو 12 في المئة من الاستهلاك العالمي. ولا يستطيع الاقتصاد المحلي الصيني توليد ما يكفي من الطلب لاستيعاب ما تنتجه البلاد. ولتحقيق النمو، إذاً، تعتمد بكين في صورة متزايدة على تصدير فائض الإنتاج الصناعي الذي لا يمكن استيعابه في السوق المحلية. لكن الصين لا يمكنها تحقيق مكاسب إضافية إلا إذا قللت الدول الأخرى من استثماراتها في التصنيع، أو إذا وسعت بكين حصتها من الصادرات العالمية.
هذا التراجع في الآفاق الاقتصادية للصين يمنح الولايات المتحدة أدوات جديدة للحد من نفوذ بكين. ويمكن لواشنطن استغلال أثر الأسواق الاستهلاكية ورؤوس الأموال الأميركية لتقدم إلى حلفائها وشركائها بديلاً أفضل من إغراق أسواقهم بالصادرات الصينية. ومع تصاعد المخاوف في شأن هيمنة الصين على سلاسل التوريد الصناعية العالمية، قد يكون حلفاء الولايات المتحدة وشركاؤها أكثر استعداداً الآن مما كانوا عليه قبل بضعة أعوام لتنسيق سياساتهم مع واشنطن، بما في ذلك التعريفات الجمركية والقيود المتعلقة بالتكنولوجيا، كجزء من استراتيجية أوسع "لتقليل المخاطر" تهدف إلى تقليص انكشاف الاقتصادات الغربية على الصين.
إذا أرادت إدارة ترمب المقبلة تنفيذ هذه الاستراتيجية بصورة فعالة، سيتعين عليها التفكير ملياً في خططها الخاصة بالتعريفات الجمركية. ويقترح ترمب فرض رسوم جمركية تصل إلى 60 في المئة على الواردات الصينية كلها و10 في المئة على المنتجات الآتية من باقي بلدان العالم. لكن تطبيق رسوم جمركية مرتفعة على شركاء الولايات المتحدة التجاريين قد يؤدي إلى سلسلة من التداعيات الضارة على الاقتصادات الغربية، مثل ارتفاع الكلف وانخفاض الطلب وتباطؤ تنويع سلاسل التوريد. والخيار الأفضل سيكون فرض تعريفات انتقائية على القطاعات الحيوية التي تهدد فيها الصادرات الصينية تنافسية الصناعات الغربية، مع الجمع بين ذلك واستراتيجية استثمار استباقية لبناء وتوسيع سلاسل التوريد الحيوية التي تستثني الصين.
لدى الولايات المتحدة والدول وشركائها فرصة للبناء على الزخم الحالي لإعادة تشكيل النظام التجاري العالمي، بما يتماشى مع أهدافهم المتعلقة بالأمن القومي. وبغض النظر عن الطريقة التي ستتبعها واشنطن، فإن الاضطراب الاقتصادي أمر لا مفر منه، وسترد الصين بالتأكيد. لكن نطاق استراتيجية التعريفات الجمركية للإدارة الثانية لترمب سيحدد مدى الخسارة التي ستتكبدها الأطراف المشاركة في هذه العملية.
جاذبية متلاشية
لم يعد الاقتصاد الصيني اليوم القوة الجبارة التي كان عليها قبل بضعة أعوام فحسب. فمنذ الأزمة التي شهدها قطاع العقارات داخل البلاد عام 2021، تقلصت مساحة البناء السنوي للعقارات الجديدة بنسبة 66 في المئة. وأدى ذلك بدوره إلى تأثيرات متتالية على قطاعات أخرى في الاقتصاد، بما في ذلك صناعات الصلب والأسمنت والأثاث والأجهزة المنزلية، مما تسبب في تراجع كبير في الإنفاق الاستهلاكي. كما تباطأ الاستثمار الحكومي المحلي في البنية التحتية بصورة ملحوظة خلال الأعوام الأخيرة، نتيجة القيود المفروضة بسبب مستويات الدين المرتفعة.
هذا وسيمتد آثار هذا الضرر لأعوام مقبلة، سواء داخل الصين أو في الدول التي اعتمدت على الطلب الصيني القوي لتصدير سياراتها وسلعها وخدماتها. وتعتمد الصين نفسها بصورة أكبر بكثير اليوم على الأسواق الخارجية لبيع منتجاتها المصنعة مقارنة بالماضي، وهي ديناميكية تسهم في زيادة تأثرها الحالي بالتعريفات الجمركية وصور أخرى من القيود على الصادرات.
من المرجح أن تكون وضعية الصين أسوأ بكثير مما تشير إليه بيانات الناتج المحلي الإجمالي الرسمية. كثيراً ما كانت هناك تناقضات في الإحصاءات الاقتصادية المعلنة في الصين، كما هي الحال في دول نامية أخرى، لكن منذ عام 2022 أصبح من الصعب أكثر أخذ مزاعم بكين على محمل الجد. وتشير البيانات الرسمية إلى أن النمو تباطأ خلال فترة الإغلاق المرتبطة بجائحة كورونا بمقدار نقطتين إلى ثلاث نقاط مئوية فقط مقارنة بمعدلات النمو قبل الجائحة، ليصل إلى ثلاثة في المئة عام 2022، ثم عاد ليتعزز في صورة قوية إلى أكثر من خمسة في المئة عام 2023. لكن بالنظر إلى أن بكين لم تنفذ الإصلاحات اللازمة لضمان هذا التوقع الإيجابي على صعيد معدل النمو، يتلخص الواقع الأكثر احتمالاً في أن الاقتصاد الصيني انكمش عام 2022 وبالكاد تعافى خلال عام 2023.
إدارة ترمب ستحتاج إلى التفكير بعناية في خططها الخاصة بالرسوم الجمركية
يشرح هذا التباطؤ الدراماتيكي سبب تطبيق بكين إجراءات تحفيزية اقتصادية أكثر صرامة أواخر عام 2024، بما في ذلك خفض معدلات الفائدة، وإطلاق برامج مخصصة لدفع الاستهلاك المحلي، وإصدار سندات جديدة تستهدف تخفيف القيود على الديون التي ترتبت على الحكومات المحلية بسبب الاستثمار، إضافة إلى وعود بمزيد من الدعم المالي عام 2025. وتحولت الخطابات الرسمية الصينية من الإصرار على أن الطلب المحلي لا يعاني أية مشكلات إلى تأكيد أنها تدرك خطورة النقص، ولا سيما في استهلاك الأسر. لكن تحول الاقتصاد الصيني بعيداً من النمو المستند إلى الاستثمار لن يحدث بسرعة، والدعم المقدم إلى الأسر حتى الآن يبدو غير كاف لرفع الدخول وتعزيز نمو إنفاق أكثر استدامة.
خلال الأعوام القليلة الماضية، وسعت الصين صادراتها إلى أسواق جديدة، ولا سيما في دول جنوب شرقي آسيا، في خطوة تهدف ظاهرياً إلى تقليل تعرضها للتعريفات الجمركية أو القيود التجارية التي قد تفرضها أية دولة بمفردها، بما في ذلك الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن جزءاً كبيراً من هذا التنويع يبدو سطحياً، إذ تشحن السلع الصينية عبر دول ثالثة قبل أن تصل إلى نفس المستهلكين في الولايات المتحدة وأوروبا كما كانت الحال سابقاً. وتدرك واشنطن هذه الطريقة للالتفاف على التعريفات الجمركية، وقد تشمل جهودها المستقبلية لوقفها فرض قيود أشد، مثل حظر استيراد منتجات معينة.
واستعداداً لهذه الإجراءات الأميركية، وللبحث عن أسواق أكثر جدوى مما هو متوافر محلياً، تقوم الشركات الصينية بالاستثمار في الخارج، وإنشاء مصانع في دول ثالثة مثل المكسيك وفيتنام لتتمكن من التصدير إلى الولايات المتحدة دون الخضوع للتعريفات الجمركية. ومع ذلك، من غير المؤكد ما إذا كانت هذه الاستراتيجية ستظل فعالة مع تطور القيود التجارية الأميركية مستقبلاً. وإضافة إلى مشكلات بكين، يخطط عدد من الشركات الأجنبية المستثمرة داخل الصين، والتي تنتج حالياً نحو 30 في المئة من صادرات البلاد، لنقل الإنتاج إلى الخارج رداً على ضعف الطلب المحلي في الصين.
حققت واشنطن أيضاً تقدماً على بكين في سباق القيادة التكنولوجية في الصناعات الرئيسة. فقد بدأت الولايات المتحدة منذ إقرار قانون حوافز إنتاج أشباه الموصلات "CHIPS" وقانون خفض التضخم عام 2022، بتعزيز قدراتها المحلية في مجال التقنيات المتقدمة، إلى جانب اتخاذ خطوات أكثر حدة للحد من وصول الصين إلى التقنيات الأميركية من خلال قيود على التصدير والاستثمار. وخلال ولاية ترمب الأولى، طبقت إدارته سياسات تستهدف شركات الاتصالات الصينية وأرسلت إشارات متضاربة في شأن التنظيمات المتعلقة بوصول الشركات الأميركية إلى الأسواق الصينية في اتفاق التجارة المرحلية الذي أبرمته مع بكين أوائل عام 2020. وفسرت الشركات المتعددة الجنسيات هذه التناقضات بأنها دليل على استبعاد الانفصال الكامل بين سلاسل الإمداد التكنولوجية الأميركية والصينية. والآن، وبعد جولات متعددة من فرض قيود تفصيلية على الصادرات، وقيود على سلاسل الإمداد الخاصة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، إضافة إلى مزيد من القيود على الاستثمارات الخارجية في عهدي ترمب وبايدن، فضلاً عن تطبيق الولايات المتحدة الصارم لهذه القواعد، تعيد تلك الشركات حساباتها وتوجه استثماراتها بعيداً من الصين.
تحول متعثر
يعد هذا التحول جانباً واحداً من ردود فعل العالم تجاه السياسات التجارية الصينية. واليوم، لا ينتظر عدد من البلدان أن يغريها مفاوضو ترمب بالتوافق مع مبادرات تقليل الأخطار الأميركية، إذ إن التباطؤ الاقتصادي للصين والمخاوف المتزايدة المتعلقة بالأمن القومي الناتجة من الاعتماد على سلاسل الإمداد المتمركزة حول الصين يوفران حافزاً كافياً لذلك. وتعد استراتيجية النمو الصينية بطبيعتها تصادمية وأن نموها الاقتصادي وتحقيقها للمكاسب يأتي بالضرورة على حساب الدول الأخرى، فهي لا تضيف إلى الطلب العالمي بل تتنافس بصورة أكثر عدوانية في الأسواق الخارجية.
أما البلدان الصناعية المتقدمة، التي تهدد المنتجات الصينية الرخيصة صناعاتها، ولدى بلدان الجنوب العالمي التي تكافح للانتقال إلى درجة أعلى في سلسلة القيمة، فلديها أسباب واضحة للحد من صادرات الصين. وهذا التوافق في المصالح لم يكن موجوداً خلال الفترة الرئاسية الأولى لترمب.
لا يجعل تباطؤ اقتصاد الصين سوقها أقل جاذبية للشركاء التجاريين والمستثمرين الدوليين فحسب، بل يعطي أيضاً دولاً أخرى ولا سيما منها الأوروبية ذات الاقتصادات المتقدمة سبباً أكبر للتوافق مع الولايات المتحدة، في شأن الرسوم الجمركية والقيود الأخرى على صادرات الصين، فهي إن لم تفعل ذلك ستؤدي الرسوم الجمركية الأميركية على صادرات الصين إلى تسرب تلك الصادرات إلى أسواقها. علماً أن بعض دول مجموعة السبع تفكر بالفعل في فرض تعريفات واحتياطات استباقية لتجنب طوفان محتمل للصادرات الصينية في أسواقها.
الاقتصاد الصيني ليس اليوم القوة الكبيرة التي كان عليها قبل بضعة أعوام فقط
حتى مع اتجاه هذه التطورات نحو إعادة توجيه سلاسل التوريد بعيداً من الصين، لا يزال يتعين على الولايات المتحدة وشركائها مواجهة اقتصاد عالمي يزداد اختلالاً. وكما أوضح الاقتصادي براد سيتسر، فإن مجموعة السبع والدول المتقدمة الأخرى تعاني الآن عجزاً تجارياً جماعياً، في حين تحقق الصين وروسيا وعدد من الدول المعتمدة على السلع الأساس [المواد الخام التي تستخدم في الإنتاج والاستهلاك العالمي، مثل النفط والمعادن والمنتجات الزراعية] فوائض تجارية. وهذا يجعل تنفيذ استراتيجية تقليل الأخطار بقيادة الولايات المتحدة تحدياً معقداً. وستحتاج الولايات المتحدة وشركاؤها إلى بناء القدرات الصناعية التي تمكنها من تقليل الواردات من منافسيها الجيوسياسيين.
ستكون محاولات دول مجموعة السبع لإحداث تحول سريع في هذا الهيكل الاقتصادي الكلي من طريق خفض الواردات من السلع بصورة حادة مدمرة للغاية. وعلى المدى القريب، ستؤثر هذه الإجراءات على مستويات المعيشة في الاقتصادات المتقدمة بطرق ذات تأثير سياسي كبير، إذ ستجعل التعريفات الجمركية الكبيرة على السلع الصينية منتجاتها أقل تنافسية في الأسواق الأميركية، وفي غياب موردين بدلاء لتلك المنتجات سترتفع أسعار المنتجات الاستهلاكية على الأميركيين والمكونات الوسيطة للمصنعين الأميركيين. وسيتعين على الجمهور الأميركي إما دفع أسعار أعلى مما سيرفع معدل التضخم، أو مجرد تقليص الاستهلاك المنزلي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حجم التدابير يلعب دوراً مهماً هنا. فإذا تبنت إدارة ترمب استراتيجية شاملة بفرض تعريفات جمركية مرتفعة على نطاق واسع، فإن الانخفاض الكبير في الطلب المحلي داخل الولايات المتحدة قد يؤدي على الأرجح إلى ركود اقتصادي في اقتصادات مجموعة السبع. وستصبح المبادرات الصناعية الجديدة أقل جاذبية للمستثمرين، مما يصعب على هذه الدول تقليل اعتمادها على سلاسل التوريد الصينية وخدمة الأسواق المتقدمة. أما التعريفات الجمركية المعتدلة نسبياً، مثل الرسوم الإضافية بنسبة 10 في المئة على السلع الصينية التي اقترحها ترمب أخيراً، فستكون أقل كلفة وستسبب اضطرابات أقل حدة.
ستكون الخطوة الأفضل من ذلك فرض رسوم جمركية مصممة خصيصاً لدعم استراتيجية إعادة هيكلة سلاسل الإمداد العالمية، بدلاً من البدء في تطبيق خطة خاصة بالرسوم الجمركية ثم تعديل الاستراتيجية لتتناسب الخطة معها. ومع أية زيادة في الرسوم ستنشأ فترة انتقالية صعبة سترتفع فيها الأسعار وستتأثر الإمدادات، لكن تلك المشكلات ستزول مع ظهور موردين بديلين تحل منتجاتهم محل المنتجات الصينية في نهاية المطاف.
التعامل مع المخاطر
تتمتع الصين على رغم مشكلاتها الاقتصادية بقدرة كبيرة على إحباط جهود الولايات المتحدة لتمويل عملية تعيد توجيه الاقتصاد العالمي بعيداً منها. وفي ظل ظروف عادية، كان من المفترض أن يتسبب الفائض التجاري المتزايد بسرعة داخل الصين في تعزيز قيمة عملتها، مما يضعف القدرة التنافسية لصادراتها بمرور الوقت. لكن من المرجح فعلاً أن تنخفض قيمة اليوان على مدى الأعوام القليلة المقبلة، نتيجة لمجموعة من العوامل بما في ذلك التوسع السريع في كل من النظام المالي الصيني وفي المعروض النقدي المحلي منذ الأزمة المالية لعام 2008، ناهيك بانخفاض معدلات الفائدة الصينية مقارنة بتلك المعتمدة داخل الولايات المتحدة، بما يؤدي إلى خروج مستمر لرؤوس أموال من الصين. وهذا كله يعني أن بكين لا تزال قادرة على جعل صادراتها أرخص من خلال تقليص تدخلات مصرفها المركزي دعماً لليوان.
ومع انخفاض أسعار المنتجات الصينية، ستصبح الاستثمارات في سلاسل الإمداد التصنيعية الجديدة لإحلال مصادر أخرى محل المصادر الصينية أقل جاذبية للولايات المتحدة وحلفائها. وتبدي بكين بالفعل استعدادها لاستخدام التدخلات في قيمة العملة رداً على الرسوم الجمركية الأميركية وحماية للشركات الصينية. عند كتابة هذا النص، كان اليوان انخفض أكثر من اثنين في المئة منذ الانتخابات الأميركية. وقد يشكل السماح لليوان بالانخفاض بسرعة خطراً على الصين، لأنه قد يؤدي إلى خروج مزيد من رؤوس الأموال، لكن لا شك في أن بكين يمكنها استخدام العملة كأداة للرد على الرسوم الجمركية في الأجل القريب.
بكين لا تزال قادرة على إحباط الجهود التي تقودها الولايات المتحدة لإعادة توجيه الاقتصاد العالمي
ستحاول الصين أيضاً استغلال الإحباط التي يشعر به شركاء الولايات المتحدة من السياسات المحتمل أن تطبقها إدارة ترمب بغرض تفكيك شبكة الحلفاء التي رعتها إدارة بايدن. وتستعد هذه الدول لعودة ترمب، وتستفيد من الدروس التي تعلمتها خلال ولايته الأولى، وقد تختار اتخاذ إجراءات أقوى ضد الصين لتملق الإدارة المقبلة. لكن بكين سترد بعروض استثمارية وشراكات تكنولوجية في المجالات التي تتفوق فيها الشركات الصينية (مثل السيارات الكهربائية)، وحوافز ضريبية وخفوض في الرسوم الجمركية وإعفاءات من التأشيرات وتخفيف من القيود على الصادرات، وغيرها من العروض المغرية. وإذا لم ينجح هذا كله قد تلجأ بكين إلى إجراءات صارمة، فترد على الحواجز التجارية التي تقيمها الولايات المتحدة وحلفائها من خلال توسيع قيودها على الصادرات. مثلاً، قد تقيد تصدير المدخلات الحيوية للتكنولوجيا النظيفة وصناعة أشباه الموصلات (كما تفعل الصين بالفعل مع قيود على صادرات الغاليوم والجرمانيوم والغرافيت والأنتيمون)، مما يمكن أن يعوق إنتاج الولايات المتحدة وحلفائها في قطاعات حيوية. وقد تفرض بكين أيضاً قيوداً عقابية على صادرات المنتجات التي تحوي مكونات صينية قليلة، مثل حظر تصدير الغرافيت المعالج في الصين إلى السوق الأميركية، إذ يستخدم في صناعة البطاريات.
حتى إذا كانت بكين انتقائية في إطلاق التهديدات وفرض القيود، فتتخذ إجراءات ضد بعض شركاء الولايات المتحدة دون الآخرين، فإن نفس المناخ السلبي سيسود العواصم عبر العالم، من بروكسل إلى نيودلهي. وسيتعين على الحكومات ليس فقط في الغرب، بل في أنحاء العالم كله أن تسأل عما إذا كان اعتماد بلدانها على الصين في المدخلات الحيوية مستداماً أو إذا كان يمثل تهديداً غير مقبول لأمنها الوطني. إذا كانت الإجابة هي الأخيرة، سيكون من الأسهل على الولايات المتحدة تشكيل تحالف عالمي لتقليل الأخطار الصينية المترتبة على سلاسل الإمداد التصنيعية. وبدأت جهود كهذه بالفعل في قطاع الصناعة الدفاعية من خلال مبادرات مثل الشراكة من أجل المرونة الصناعية في منطقة المحيط الهندي والهادئ، التي تقودها وزارة الدفاع الأميركية وتهدف إلى تعزيز التعاون في مجال المشتريات الدفاعية. ولدى بكين خطة للرد على سياسات ترمب، ولكن ليس لإدارة عواقب الخطوات التي قد يتخذها شركاء الولايات المتحدة في الاستجابة لهذه السياسات.
الأجل البعيد
في نهاية المطاف، تعمل الاتجاهات الاقتصادية لمصلحة جهود الولايات المتحدة للحد من اعتماد سلاسل التوريد العالمية على الصين. وقد تتمكن بكين من زيادة حصة صادراتها في السوق لمدة عام أو عامين آخرين، ولكن حتى إذا حققت الصين هذا الهدف فإن معارضة دولية واسعة لسياساتها التجارية ستتبع ذلك. وتعد هذه الدول الغاضبة من بين الدول التي تحتاج إليها واشنطن إلى جانبها من أجل تنويع سلاسل التوريد العالمية بصورة فعالة، إذ إن اقتصادات الاستثمار الجديد لا تعمل إلا إذا كان هناك طلب كاف في الصناعات الحيوية لجعل النفقات اللازمة مجدية.
وحتى مع تزايد سهولة تأمين توافق السياسات مع الدول الشريكة في شأن التعريفات الجمركية وغيرها من القيود التجارية، لا يمكن أن يكون ذلك نهاية استراتيجية الولايات المتحدة. ففرض التعريفات الجمركية المرتفعة وإعادة توجيه سلاسل التوريد بعيداً من الصين يتسمان بالفوضى بطبيعتهما. وعلى رغم أن بكين في وضع أضعف بكثير مما كانت عليه في الماضي، فإنها لا تزال قادرة على الرد. وللتعامل مع الكلف الحتمية لاستراتيجية تُقلل الأخطار، يجب على واشنطن اختيار رسوم جمركية معتدلة نسبياً والاستعداد لتوسيع استثماراتها بسرعة، إلى جانب استثمارات شركائها في الصناعات التي ستأخذ مكان الشركات الصينية في سلاسل التوريد العالمية. ذلك أن إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي تعتمد على مدى التزام إدارة ترمب بالأهداف البعيدة الأجل، الخاصة ببناء قاعدة تصنيع أكثر أماناً وتنظيم أنماط التجارة العالمية في صورة أكثر استدامة. وسيكون إنشاء قاعدة طلب أوسع بهذه الطريقة أكثر فاعلية من محاولة تقليد نهج الصين المتمثل في الزعم بالحصول على حصة أكبر من فطيرة آخذة في التقلص.
مترجم عن "فورين أفيرز" 17 ديسمبر (كانون الأول) 2024
دانيال إتش روزين شريك مؤسس لـ"مجموعة روديون" ورئيس قسم الصين فيها.
ريفا غوجون تدير قسم الاستشارات المؤسسية في "مجموعة روديون".
لوغان رايت شريك في "مجموعة روديون" ويدير البحوث الخاصة بالأسواق المالية الصينية.