ملخص
من المرجح أن الرئيس الـ45 للولايات المتحدة الذي هز العاصمة الأميركية بقراراته وطريقة إدارته للبلاد وسياساتها التقليدية سيكون مختلفاً في بعض الجوانب عندما يصبح الرئيس الـ47، كونه اكتسب من الخبرة ما يكفي ليدرك كيفية عمل واشنطن، ولأنه أيضاً يتمتع الآن ببيئة مهيأة وداعمة، إذ سيطر على الحزب الجمهوري بصورة لم يتصورها أحد، وينعم الآن بدعم الحزب بالكامل كمؤسسة، وهي الحال نفسها في مجلسي الشيوخ والنواب.
عندما وصل دونالد ترمب للمرة الأولى إلى أعلى منصب في الولايات المتحدة عام 2017 كان يقود حزباً جمهورياً مؤسسياً يقوم على البرامج، لكنه عندما يعود إلى البيت الأبيض الإثنين المقبل سيكون الحزب الجمهوري مختلفاً هذه المرة بعدما سيطر عليه ترمب تماماً وأعاد تشكيله على طريقته. فكيف يؤثر ذلك في سياسات ترمب المستقبلية داخل الولايات المتحدة وخارجها؟ وهل اختلفت شخصية ترمب وتغيرت قواعد العمل عما كانت عليه قبل ثماني سنوات؟
هل تباينت الشخصية؟
ربما لا يبدو حتى الآن أن السمات الشخصية الجوهرية للرئيس المنتخب قد تغيرت كثيراً عما كانت عليه قبل ثماني سنوات، من حيث المزاجية الحادة وتصريحاته غير المتوقعة، وربما المزعزعة للاستقرار مثل ضم كندا وغرينلاند، والسيطرة على قناة بنما، والترحيل الجماعي لملايين المهاجرين غير الشرعيين، وهو ما يجعله قادراً على الهيمنة على التقارير الصحافية ووسائل التواصل الاجتماعي، والاستيلاء على موجات الأثير في المؤتمرات الصحافية وعبر منشوراته على منصة "تروث سوشيال".
ولعل هذا هو السبب الذي دفع كبير الاستراتيجيين السابقين في البيت الأبيض ستيف بانون إلى القول لموقع "بوليتيكو" إن "الصدمة والرعب" كانا مفهومين يعودان إلى عام 1917، وإن "أيام الرعد" هو المفهوم الذي سيبدأ الإثنين المقبل، وستكون شديدة بصورة لا تصدق.
اختلاف كبير
ومع ذلك، من المرجح أن الرئيس الـ45 للولايات المتحدة الذي هز العاصمة الأميركية بقراراته وطريقة إدارته للبلاد وسياساتها التقليدية سيكون مختلفاً في بعض الجوانب عندما يصبح الرئيس الـ47، كونه اكتسب من الخبرة ما يكفي ليدرك كيفية عمل واشنطن، ولأنه أيضاً يتمتع الآن ببيئة مهيأة وداعمة، إذ سيطر على الحزب الجمهوري بصورة لم يتصورها أحد، وينعم الآن بدعم الحزب بالكامل كمؤسسة، وهي الحال نفسها في مجلسي الشيوخ والنواب. ويعود هذا النفوذ الطاغي إلى قدرته على تنشيط قاعدته الشعبية والوفاء بالوعود المحافظة خلال ولايته الأولى، مثل التخفيضات الضريبية والتعيينات القضائية، وبخاصة في المحكمة العليا، مما عزز نفوذه داخل الحزب، بحسب أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد جون ويلسون، كما شغل عديد من حلفاء ترمب خلال سنوات ابتعاده عن السلطة مناصب رئيسة داخل هيكل الحزب، مثل زوجة ابنه إيرك التي تولت رئاسة اللجنة الوطنية الجمهورية، وكان نفوذه واضحاً في الانتخابات التمهيدية، إذ ساد المرشحون المتوافقون مع سياساته وخطابه، ومن ثم أصبحت هيمنة ترمب على الحزب الجمهوري في ولايته الثانية لا مثيل لها، وهي الآن تشكل اتجاه الحزب وأولوياته، كما أنه يدخل البيت الأبيض بتفويض شعبي لم يحصل عليه عام 2017، ولديه فريق عمل رئاسي أكثر انسجاماً وفهماً للرئيس، بقيادة رئيسة هيئة موظفي البيت الأبيض سوزي وايلز التي غرست مزيداً من الانضباط في عملياته، بعكس الاضطراب الذي شاب سنوات حكم ولايته الرئاسية الأولى.
ومن المتوقع أن يكون هناك مزيد من التماسك بين موظفي ترمب في البيت الأبيض لأن وايلز ستؤمن التوازن المطلوب بين السماح لشخصية ترمب بأن تحتفظ بسماتها، مع إبقاء الموظفين على الصفحة نفسها عبر قدرتها المعروفة عنها بالصرامة وجلب الاستقرار، مما سينعكس أيضاً خارج البيت الأبيض، حيث سيكون ترمب في موقف أقوى مما كان عليه في عام 2017.
حكم المليارديرات
ومع ذلك، فإن الصورة لا تبدو وردية تماماً، إذ لا يزال جزء رئيس من فريق ترمب ينظر إليهم على أنهم جاءوا من خارج الصندوق، أو غير مؤهلين لتولي مناصبهم الحساسة، بما في ذلك بيت هيغسيث المرشح لتولي وزارة الدفاع، وتولسي غابارد المرشحة لرئاسة الاستخبارات الوطنية، وروبرت كينيدي (الابن) المرشح لمنصب وزير الصحة. ولهذا، من غير المرجح أن يختفي العراك الذي كان عنصراً محدداً لولاية ترمب الأولى، بخاصة أن هذا الفريق يضم كثيراً من أصحاب المليارات القادمين من عالم الأعمال والطامحين إلى الوصول إلى أروقة السلطة والقوة الأميركية مثل إيلون ماسك أغنى رجل في العالم وأحد أقرب حلفاء ترمب الآن، والملياردير فيفيك راماسوامي، رائد الأعمال.
وأشار عمالقة التكنولوجيا والأعمال الآخرون، بمن في ذلك الملياردير جيف بيزوس مؤسس ورئيس شركة أمازون ومارك زوكربيرغ رئيس شركة "ميتا" (الشركة الأم لـ"فيسبوك")، وغيرهم من أبناء نادي المليارديرات، إلى رغبتهم في العمل مع ترمب ويزورونه باستمرار في منتجعه مارالاغو.
ومن المتوقع أن يحظى ترمب بموكب من المؤيدين الخارجيين الذين يدفعون بأجندته، في هيئة مراكز أبحاث، ومؤثرين إعلاميين محافظين وحلفاء أقوياء في وسائل التواصل الاجتماعي على رأسهم إيلون ماسك نفسه (يتابعه 209 ملايين شخص)، والذي لمح بالفعل إلى أنه قد يستخدم ثروته الهائلة ومكبر الصوت في منصته "إكس" للضغط على الجمهوريين الذين لا يدعمون أجندة ترمب، وبالنظر إلى هذه العوامل مجتمعة، تبدو ولاية ترمب الثانية مختلفة لأنها تضم عديد من اللاعبين الذين سيعززون قدرته على تنفيذ أجندته، وبخاصة في أيامها الأولى.
بلا قيود
وهناك عاملان مهمان آخران يجعلان ترمب مختلفاً أو متحرراً من قيود كان من الممكن أن تكبله، الأول أنه نجا من محاكمات عدة كانت تنتظره في واشنطن وفلوريدا وجورجيا على رغم إدانته في قضية نيويورك من دون عقوبة، وها هو يعود إلى السلطة بعدما اعتقد عديد من خصومه أن العودة السياسية كانت مستحيلة، نظراً إلى التحديات التي واجهها في قاعات المحاكم. والثاني أنه يدخل البيت الأبيض هذه المرة من دون قيود وضغوط من جماعات الضغط والنفوذ العديدة في واشنطن، وهو غير مضطر إلى تقديم تنازلات من أجل تمويله لإعادة انتخابه بعد أربع سنوات، بالتالي لن يكون لديه مخاوف من ملاحقة الأعداء السياسيين أو المخاطرة بقرارات أو سياسات تجعله قلقاً في شأنها في حملة عام 2028.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التغيير الأبرز
غير أن التغيير الأبرز الذي يشكل ولاية ترمب الثانية يتمثل في أنه خلال ولايته الأولى، بدا الأمر وكأن لديه إدارة جمهورية تقليدية تحيط برئيس جمهوري غير تقليدي إلى حد ما. فقد كان ترمب موجوداً في هذا الائتلاف غير المستقر مع الحزب الجمهوري الذي كان موجوداً قبله، والذي كان يتوقع أن يكون موجوداً في صورة مماثلة بعده، لكنه سيطر على هذا الحزب الآن وأعاد تشكيله. والآن أصبح حزب دونالد ترمب، كما تقول أستاذة العلوم السياسية في جامعة ولاية ميشيغان إيريكا فرانتس، إذ لا يستطيع رئيس مجلس النواب مايك جونسون أن يتولى منصبه إلا بدعم من ترمب، وهو مشهد مخالف تماماً للاشتباك المتكرر لترمب عام 2017 مع زعماء الحزب الجمهوري مثل رئيس مجلس النواب آنذاك بول رايان وميتش ماكونيل، زعيم الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ.
ولهذا، بدا الأمر الآن وكأن ترمب هو الزعيم في نظام سياسي شخصي إلى حد بعيد، لا يواجه سوى قليل من القيود أو المقاومة، وهو ما يتمثل بوضوح في قدرته على فرض اختياراته من الوزراء الذين يدور حولهم خلافات مريرة، بمن فيهم اختيار روبرت كينيدي ليقود وزارة الصحة على رغم أنه مؤيد لحق الإجهاض، مما يظهر مدى سيطرة دونالد ترمب على حزبه وأن الحزب أصبح يعمل بطريقة مختلفة الآن.
الزعيم والنخب
ويعود ذلك إلى أن السياسة الأميركية ظلت لعقود تدور حول ما يسميه علماء السياسة "الأحزاب السياسية البرامجية" التي تقوم على التحالفات التي تربطها مصالح وأهداف مشتركة، وتتميز بأفكار عامة وباتفاقيات تتجاوز رغبات أي زعيم بعينه، ولديها مجموعات كبيرة من النخب والموظفين والمسؤولين الذين يعرفون كيف يعملون معاً عبر الإدارات والفترات المختلفة.
أما الآن، فقد تحول الحزب الجمهوري إلى نظام يعمل بصورة أقل شبهاً بالأحزاب السياسية التي اعتاد عليها الأميركيون، وأكثر شبهاً بالنظم السياسية الشخصية، حيث كل شيء عبارة عن معاملة مع الزعيم. وهذا هو السبب الذي يجعل عديداً من المليارديرات والنخب يسارعون إلى تناول العشاء مع ترمب في منتجع مارالاغو بعدما أدركوا الشروط المطروحة على الطاولة، وهي أن كسب ود ترمب يؤدي إلى الاستفادة منه، وربما الحصول على السلطة والمال، أما معارضته فستجعلهم وشركاتهم، وربما الأشخاص الذين يحبونهم، يدفعون الثمن.
وبدلاً من النظر إلى السياسة كجزء من عملية المساومة التقليدية بين النخب والزعيم، أصبح الزعيم القادم إلى البيت الأبيض هو من يحدد في الأساس معظم النتائج. ولهذا، ليس من المستغرب أن يسارع عديد من الشركات العملاقة إلى محاولة استرضاء ترمب، مثل شركة "ميتا" التي أجرت تغييرات واضحة في سياستها التنظيمية لصالح الرئيس القادم، مثل إلغاء برنامج تدقيق الحقائق وجعلها في يد الجمهور، واستقدام الشركة حلفاء ترمب مثل "دانا وايت" إلى مجلس إدارتها.
التأثير في الداخل
مع وجود حزب جمهوري متماسك بدرجة كبيرة وسيطرة على مجلسي النواب والشيوخ خلال ولاية ترمب الثانية، من المتوقع أن يعمل ترمب على تعظيم سياساته الداخلية التي اتسمت بها ولايته الأولى مع تقديم مبادرات جديدة، إذ ستعمل إدارته على مزيد من القيود على الهجرة وتوسيع عمليات الترحيل وزيادة تدابير أمن الحدود وخفض الضرائب وخلق فرص العمل في الصناعات التقليدية من أجل معالجة المخاوف الاقتصادية لأنصاره الأساسيين، كما يلاحظ خبير الاقتصاد العمالي روبرت سميث.
لكن قضية الرعاية الصحية تبقى واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل في ولاية ترمب الثانية حيث يظل تفكيك قانون الرعاية الميسرة، واستبداله بنظام جديد يستند إلى الحلول القائمة على السوق والمبادرات التي تقودها الدولة من الأمور التي تواجه تحديات، وقد تثير انقسامات بين الجمهوريين في الكونغرس لأنها قد تغير من مشهد الرعاية الصحية الأميركية، عبر تعظيم دور الأسواق الخاصة وحكومات الولايات.
التأثير في السياسة الخارجية
سوف تستمر السياسة الخارجية لترمب في ولايته الثانية على مسار "أميركا أولاً"، مع التركيز القوي على السيادة الوطنية والاتفاقات الثنائية مع توجه محتمل للانسحاب من المنظمات والمعاهدات الدولية، بحجة أنها تضر بمصالح الولايات المتحدة، كما يتوقع أن تشهد العلاقة عبر الأطلسي توترات متجددة مع استمرار ترمب في انتقاده حلف شمال الأطلسي (الناتو) وزيادة الدعوات داخل أوروبا لمزيد من الحكم الذاتي الدفاعي. ومع ذلك، سوف يحاول ترمب الحفاظ على علاقات ثنائية قوية مع الدول الأوروبية الرئيسة، والتركيز على التعاون التجاري والأمني.
أما بالنسبة إلى الصين فقد تظل العلاقات مع الصين متوترة مع تصاعد الحرب التجارية إلى منافسة اقتصادية واستراتيجية أوسع نطاقاً واستمرار أولويات ترمب في التعامل بصرامة مع الصين على رغم أن البعض يراهن على دور ما يمكن أن يلعبه إيلون ماسك صديق بكين التقليدي وصاحب الاستثمارات العديدة هناك، في الحد من مزيد من التدهور في العلاقات بين العملاقين الاقتصاديين.
أزمتان ساخنتان
لكن عندما يعود ترمب إلى المكتب البيضاوي سوف يصبح مسؤولاً عن إدارة نوعين من الأزمات الساخنة في الشرق الأوسط وأوكرانيا، والتي كان محظوظاً بتجنبها خلال ولايته الأولى، إذ قدم ترمب نفسه للناخبين باعتباره صانع سلام، والزعيم الذي سوف يبرم الصفقات اللازمة لاستعادة النظام والحد من تكلفة تورط الولايات المتحدة في الحروب الخارجية، والواقع أن الرئيس المنتخب ينسب لنفسه بالفعل الفضل في وقف إطلاق النار الذي اتفقت عليه إسرائيل و"حماس"، والذي من المقرر أن يبدأ الأحد.
لكن الاتفاق الهش من غير المرجح أن يستمر لفترة طويلة وهو ما يشكل تحدياً لاستراتيجية ترمب الكبرى المحتملة في المنطقة، والتي تعتمد على علاقته الشخصية بزعماء المنطقة وقدرته على الضغط على بنيامين نتنياهو من أجل ضمان استمرار وقف إطلاق النار وإطلاق سراح جميع الرهائن المتبقين، ثم الانتقال إلى إمكانية تطبيق حل الدولتين من أجل تحقيق مسعاه في توسيع اتفاقات أبراهام التي تمكن خلال ولايته الأولى من تدشينها مع أربع دول عربية.
ترمب وإيران
ولكن السؤال الأكبر في الشرق الأوسط هو إمكانية اندلاع حرب موسعة تستهدف إيران بعد نجاح إسرائيل في شل "حماس" و"حزب الله" إلى حد كبير مما يترك طهران من دون أصولها الأكثر قيمة في ما يسمى "حلقة النار"، وبينما يعلم قادة إيران أن بلادهم أصبحت الآن عرضة للخطر ولدى نتنياهو حافز كبير لضرب البرنامج النووي للبلاد فإن ذلك ليس ممكناً من دون مشاركة الولايات المتحدة التي تتمتع بالقدرة العسكرية على تدمير القدرات النووية الإيرانية عبر سلسلة من الهجمات بقاذفات القنابل الاستراتيجية التي لا تتحصل عليها إسرائيل.
وعلى رغم أن أي شيء أقل من هجوم ناجح تماماً من شأنه أن يدفع إيران إلى بناء قنبلة على الفور، يستمر ترمب في الإصرار على أنه لن يشرك أميركا في حرب شخص آخر، ونظراً إلى الأخطار العالية التي تواجه جميع الأطراف المعنية، يتوقع التوصل إلى اتفاق دبلوماسي واسع النطاق مع إيران من شأنه أن يفرض قيوداً جديدة على الصواريخ الباليستية على طهران، ويشير إلى استعدادها للحد من دعم الجماعات المسلحة في المنطقة مقابل تخفيف العقوبات الغربية على الاقتصاد الإيراني الضعيف ووقف التصعيد العسكري من جميع الجوانب.
روسيا وأوكرانيا
يرث ترمب التصعيد العنيف بين روسيا وأوكرانيا، بينما يحاول الوفاء بوعده الانتخابي بفرض نهاية سريعة للحرب، وسوف يصور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ترمب على أنه بديل مرحب به لجو بايدن الذي يعده "المحرض على الحرب"، بينما يواجه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي معضلة المخاطرة بغضب شعبه من خلال قبول صفقة يتوسط فيها ترمب، ويتم بمقتضاها تنازل كييف عن الأراضي التي سيطرت عليها روسيا أو تحدي ترمب مع الأمل في أن يساعد الحلفاء الأوروبيين أوكرانيا.
وليس من المعروف بعد ما الطريق الذي سيسلكه ترمب، وما الطريقة التي يمكن أن يستجيب بها الأوكرانيون. وهو لا شك في أنه سيشكل تحدياً للجميع قبل أن يصل قطار السلام إلى محطته النهائية، إذ يظل ترمب صانع قرار متقلباً وقد لا يعرف كيف يريد التعامل مع السياسة الخارجية.