ملخص
أظهرت الأقمار الاصطناعية التي التقطتها شركة "ماكسار" رسو فرقاطات الصواريخ الموجهة على بعد 13 كيلومتراً من السواحل السورية وغادرت بعض السفن في الـ10 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري قاعدة طرطوس وسط نشاط بحري على سواحل المتوسط.
على رغم سقوط نظام بشار الأسد في سوريا وسيطرة المعارضة على مقاليد الأمور ومن ثم تغيير موازين القوى والنفوذ، فإن مياه البحر المتوسط الدافئة لا تزال تثير شهية القيصر الروسي وتفرض عليه الحفاظ على موطئ القدم له مع اتساع حربه على الجبهة الأوكرانية.
وإلى ذلك انسحبت جميع النقاط والقواعد الروسية المنتشرة بالبلاد إلى طرطوس واللاذقية، غرب سوريا، وسط أحاديث عن اتخاذ هذه القواعد ولا سيما قاعدة حميميم الجوية في ريف اللاذقية مركزاً لهرب أبرز القادة العسكريين والأمنيين وقادة الاستخبارات والسياسيين، وأولهم الأسد على متن طائرات روسية.
وأظهرت صور حديثة للأقمار الاصطناعية خروج سفن روسية من قاعدة طرطوس التي تضم قطعاً من أسطول البحر الأسود، وهي المركز الوحيد للإصلاح والتجديد لروسيا في البحر الأبيض المتوسط، وأنشئت في سبعينيات القرن الماضي وأجرت موسكو تحديثاً وتوسيعاً لها في عام 2012 قبل أن تنخرط بتوسيع حضورها العسكري في الصراع المسلح في عام 2015 بالسلاحين البحري والجوي والنقاط العسكرية.
وأظهرت الأقمار الاصطناعية التي التقطتها شركة "ماكسار" رسو فرقاطات الصواريخ الموجهة على بعد 13 كيلومتراً من السواحل السورية وغادرت بعض السفن في الـ10 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري قاعدة طرطوس وسط نشاط بحري على سواحل المتوسط.
وسبق هذا الحديث معلومات مؤكدة بانسحاب للقوات الروسية في الشمال مع هجوم فصائل المعارضة نحو المنطقة الوسطى، و"سحب كامل الأسطول البحري في خطوة غير متوقعة" وفق ما أفاد معهد دراسات الحرب في واشنطن، وحينها بدأت التكهنات تتأكد بعدم نية موسكو إرسال تعزيزات عسكرية، وسحبت يدها من الحرب الفاصلة بين الحكومة والمعارضة، ورأى مراقبون حينها تخلي الروس عن الأسد قبل هربه بأيام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشير مدير مركز الأبحاث والدراسات "جي أم أس" بموسكو، أصف ملحم، إلى خشية روسيا من عدم ضمان أمن قواتها في نقاطها المنتشرة بأنحاء سوريا بحال حدوث هجوم يشنه المسلحون عليها، وهي مشتتة بأماكن مختلفة، بخاصة أن هناك حالاً من الفوضى في البلاد، وبدأت خلايا نائمة من "داعش" تطل برأسها بين فينة وأخرى مما يجعل تلك القواعد تحت تهديدات الهجوم عليها.
ويرجح ملحم تدخل تركي للحفاظ على هاتين القاعدتين الروسيتين في حميميم وطرطوس، لأن مختلف الوحدات العسكرية الروسية التي انسحبت من أرجاء البلدان السورية هي وحدات عسكرية صغيرة التعداد.
إجراء احترازي
ويصف الباحث في الشؤون الروسية ما يحدث من تجميع القوات الروسية بأنه "ضمن إجراء احترازي" في وقت تعيش فيه موسكو "ضربة قاصمة"، وأفاد بوجود تسريبات من بعض المصادر المقربة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأنه كان يتجه إلى تكريم بعض الشخصيات الروسية ومن بينها رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية، سيرغي لاريشكين ومساعدته تاليا خابرييفا، لكن بعد سقوط نظام بشار أُزيل هذين الاسمين من قوائم التكريم بالتوازي مع غضب شديد بالكرملين لخسارة دمشق.
ومع ذلك تبدي روسيا قلقها وعدم اطمئنانها من الوجود في سوريا، ولهذا عملت خلال الأيام القليلة الماضية وفور سقوط النظام على إجلاء موظفيها الدبلوماسيين من سوريا، وسحب طاقم التمثيل الدبلوماسي الروسي من دمشق على متن رحلة خاصة لسلاح الجو الروسي غادرت من قاعدة حميميم الجوية، وفق معلومات نشرت من قبل إدارة حالات الأزمات بوزارة الخارجية الروسية.
في المقابل بث قائد هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع الملقب بـ"الجولاني"، رسائل طمأنة للروس في سوريا، أكد فيها حفاظ الحكومة الانتقالية على علاقة متوازنة أثناء المعارك. وأشار خلال لقاء نقلته وسائل إعلامية بأن الإدارة العسكرية أرسلت رسائل عبر وسطاء تفيد بأنه من الممكن ضرب قواعد روسية في سوريا، لكنها تفضل إعطاء فرصة للطرفين لبناء علاقة جديدة.
وهذا ما حدث في أولى المعارك بحلب وفق مصادر ميدانية أفادت ببقاء مركز عسكري روسي، وهو أحد أبرز معاقل الروس في الشمال السوري، محاصراً لمدة طويلة حتى جاءت معركة حمص، إذ جرى إجلاء القوات الروسية من موقع "أكاديمية الأسد للعلوم العسكرية" بعد تنسيق مع الفصائل المسلحة.
وبالحديث عن تداعيات خسارة قاعدة طرطوس وقاعدة حميميم في اللاذقية في حال حدث ذلك فإن الباحث في الشأن السياسي الروسي ملحم يرى في ذلك انعكاسات، منها تعقيد عمل القوات الروسية في القارة الأفريقية تحديداً، فروسيا تسعى إلى توسيع نفوذها منذ زمن بعيد نظراً إلى غنى القارة الأفريقية بالموارد، حسب رأيه. وأضاف "خسرت موسكو كثيراً في سوريا، والتقديرات عديدة ولا يمكن الاعتماد عليها لأنها صادرة عن مؤسسات إعلامية وعادة يكون الإنفاق العسكري محاطاً بالسرية، لكن بصورة عامة الأسلحة التي حولتها روسيا إلى سوريا وضعتها ضمن ديون طويلة الأجل، أو إلى مزايا واتفاقات تضمن لها مصالحها".
إزاء ذلك أعلن المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف عن عزم بلاده على الدخول في محادثات مع السلطات الجديدة في شأن مستقبل الوجود العسكري الروسي، وقال في تصريح لوسائل الإعلام "نبذل الآن كل ما في وسعنا للتواصل مع المعنيين بضمان الأمن، ويتخذ جيشنا كل التدابير اللازمة"، وكان الكرملين أعلن في وقت سابق أن الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد قد تنحى عن منصب الرئاسة بقرار شخصي بالتوازي مع منح موسكو حق اللجوء له في روسيا.
عقود طويلة الأجل
وبالحديث عن الخسارة الروسية يستعرض ملحم في حديثه أبرز العقود والاتفاقات منها عقود طويلة الأجل في قطاع النفط والغاز، مع سعي موسكو إلى الحصول على مزايا للاستثمار في الشمال الشرقي للبلاد، لكنها اصطدمت بسيطرة الولايات المتحدة الأميركية ودعمها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ولا سيما وحدات الحماية الكردية ولم تتمكن من ذلك، لكن الشركات الروسية وقعت اتفاقات مع حكومة دمشق للتنقيب واستخراج النفط والغاز وتطوير الشركات النفطية وتوليد الطاقة واستخراج الثروات المعدنية. وتابع "عام 2019 وقعت شركتا ’موركلي وفلادا‘ الروسيتان مع وزارة النفط والثروة المعدنية السورية عقود استثمار لثلاثة حقول للنفط، كذلك شركة ’ستروي ترانس‘ وقعت عقداً للتنقيب لاستخراج مادة الفوسفات في المنطقة الشرقية الواقعة جنوب مدينة تدمر وتأجير مرفأ اللاذقية لشركة (أس تي جي إنجيرينغ) لمدة 49 عاماً، وإنشاء خط حديد بين مطار دمشق ومركز المدينة، وعقد في مجال الطاقة في مدينة حمص".
وعززت موسكو وجودها العسكري في سوريا لمناصرة النظام منذ عام 2015 وسجلت في منتصف عام 2023 حتى منتصف عام 2024 ارتفاعاً ملحوظاً بعدد مواقع القوات الروسية بالبلاد، إلى أن وصلت إلى 114 موقعاً تنتشر في أنحاء سوريا عبر 21 قاعدة، بينما ارتفع عدد النقاط نحو 93 نقطة عسكرية أكثرها كانت في مدينة حماة بنحو 17 موقعاً، بينما كان عدد المواقع في عموم سوريا قبل عام نحو 105 مواقع، كما سجلت القوات الروسية تقدماً على حساب المواقع الإيرانية التي بدأت بالتراجع خلال حرب غزة وجنوب لبنان.
الأحداث الدائرة في سوريا أصابت روسيا بخيبة أمل، وتقديرات الخسائر خلال فترة عمل قواتها في البلاد يكشف عنها مدير مركز "جي أم أس"، إذ قدر حجم كلف بقاء الروس بصورة يومية بين 3 و4 ملايين دولار أميركي في اليوم الواحد، وبحساب الكلفة الإجمالية طوال الفترة الماضية تصل إلى ما بين 10 و18 مليار دولار، بحسب وسائل إعلام روسية وأحزاب معارضة.
ولفت النظر في الوقت ذاته عن وجود عقود طويلة الأجل لم تبدأ بتنفيذها بمشاريع على الأرض، ولذلك يمكن حصر حجم الخسارة بالمجهود الحربي والأسلحة التي قدمتها مجاناً.
وعن تخلي روسيا عن الملعب السوري وعن العقود الاستثمارية الكثيرة التي وقعتها مع الحكومة السابقة اعتبر ملحم أن التكهن بهذا الأمر سابق لأوانه، إذ يمكن التفاوض مع الحكومة الحالية، مشيراً إلى أن موسكو لديها وسائل ضغط على تركيا من أجل تنفيذ بعض العقود المهمة لها، والإبقاء على قاعدتيها في طرطوس واللاذقية. وأردف "لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة بأن موسكو تتمهل في اتخاذ قراراتها، وسياستها حكيمة ودقيقة، ولا تتسرع بالخطوات كما تدرس كل الخيارات أمامها، وأعتقد أن لدى الرئيس بوتين وفريقه خيارات إبداعية للخروج من هذه الأزمة بأقل الخسائر أو تحويل الخسائر إلى فرص جديدة، وكمثال على ذلك ما حدث في الأزمة الأوكرانية عام 2014 حين التزمت موسكو الصمت أشهراً عدة حتى ضمت جزيرة القرم، والآن في حال الفوضى فالكلام غير مفيد، ولهذا تلتزم الصمت إلى الوقت المناسب".