ملخص
أعادت المحال التجارية غير المتضررة في الضاحية الجنوبية فتح أبوابها أمام الزبائن من العائدين، وعادت بعض الأحياء الداخلية التي لم تتعرض للقصف إلى حياتها الطبيعية كما كانت قبل الحرب ولو أن خليطاً من فرح بالعودة وأسى على كل ما خلفته هذه الحرب يبدو واضحاً على وجوه القاطنين والمارة والمتسوقين.
"الشتوة الأولى" التي رافقت وقف إطلاق النار تثير الرغبة في زيارة الضاحية الجنوبية وتحديداً الأحياء التي تعرضت للقصف الكثيف في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. في حارة حريك وبئر العبد وطريق المطار والحي الأبيض وحي معوض والحدث والشويفات والليلكي وهي الأحياء التي عرف المشاهدون حول العالم أسماءها عبر نشرات الأخبار المحلية والعالمية التي بثت مباشرة غارات الطيران الحربي على الضاحية، وعلى هذه الأحياء التي تدمر قسم كبير منها بشكل تام، مما جعل "الشتوة" الأولى فوقها وكأنها إكمال للحرب بالمعنى التخريبي ومؤشر إلى الخير الهابط من السماء بوقف الحرب من جهة أخرى.
مشهد تبدو فيه "الشتوة" الأولى فوق الدمار مثيرة لشعور مضاد لدى زائر الضاحية المدمرة، وتثير الرغبة في معرفة ما آلت إليه أحوال الذين بقوا فيها من سكانها بعدما صمدت منازلهم وأبنيتهم أمام القصف الإسرائيلي الكثيف، وأحوال العائدين إليها من حيث نزحوا طوال شهرين في سائر المناطق اللبنانية، بعدما استقبلهم أهالي تلك المناطق في محنتهم الكبيرة المفاجئة التي أصابتهم، مما أبرز مظاهر للتضامن ووحدة اللبنانيين أثارت الترحيب على كل المستويات السياسية والدينية والاجتماعية الوطنية والعالمية.
تكاتف دفع بابا الفاتيكان إلى بعث رسالة إلى اللبنانيين يحييهم فيها على وقفتهم تلك إلى جانب بعضهم بعضاً، كدلالة على الوحدة في التنوع التي تتميز بها بلد الرز ومواطنوه في منطقة الشرق الأوسط والعالم.
شجرة يابسة وخضراء
الأحياء التي لم تتعرض للقصف الإسرائيلي الساحق في الضاحية الجنوبية تشبه أغصاناً حية في شجرة يابسة، أو يمكن عكس التوصيف بالقول إن الأحياء المدمرة في حارة حريك وبئر العبد في ما كان يسمى "المربع الأمني" وفي الحدود الفاصلة بينه وبين حي معوض والصفير والحي الأبيض والقريبة منها والبعيدة منها، هي بمثابة أغصان ميتة في شجرة "تجاهد" للعودة إلى الحياة مباشرة بعدما أوقعتها صاعقة مباغتة.
الأمطار الغزيرة التي تساقطت في الأيام الماضية لم تفرق بين أحياء مدمرة وأخرى ما زالت صالحة للسكن، فملأت الطرق المؤدية إلى الضاحية والحفر التي خلفتها الصواريخ المنفجرة وأساسات الأبنية المهدمة والتي بدأت محاولات رفع أنقاضها، حتى بدت الضاحية بعد يومين من الشتاء الغزير وكأنها مدينة مستنقعات أو ينابيع تخرج من باطن أرضها.
وبسبب دمار شبكة تصريف المياه في تلك المنطقة، سالت المياه كيفما اتفق في الزواريب وبين الأبنية وعلى الطرق المحفرة والموحلة، مما زاد المنظر الذي خلفته الحرب الساحقة بؤساً، ومما مهد لتصور ما سيصيب تلك المنطقة خلال الشتاء القادم من أزمات إضافية تضاف إلى أزمة الدمار والسكن وزحمة السير وانقطاع الطرق والكهرباء والمياه والإنترنت.
إلا أن الشتاء المبكر وغزارة أمطاره لم يؤثران في عيش سكان الأحياء القابلة للسكن والمتاخمة للمناطق المدمرة، ولم يؤثران أيضاً في استكمال أعمال رفع الأنقاض وإزالة الركام والتحضير لبدء عمليات تهديم الأبنية المتصدعة وغير الصالحة للسكن.
التلامذة من قاطني تلك المنطقة يتهيأون للعودة إلى مدارسهم التي لم تتعرض للدمار في أكثرها بحسب إحصاءات وزارة التربية اللبنانية، وخصوصاً تلك الواقعة على حواف الضاحية الجنوبية لبيروت التي لم تتعرض لقصف شديد وتدميري كالذي تعرضت له أحياء كثيرة ومحددة في الضاحية، ضمن أعنف حملة قصف منذ إرسائها ضاحية ومنطقة ذات اجتماع لبناني خاص بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في عام 1982 الذي أدى إلى نزوح الجنوبيين المحتلة قراهم وبلداتهم في حينه، نحو حزام البؤس حول بيروت الذي تحول رويداً رويداً إلى منطقة خالصة لـ"حزب الله" سياسياً وشعبياً وأمنياً وعسكرياً.
المحال التجارية غير المتضررة أعادت فتح أبوابها أمام الزبائن من العائدين، وعادت بعض الأحياء الداخلية التي لم تتعرض للقصف إلى حياتها الطبيعية كما كانت قبل الحرب ولو أن خليطاً من فرح بالعودة وأسى على كل ما خلفته هذه الحرب يبدو واضحاً على وجوه القاطنين والمارة والمتسوقين في تلك الأحياء، من دون أن ننسى الصعاب الناتجة من النزوح نفسه قبل أن تبدأ إحصاءات الدمار والموت الناتج من هذه الحرب التي أسدلت ستارها على حين غرة. حتى إن كثيراً من سكان الضاحية العائدين يتساءلون عن سبب بدء الحرب وسبب نهايتها غير المفهومين، وكأن الجميع لا يزال في صدمة من هول ما جرى خلال شهرين.
بعض محال الملابس أعاد عرض بضاعة عام 2023 الشتوية والبعض الآخر استطاع اللحاق بالموسم بواسطة بضائع جديدة مصنعة في لبنان أو في سوريا. يقول أحد أصحاب محال الملابس، "لم نستطع استيراد البضائع خلال الفترة التي فصلت بين الحرب وبدء الموسم الشتوي. وأجبرت الحرب تجاراً كثراً على صرف أموالهم خلال فترة النزوح، واستطاع قلة منهم ادخار أموالهم لاستخدامها في إعادة بناء ما تهدم أو لتجديد محالهم".
المحال التجارية والمؤسسات التي عادت إلى العمل قليلة العدد نسبة إلى تلك التي كانت عاملة في الضاحية قبل وقوع الحرب، ولكن عدد هذه المحال يتناسب مع عدد العائدين في اليومين الماضيين إلى الضاحية، الذي لا يزيد على نصف عدد سكانها قبل الحرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان كثر يبحثون خلال "الشتوة" الأولى من المطر الغزير عن أغراض تخصهم بين أنقاض أبنيتهم، على رغم أن المياه طفت في الطرق ودخلت إلى المنازل في الطوابق الأرضية وإلى المحال والمستودعات، وكما علق أحد العائدين أن هذه "الطوفانات" من عادة الأمطار في الضاحية "بحرب أو بغير حرب". المياه هنا جزء من الورشة تشكل عبئاً على العمال الذين يحاولون البدء بورش فتح الطرق وإزالة الأنقاض، للمساهمة في عودة من يمكنه العودة إلى الأبنية التي يمكن السكن فيها ولو كانت متضررة نتيجة إصابة الأبنية المحاذية لها. المياه هنا مكملة لمشهد الدمار، ثقل جديد مضاف على ثقل الحياة القادمة من حرب مدمرة وساحقة.
الطيار الحربي الإسرائيلي
أول ما يدعو إلى التساؤل بعد رؤية الدمار الذي لحق بأحياء الضاحية الجنوبية في بيروت، هو كيف يرى قائد الطائرة الحربية الإسرائيلية الأبنية من أعلى؟ هل يتساءل عما يحوي المبنى من بشر؟ هل يعني الطيار حياتهم التي أفنوها في العمل من أجل شراء منزل وأثاث؟
صور الأبنية الملتصقة بالأرض، تلك التي كانت تنشئ شوارع وطرقاً وأحياء وتقاطعات وساحات عامة، أثناء وقوفها قبل تدميرها بشكل كامل، وبعضها كان يصنع مربعات سكنية كاملة ومستقلة بذاتها في أسواقها ومواقف سياراتها ومطاعمها ومقاهيها، كلها تشير إلى أن حياة عارمة كانت تدور هنا. وما كان يرى من البعيد من خارج الضاحية على أنه أعمدة دخان ترتفع في الهواء بات يمكن رؤيته على أنه دمار كامل عند الدخول إلى عوالم الضاحية المدمرة عن بكرة أبيها.
والخبر الإعلامي الذي كان ينبئ بقصف الضاحية، يوماً بعد يوم - حتى بات خبر قصف الضاحية خبراً عادياً - بات يمكن إلقاء النظر على مرادفه في الواقع، الآن بعد شهرين من الحرب الإسرائيلية على لبنان التي جعلت في مقابل عدد الطبقات الملتصقة بالأرض عدداً من الأسر والعائلات بلا مأوى ستبقى في أماكن نزوحها أو ستنزح إلى مناطق أخرى ريثما يعاد إعمار ما تدمر، على رغم ضبابية المعلومات حول كيف ستكون عملية البناء وخططها، ومن أين ستأتي الأموال التي ستقدم للمتضررين لإعادة بناء ما تهدم من أملاكهم؟
ليس جميع الناس الذين يبدون في شوارع الضاحية على شاشات التلفزة هم من الزوار الموقتين الذين يبتغون مشاهدة الدمار وما خلفته آلة الحرب الإسرائيلية في غاراتها اليومية على الضاحية الجنوبية، بل أكثر هؤلاء هم من أصحاب البيوت والمحال التجارية التي دمرت في تلك المنطقة، بعضهم يبحث بين الأنقاض عما يمكن استعماله مما بقي من مخلفات المنزل المدمر، إذ مخلفات الطابق الرابع اختلطت بمخلفات الطابقين السابع والأول بعدما هبطت البناية بأكملها نحو الأرض وكأن الجاذبية مصتها مصاً.
صاحب إحدى الشقق المهددة وقف على أعلى الركام وقال ممازحاً، "إني أقف فوق الطابق العاشر الآن". يقال إن إسرائيل استعملت صواريخ حديثة مقدمة من الولايات المتحدة، وتسمى الصواريخ الفراغية المطورة التي تفرغ المبنى المستهدف من الهواء فيسقط بكامله كما لو أنه كتلة من التراب. أحد الشبان أشار إلى إحدى الشقق المتضررة وقال إن حبيبته كانت تعيش فيها، وهو لا يعرف أين انتقلت مع أهلها بعد إعلان وقف إطلاق النار.