ملخص
وسط طغيان شيطنة الجموع يصدر كتاب جديد لدان هانكوكس بعنوان "الحشود: كيف صنعت الجموع العالم الحديث" داعياً إلى إعادة النظر في الافتراضات الراسخة في شأن سلوك الحشود وسيكولوجيتها، والتركيز على الدور الذي تقوم به في حياتنا، ذاهباً إلى حد القول بأن قصة العالم الحديث هي قصة الحشود.
أعرب الصحافي البريطاني المستقل دان هانكوكس في مقالة حديثة له عبر "غارديان" في الـ 23 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عن دهشة كبيرة من وصف عضوة في البرلمان الإنجليزي لتظاهرات التضامن مع غزة بأنها "مسيرات كراهية"، وكتب يقول "لقد شاركت في مطلع الأسبوع مع أصدقاء لي، بعضهم يهود مثلي وبعضهم غير ذلك، في حشد من 500 ألف شخص على جسر ووترلو، ونظرت إلى الـ 'تيمز' جهة الغرب حيث مبنى البرلمان، إذ كانت فتاة مسلمة عمرها قرابة ثماني سنوات تقود الهتاف بمكبر صوت قائلة: يا غزة يا غزة لا تبكي، لن نتركك للموت".
ومضى يقول "على مدى أعوام كثيرة من حضور التظاهرات والمسيرات والإضرابات العامة وأعمال الشغب وتغطيتها، نادراً ما رأيت تجمعات أكثر تنظيماً وسلمية من تلك التظاهرات، ومع ذلك فقد دانها الساسة، لا من أعضاء البرلمان الإنجليزي فقط وإنما من مستويات أعلى، إذ حذر ريشي سوناك من أن حكم الغوغاء يحل محل الحكم الديمقراطي".
ويكتب هانكوكس "ما كان يحق لي أن أندهش لأن السياسة عندنا والإعلام والثقافة الجماهيرية طالما غصت بمثل هذه الأساطير، إذ يدين أصحاب السلطة الغوغاء منعدمي العقل والحشود المجنونة والجموع عديمة التفكير والحشود المتدافعة وعقلية القطيع، ولأنه كم قيل لنا على مدار حياتنا إن الانضمام إلى الحشود يسلبنا قدرتنا على التصرف وعلى التفكير العقلاني وإحساسنا بأنفسنا وباللياقة، وأن العنف والتدني الأخلاقي ينتشران انتشار الجراثيم فيفيضان على كل فرد في حشد، أي أننا باختصار نتحول في الحشود إلى وحوش".
وفي حين أنك لن تجد من ينازع في أن تجمع البشر منذ فجر الإنسانية في جماعات متنامية كان من أولى خطوات الحضارة وتطور البشر، فإنك ستجد كثيرين للغاية ممن يشيطنون أي تجمع، سواء في حرم جامعي من أجل قضية عادلة كقضية فلسطين، أو حتى لحضور مباراة كرة قدم في مصر.
"الحشود إذ تعمل"
ووسط طغيان تلك الشيطنة للجموع يصدر كتاب جديد لدان هانكوكس بعنوان "الحشود: كيف صنعت الجموع العالم الحديث" عن دار فيرسو في قرابة 270 صفحة، داعياً إلى إعادة النظر في الافتراضات الراسخة في شأن سلوك الحشود وسيكولوجيتها، والتركيز على الدور الذي تقوم به في حياتنا، ذاهباً إلى حد القول بأن قصة العالم الحديث هي قصة الحشود، إذ تعمل بوصفها القوة القصوى للتغيير وبكونها جالبة المودة والبهجة والثقافة الجماهيرية والديمقراطية.
ولا يقتصر كتاب هانكوكس في نظره إلى الحشود على المسيرات السياسية والتظاهرات وما شابهها، لكنه يدرس أيضاً المهرجانات ومدرجات الجماهير في مباريات كرة القدم وأمثالها، ويرجع في تتبعه لشيطنة الحشود إلى أفكار الموسوعي الفرنسي غوستاف لوبون الذي شهد كميونة باريس الشهيرة، وخرج منها ليعلن همجية الحشود ومعاداتها لكل أوجه التحضر، إذ كتب لوبون عام 1895 في ما نقل عنه هانكوكس أن "الإنسان بمحض مشاركته في حشد منظم يتدنى درجات عدة على سلم الحضارة، فهو في عزلته قد يكون فردا متحضراً لكنه في الحشد همجي".
وكتبت صوفي مكبين عبر "ذي نيوستيتسمان" في الـ 20 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 مستعرضة الكتاب، فقالت إن الكاتب والمتظاهر المخضرم ومشجع كرة القدم هانكوكس أخذ خلال فترة الحظر الوبائي يشاهد باستمرار مقاطع فيديو لتشجيع كرة القدم متأثراً بصور آلاف الناس، إذ يغنون معا "لن تمشي وحدك أبداً"، وتواصل "فأدرك كم يفتقد لا رفقة أصدقائه وحسب، وإنما إحساس وجوده وسط الغرباء، ورقصه في الحفلات والمهرجانات، والشراب في يده، والتماهي مع رفاقه من مشجعي نادي ويمبلدون، أو الصياح في تظاهرة سياسية، ويرى أننا عندما نذوب في الزحام نستجيب لرغبة بدائية في أن نكون جزءاً من شيء أكبر من أنفسنا، فقبل أن نصبح أفراداً منفصلين أنانيين لهم حسابات في 'نتفليكس' وبلا رفقاء، كنا حيوانات قطعان نغني ونرقص معاً، ونفهم أننا إذ نجتمع في جماعة نصبح أكبر من مجموع أجزائنا".
تقلص الحياة الاجتماعية
"حتى قبل أن يرغمنا فيروس كورونا على العزلة الذاتية، كانت حياتنا الاجتماعية البريطانية تتقلص منذ عقود"، بحسب ما يكتب هانوكس، بعد أن شملت الخصخصة كثيراً من فضاءات المدن، وبعد أن أرغمت سياسات التقشف على إغلاق آلاف المراكز الاجتماعية والمكتبات والجماعات الشبابية والملاعب ومراكز الترفيه والحدائق، وتسرد صوفي مكبين نقلاً عن دان هانكوكس سلسلة قوانين حرمت البريطانيين حقهم في التجمع.
كم قيل لنا على مدار حياتنا إن الانضمام إلى الحشود يسلبنا قدرتنا على التصرف وعلى التفكير العقلاني وإحساسنا بأنفسنا وباللياقة، وأن العنف والتدني الأخلاقي ينتشران انتشار الجراثيم فيفيضان على كل فرد في حشد، أي أننا باختصار نتحول في الحشود إلى وحوش
ويذهب هانكوكس في كتابه الذي تطور من مقالة كتبها في فترة الحظر الأولى إلى أن الانتماء إلى الحشد يغير الفرد، إذ يتضخم فهمنا لأنفسنا وإحساسنا بالقدرة على التصرف عندما نتصرف بوصفنا جزءاً من جماعة أكبر، والحشود تغير مسار التاريخ فهي "التعبير الأكثر مباشرة ومادية عما لدينا من ديمقراطية، ولديها القدرة على أن تثير موضوعاً في ذهن، وأن تحفز التغيير وتعجله، مثلما حدث حين أطاحت انتفاضات الربيع العربي بدكتاتوريات عمرها عقود في مطلع العشرية الثانية من القرن الحالي، أو ما حدث على مقربة من الوطن حينما أطاحت تظاهرات بريستول بتمثال مالك العبيد إدوارد كولستن وأسقطته في الميناء عام 2020".
ومن قبيل الإجحاف أيضاً أن الحشود تعد عنيفة معدومة العقل، فلا نتكلم أبداً عن بهجة الحشد أو راحة الحشد، وليس في اللغة الإنجليزية قول يعني الحشد الرقيق أو الجمع الودود أو القطيع الدافئ، على رغم أن هانوكس يعتقد أن كل ذلك من خصال الحشود، فحينما تنظرون مثلاً في أن إجمال حاضري مباريات كرة القدم في موسم 2021 - 2022 في بريطانيا قد بلغ 30 مليوناً، ولم تحدث فيه اعتقالات إلا لـ 2198 شخصاً، ترون جماهير كرة القدم، وهي جماعة لا تحظى بسمعة طيبة على الإطلاق، جماعة حسنة السلوك بصورة مدهشة.
ويتتبع هانكوكس فكرة أن الحشود تشكل بطبيعتها خطراً وتفقدنا أنفسنا وقد تحيلنا من أشخاص شرفاء إلى أشخاص عنيفين، وصولاً إلى الموسوعي الفرنسي جوستاف لوبون وكتابه "سيكولوجية الجماهير" الصادر عام 1895، وقد يكون هذا الكتاب من أكثر الكتاب العلمية رواجاً في التاريخ، وقد قرأه كل من موسوليني وهتلر واستلهماه في تنظيم المسيرات الجماهيرية الحاشدة التي لا تزال شائعة في أنظمة الحكم الأوتقراطية اليوم.
سيكولوجية الجماهير
يعترف دان هانكوكس بتأثير كتاب لوبون وأهميته ونجاحه، "فقد ترجم الكتاب في غضون عام من نشره إلى 19 لغة، وصارت له جماهير من الرؤساء والطغاة وقادة الشرطة، بل إن سيغموند فرويد نفسه كان من المعجبين به، ولا يزال يشار إلى الكتاب لدى كتّاب المقالات والساسة في عام 2024 في معرض إدانة جنون الغوغاء، لولا مشكلتان في الرأي السائد عن سيكولوجية الجماهير وسلوكها"، بحسب ما يكتب هانكوكس.
"أما الأولى فمشكلة كبيرة وهي أن الكتاب هراء، وذلك أمر يمكن التحقق منه علمياً، فلقد كان لوبون رجلاً غريباً مأزوماً من الحرب ومناصراً للفاشية، أفزعه تزايد مطالب الحشود الفرنسية بالديمقراطية والاشتراكية، فتأسس كتابه على الخوف والمقت لا على البحث، وليس من المصادفات أن تبناه بحماسة غوبلز وهتلر، ويقول الأكاديمي ألفريد شتاين إن هتلر سطا في 'كفاحي' على أجزاء من كتاب لوبون، وموسوليني الذي أحب الكتاب حتى أصبح هو ولوبون صديقين بالمراسلة".
"والمشكلة الثانية المتعلقة بأساطير عقلية الغوغاء، ومنطق القطيع المتجانس، وعنف الحشود المعدي هو أنها لا تزال قائمة بصورة لا يمكن تصديقها على رغم زيفها، ذلك أن تشويه الجمع سيصب دائماً في مصلحة سلطة النخبة ويقوض الديمقراطية، فوصف أية جماعة من الناس ذاتية التنظيم بأنها متجانسة وخطرة أمر قديم قدم السلطة الهيراركية نفسها، وفي نهاية المطاف ما الغوغاء؟ ما من شيء مميز تصنيفياً أو دقيق تحليلياً لوصف الغوغاء إلا أنها ببساطة الحشد الذي لا يروق لك".
ومن حسن الحظ مثلما يكتب هانكوكس أن جيلاً جديداً من علماء النفس الجماهيري يأتي بأفكار طازجة، إذ أثبتت دراسات تفصيلية أن "كثيراً مما نعرفه بالفطرة، من قبيل أن الانضمام إلى جماعة من الأرواح متماثلة التفكير ينشئ بيننا قرابة وثقة وبهجة، وأن في كل حشد حشداً من السوكيات والاستجابات النفسية، وأن البهجة والدفء والتضامن كثيراً ما تنشأ في الحشود، وأن الحشود بعيدة كل البعد من طمس ذواتنا، ولذلك فإن التقارب مع الرفاق من مشجعي كرة القدم ومحبي الموسيقى والمتماثلين في الانتماءات السياسية أو الدينية يتسبب في طمأنينة عظيمة".
وتضيف صوفي مكبين ما يؤكد ذلك بقولها إن "علماء الاجتماع المحدثين دحضوا حجج لوبون، فمما توصلت إليه دراساتهم أن عنف الحشود يكون في الغالب نتيجة عنف الشرطة وليس العكس، وأن الحشود غالباً ما تهدئ نفسها، ومع ذلك يبقى إرث لوبون، سواء في تكتيكات الشرطة للسيطرة على الحشود، ولو أن هذا يتغير ببطء في ما يرجو هانكوكس، وفي الطريقة التي يكتب بها المعلقون من ساسة أو صحافيين عن المتظاهرين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتصف صوفي مكبين المنظور الذي يتناول منه هانكوكس موضوعه بأنه منظور إنساني بحت، فهو يستشهد بالاشتراكي الويلزي ريموند وليمز حين كتب أنه "لا توجد حشود وإنما توجد نظرات معينة إلى الناس بوصفهم حشوداً، فلو أن المنطلق هو أن معظم الناس جوهرياً عقلانيون وأخيار، وأنهم يبقون كذلك حتى لو اجتمعوا في حشود، فسيكون أوضح لنا أنه لا يجب للنظم الديمقراطية أن تجعل الأولوية حماية الناس من الحشود، بل في تمكين الناس من الاحتشاد بمزيد من الأمن، وذلك معناه أن تكون الشرطة أخف يداً وأكثر تجاوباً وإعلاء للأمن العام على النظام العام، ففي أعقاب التدافعات المميتة من قبيل كارثة مباراة كرة القدم في هيلزبورو عام 1989 التي لقي فيها 97 من الجماهير مصرعهم، غالباً ما يلام الضحايا لخشونتهم أو عنفهم أو ذعرهم، في حين أن السلطات هي المسؤولة بسبب سوء التنظيم، فالناس مثلما يقول أحد خبراء السلامة لهانكوكس لا يموتون بسبب الذعر، بل يصيبهم الذعر لأنهم يموتون، وفي حين أن هانكوكس ينتقد نزعة التعميم وإلقاء كل المتظاهرين في خانة واحدة بما يبطل الحاجة إلى التحقق من مطالب الحشد ودوافعه المتنوعة، ويتيح أيضاً للأفراد السيئين النجاة من العقاب، فإنه يميل أيضاً إلى إطلاق تعميمات مماثلة في شأن المؤسسة أو الطبقات السياسية أو الإعلام، والجماعة الأخيرة بالذات فيها تعددية سياسية نسبية أكيدة، فضلاً عن انتماء هانكوكس نفسه إليها، ومن ذلك أنه يكتب منتقداً بشدة 'اليمين' و'الوسط الليبرالي' في تخوفهما من غوغاء 'منصة إكس' دونما تحديد لتلك الجماعة التي يعنونها، لأن ناقد مهذباً أو حتى حفنة من مستخدمي 'إكس' المجهولين المسيئين لا يشكلون حشداً، لكن في حين يصدق أن كثيراً من المخاوف المتعلقة بغوغاء 'إكس' مغالى فيها، فبعض الناس من شتى القناعات السياسية، وفي الغالب من النساء وجماعات الأقليات، يتعرضون لرسائل مسيئة وتهديدات عبر الإنترنت، ومؤكد أنه لا يفترض بنا أن نتظاهر بعدم حدوث ذلك".
الثوري والأوتقراطي
يعترف هانكوكس أن الحشود ليست على الدوام قوى خير أو قوى عازمة على تكوين مجتمع أكثر مساواة، ويفرق بين الحشد الثوري والحشد الأوتوقراطي، إذ يجري توجيه الأخير من أعلى ويعمل في خنوع لخدمة سيده، ويذهب الكاتب إلى أن مثيري شغب السادس من يناير (كانون الثاني) 2021 داخل مبنى الكونغرس الأميركي كانوا حشداً أوتوقراطياً.
وتكتب صوفي مكبين أن "الحشود الصانعة للتاريخ في ما يبدو لا تنتمي كلها إلى هاتين الفئتين"، وتشير إلى قول هانكوكس إن متظاهري بريستول كانوا محقين حين أسقطوا تمثال كولستون بعد أن فشلت جهود عبر القنوات الرسمية لإزالته، وتعلق قائلة "إنني أعتقد شخصياً أنهم كانوا محقين، إذ لا يجدر بمجتمع ديمقراطي حديث ومتعدد الثقافات أن يحتفظ بتماثيل لملاك العبيد في المجال العام، ولكن منطق هانكوكس يصبح أقل جاذبية عندما تطبقه على مثال لحشد يفعل شيئاً أنت غير متفق معه، فلو أن جماعة من كارهي النساء في اليمين المتطرف رأت أن جهودها الرسمية لإزالة تماثيل بعض النساء المشهورات قد فشلت، فلن يرتاح معظم الناس إلى قيامهم بإسقاطها بأنفسهم".
لكن هانكوكس لا يغفل عن هذا بالقطع، فهو يضرب بنفسه أمثلة لحشود ناصرت ترمب أو مارين لوبان، وحشود أسوأ منها كثيراً، لكنه يأبى شيطنة "الحشود التي نكرهها" معتبراً ذلك ببساطة نهجاً عنصرياً، "وأنت حينما تصف فاشياً عنيفاً بأنه عديم العقل فأنت لا تكتفي بإعفاء أيديولوجيته المقيتة من المحاسبة، ولكنك تعفيه هو نفسه من المسؤولية عن قراراته وأفعاله الواعية".
وإذاً فما يسعى إليه دان هانكوكس من كتابته هو أن نبدد الأساطير والتشنيعات المحيطة بالحشود، فلا هي حشود شياطين ولا هي حشود ملائكية، لكنها ببساطة حشود عاقلة، ولا أخفيكم أنني ظللت لوقت طويل ألاحظ أنني لا أعرف، ولعل اللغة العربية نفسها لا تعرف، مفردة للغوغاء مشتقة من اسمها، مستخلصاً من ذلك أن الغوغائية حال جماعية بالضرورة، وإن احتمالات تحول فرد إلى الغوغائية تقل كثيراً حين يظل فرداً لولا أن الأيام الـ 18 التي عاشها مئات آلاف المصريين في ميدان التحرير خلال ثورة الـ 25 من يناير 2011 وطرح دان هانكوكس زعزعا قليلاً من هذه القناعة، مضيفين على الأقل احتمالاً آخر لما يمكن أن ينجم عن اجتماع البشر.
العنوان: Multitudes: How Crowds Made the Modern World
تأليف:Dan Hancox
الناشر: Verso