Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خلافات سياسية وتناحرات أيديولوجية... حرب الفيديوهات تغزو مصر

أصبح "يوتيوب" لاعباً مؤثراً في الحياة الفنيَّة والرياضيَّة والاجتماعيَّة... والمواطنون يتخذونه وسيلة للدفاع أو الهجوم

يعيش المصريون هذه الأيام أزهى عصور الفيديوهات المتداولة على سبيل التحذير والتهديد وتحقيق الشهرة والانتشار (أ.ف.ب)

تتصاعد وتيرة الصراعات المسموعة والتناحرات المرئيَّة، وتتفاقم المواجهات أمام الكاميرات، وتتأجج حدة التعبير عن التهديد وتأكيد التغيير الحادث لا محالة، لكنه تغيير على طرفي نقيض.

وعلى النقيض مما كان متوقعاً، لم يقتصر الرد على سلسلة المقاطع المصوّرة التي غزت شبكة المصريين العنكبوتيَّة فجأة على مدار الأسابيع الثلاثة الماضيَّة على برامج موجهة ومقالات مسيّسة ورسائل رسميَّة، بعضها مباشر تحت رايّة حمايَّة الأمن القومي والضرب بيد من حديد على كل من تسوّل له نفسه المساس بأمن المواطن وأمان المواطنين، أو غير مباشرة إذ عرض لمصائر الدول التي تركت حبل الشارع على غارب الفوضى.

أزهى عصور الفيديوهات
يعيش المصريون هذه الأيام أزهى عصور الفيديوهات، والمقاطع المصوّرة المتداولة على سبيل التحذير تارة، والتهديد تارة أخرى، وتحقيق الشهرة والانتشار دائماً.

حرب الفيديوهات بدأت بظهور فجائي لسلسلة مقاطع مصورة للفنان المقاول محمد علي والناشط الحقوقي وائل غنيم ومجموعة من الشخصيات بعضها معروف لدى الدوائر الثوريَّة ومجموعات الإسلام السياسي، والبعض الآخر لم يسمع عنه أحد، ولأن غزوة الفيديوهات الفجائيَّة لم يكن لها سوى هدف واحد هو دفع المصريين للنزول إلى الشوارع والمطالبة بإسقاط النظام ورحيل الرئيس، فقد قرر آخرون يقفون على الضفة السياسيَّة المواجهة أن يكون الرد من جنس العمل: فيديوهات مهددة ومنذرة لمن يطالب بالإسقاط، وساخرة ومسفهة لمن يدعي امتلاك ملكات القيادة ومواهب الريادة، ومفسرة شارحة لجموع الشعب القابعة أمام شاشات الهواتف المحمولة والكمبيوترات واللوحات الرقميَّة أنه لا ثورة ولا يحزنون، ولا فوضى ولا خرق قانون.

قوانين السجال السياسي
قوانين السجال السياسي والخلاف الأيديولوجي التي عرفها الكوكب منذ تطورت الأنظمة السياسيَّة في كفة، وفي الكفة الأخرى الصرعة الرقميَّة الجديدة التي لم تكتف بإلقاء ظلالها على عالم الخلافات السياسيَّة والتناحرات الأيديولوجيَّة، بل صارت هدفاً في حد ذاتها، وليست مجرد وسيلة للتعبير السياسي أو منصة للعرض، صار الهدف التراشق والتلاسن وقصف الجبهة.

يقرر المقاول الفنان محمد علي (أو يٌقرَر له) أن يصدر سلسلة من الفيديوهات المثيرة الجدل والغضب لدى الغالبيَّة، والمؤججة الفرحة وانتهاز الفرصة لدى البعض الآخر، فيلحق به الناشط المهندس وائل غنيم بسلسلة موازيَّة ما زالت أهدافها ومحركاتها مبهمة بعض الشيء، ومعهما عشرات من المعارضين أو الموجهين أو الباحثين عن أرضيَّة جماهيريَّة أو الراغبين في التعبير عن وجهة نظر أو رأي أو موقف.

حروب الفيديوهات مستمرة، ووسائل التعبير عن الآراء متجددة، ومنصات إيجاد البدائل لتضييق المجال العام وتوسيع الأفق التعبيري تتكاثر، ولا مجال لمنعها أو حجبها طيلة الوقت، ولأن الشبكة العنكبوتيَّة ومواقع التواصل الاجتماعي أصبحت واقعاً حياتياً معاشاً لسكان الكوكب، فإن جهود شيطنة كل المحتوى وخطوات حجب ما لا يتواءم وتوجهات المنتج حتى وإن كانت لأغراض الإنقاذ وأهداف الحمايَّة ستظل حرثاً في مياه البحر.

جون ماكين و"يوتيوب"
ومن الولايات المتحدة الأميركيَّة يخبرنا التاريخ الحديث عن السناتور الأميركي الراحل جون ماكين الذي كان يتحدث حديثاً "غير مذاع" أمام مجموعة صغيرة من داعميه في أبريل (نيسان) عام 2006.

قال ماكين، "تذكروا أغنيَّة فريق بيتش بويز القديمة (أطلقوا القنابل على إيران، أطلقوا القنابل، أطلقوا القنابل، أطلقوا القنابل)".

وما بدا وقتها أنه دعابة أطلقها ماكين أمام مجموعة صغيرة من المؤيدين في ساوث كارولينا تحوّل بعد دقائق إلى فيديو، تداول ملايين المرات عبر يوتيوب، وهو ما وضع الرجل في مأزق، وتوجب عليه التعليق السريع والرد الشافي.

يشار إلى أن أغنيَّة "أطلقوا القنابل على إيران" أثارت قدراً كبيراً من الجدل وقت إعادة إصدارها في عام 1980، وتزامنها مع أزمة الرهائن الأميركيين.

الولايات المتحدة الأميركيَّة وغيرها من دول العالم المتقدم تقف على أرضيات سياسيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة تختلف تماماً عن تلك التي تقف عليها دول المنطقة العربيَّة، ورغم ذلك، فإن الشبكة العنكبوتيَّة بمنصاتها المختلفة وأدوات تمكينها الشعبي المتعددة واحدة في الشرق والغرب.

الصدمات المتتاليَّة التي تلقفها الساسة الأميركيون ومعهم شركات التسويق السياسي وصناعة الرأي العام وقياسه الكثيرة قبل ما يزيد على عقد ونصف العقد، وقت سطع نجم منصات التواصل الاجتماعي، وأبرزها "يوتيوب" تم التعامل معها بطرق عديدة، لكن أبرزها هو المنهج الواقعي المدرك طبيعة الشبكة العنكبوتيَّة، التي إن أغلقت الباب دخلت من الشباك، وإن أوصدت كليهما تسربت من كل الفتحات الممكنة.

المقال المهم المنشور على موقع "سي إن إن" الأميركي بتاريخ الـ18 من يوليو (تموز) عام 2007 تحت عنوان "يوتيوبة السياسة: المرشحون يفقدون السيطرة"، (The YouTube-ification of Politics: Candidates Losing Control) يسرد ويشرح كيف فرضت منصة "يوتيوب" نفسها فجأة على الحملات الرئاسيَّة الأميركيَّة، وكيف غيّر هذا الفرض من قواعد لعبة الترشح والتواصل مع الناخبين، ورد ما يرد على "يوتيوب" من مقاطع من شأنها أن تكشف حقيقة أخرى للمرشحين غير تلك التي يقدمونها للناخبين.

وخرج المقال بأربع نقاط رئيسيَّة يمكن الاسترشاد بها في حرب الفيديوهات الحاليَّة: فيديوهات "يوتيوب" تفقد الساسة سيطرتهم على الساحة، وعلى موقفهم وموقعهم في المناظرات والنقاشات السياسيَّة، بعض الفيديوهات يمكن أن يقلب المشهد السياسي رأساً على عقب، ويعيد توجيهه في اتجاه عكس المراد تماماً، يمكن للبعض من خارج المشهد السياسي كليَّة أن يعيدوا رسم ملامح ومكانة ومصير الساسة، وأخيراً أحياناً يكون الرد على الفيديو أكثر أهميَّة من الفيديو نفسه.

إشارة إطلاق فيديوهات مناهضة
وإذا كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اختار أن يرد على ما ورد في سلسلة فيديوهات المقاول الفنان في أثناء فعاليات المؤتمر الثامن للشباب، وحيث إن معترك الفيديوهات السياسيَّة والمتناحرة وذات الأهداف والأغراض يعد حديثاً نسبياً على الساحة المصريَّة، فقد رد الرئيس المصري بكثير من العفويَّة لامه البعض عليها، وبعض من العاطفيَّة أثرت إيجاباً في فريق وسلباً في فريق آخر. لكنها في نهايَّة اليوم تظل مرحلة تؤرخ بدايّة عصر جديد في عالم السياسة المصريَّة، ألا وهو "يوتيوبة المشهد السياسي"، وإشارة البدء لإطلاق حرب الفيديوهات المناهضة، وذلك بعد ما فرض "يوتيوب" نفسه لاعباً مؤثراً في الحياة الفنيَّة والرياضيَّة والاجتماعيَّة.

لكنه المجتمع الذي يدفع بـ"يوتيوب" نحو اختراق الساحة السياسيَّة وتغيير القواعد وتعديل موازين القوى. المشهد السياسي المصري المغلق منذ ما يقرب من خمس سنوات، حيث موت إكلينيكي للأحزاب السياسيَّة وسيطرة قويَّة على المشهد الإعلامي، وتضييق في التعبير على الأصوات المخالفة، عوامل ساعدت على تلقف الكثيرين الفيديوهات المتداولة، تارة باعتبارها متنفساً مطلوباً، وأخرى لأنها تحوي قدراً من الإثارة، وثالثة لأنها تدق على أوتار توجهات سياسيَّة معارضة، ورابعة بهدف الاستعداد للرد والهجوم على أصحاب الفيديوهات المعارضة للدفاع عن النظام سواء باسم الوطنيَّة أو حباً في القيادة السياسيَّة.

وعلى الرغم من تسييس منصات التواصل الاجتماعي منذ منتصف العقد الماضي بشكل واضح، وهو التسييس الذي يشار إليه باعتباره عاملاً قوياً لتأجيج رياح التغيير وإشعال ثورات الربيع، فإن انتقاله من مرحلة تمكين الجماهير من معرفة المعلومات والاطلاع على الآراء عبر إتاحة الفرصة لكل متصل بالإنترنت إلى مرحلة تمكين الجماهير من أن يتحوّلوا هم أنفسهم إلى صانعي معلومات ومنتجي آراء وتوجهات هي ما تعيشه مصر هذه الآونة.

مبادرة الدفاع المصور
هذه الآونة يأخذ العديد من المواطنين المصريين المبادرة للدفاع والهجوم عبر منصة "يوتيوب" عبر فيديوهات مسجلة، وليس عبر "يوتيوب" لايف! ففي أعقاب هوجة فيديوهات محمد علي ووائل غنيم والتي تلقفتها قنوات وحوّلتها إلى خميرة ثوريَّة، كما تلقفتها قنوات محليَّة، وحوّلتها إلى أدلة اتهام وبراهين خيانة وعمالة، انضم كثيرون بدوافع شتى إلى المنصة المكتشفة حديثاً بهدف التأييد أو لغرض التنديد.

إعلاميون قابعون في بيوتهم منذ أربع أو ثلاث سنوات، وتحديداً منذ تقليم أظافر القنوات التلفزيونيَّة المصريَّة الخاصة، أخذوا على عاتقهم مهمة الرد على الفيديوهات المناوئة للنظام المصري عبر مقاطع مصوّرة شبه احترافيَّة، هؤلاء أخذوا على عاتقهم مهمة صد حروب الفيديوهات المعارضة بشن هجمة دفاعيَّة عبر المنصة ذاتها.

 

وربما شجَّع ذلك مواطنين عاديين لتصوير فيديوهات وتحميلها على "يوتيوب" مطبقين مبدأ العدالة الاجتماعيَّة والسياسيَّة والإعلاميَّة للجميع.

الباحث في العلوم السياسيَّة وعلاقتها بمواقع التواصل الاجتماعي أحمد السعيد يقول إن "الأجواء السياسيَّة والإعلاميَّة المقيدة والملبدة بغيوم الإرهاب والحفاظ على الأمن القومي، ومن ثم الميل إلى حجب ومنع هوامش التعبير المصنفة، باعتبارها معارضة أو مناوئة هو ما دفع الأمر إلى ذلك".

ويضيف، "المصريون يملون الركود والرتابة. ويذكر التاريخ الحديث أنهم قد يضطرون إلى الاكتفاء بصوت واحد أو قناة تلفزيونيَّة واحدة أو توجه سياسي واحد، لكنهم دائماً يجدون منفذاً بالغ الذكاء. مرة بنكات ساخرة غير مباشرة، وأخرى بتداول إشاعات وأخبار لا أساس لها من الصحة، وكأنها نوع من الانتقام، وثالثة بإعطاء شعبيَّة هائلة لبرامج السخريَّة السياسيَّة، ورابعة بالبحث عن مصادر أخرى للمعلومات، وخامسة حديثة عبر اللجوء إلى أدوات التعبير الجديدة المتاحة على شبكة الإنترنت، سواء كانوا مؤيدين أو معارضين أو جاؤوا للمشاهدة بهدف التسليَّة أو من باب العلم بالشيء".

ومن باب العلم بالشيء، فإن عدد مستخدمي الإنترنت في مصر يبلغ نحو 50 مليون مواطن، وذلك وفقاً لإحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في ديسمبر (كانون الأول) عام 2017، وأغلب أولئك من الشباب الذين يتقنون قواعد استخدام الإنترنت.

حريَّة الرأي على الإنترنت
أشارت دراسة عنوانها "اتجاهات الشباب المصري نحو حريَّة الرأي والتعبير على شبكة الإنترنت في إطار نموذج التحليل الثقافي" للباحث خالد صلاح الدين إلى أن الشباب المستخدم الإنترنت "يجيدون إنتاج المحتوى الإعلامي عبر الشبكة، وهو محتوى يحمل رموزاً ثقافيَّة تعكس اتجاهاته السياسيَّة نحو النظام القائم والحكومة والمؤسسات الرسميَّة السياسيَّة".

ويلفت صلاح الدين إلى أن "صنّاع القرار والسياسيين وممثلي الشعب في مجلس النواب دأبوا على توجيه انتقادات حادة في شأن تجاوزات حريَّة الرأي والتعبير من قبل الشباب في شأن النظام القائم ومؤسسات الدولة الرسميَّة، ما يضر بالنظام الاجتماعي، ويمثل تهديداً صارخاً للأمن القومي المصري".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويقول، "زعم التيار الرافض حريَّة الرأي والتعبير الرقميين أن هذا النمط من الحريَّة غير المسؤولة يندرج ضمن مفهوم الجيل الرابع من الحروب، في ضوء مزاعم أن الشبكة الإلكترونيَّة تنطوي على خلايا خفيَّة تعمد إلى زعزعة النظام المصري عبر البيانات والمعلومات الكاذبة، ويتبع بعضها تنظيمات إرهابيَّة تستهدف النيل من استقرار المجتمع المصري، خصوصاً أن مصر تمر بمرحلة تحوّل سياسي صوب الديموقراطيَّة، وتنشد أن تكون إحدى أبرز الديموقراطيات الناشئة".

ويستطرد إلى أنه "على الجانب الآخر، يعتقد مستخدمو الشبكة الإلكترونيَّة من الشباب أن روافد الإعلام البديل هي المتنفس الوحيد للتعبير بحريَّة تامة عن آرائهم ووجهات نظرهم في الشؤون المجتمعيَّة التي تشهد تحوّلات جذريَّة في الفترة الراهنة، ومن ثم ينبغي أن يكون لأولئك الشباب حضور ملموس في الرقابة على الأداء العام للحكومة والمؤسسات السياسيَّة، حتى لو كان هذا الحضور افتراضياً".

بيئة رافضة الآراء
كما يشير الباحث إلى وجود بيئة مصريَّة مجتمعيَّة رافضة آراء الشباب وطرق تعبيرهم على الشبكة العنكبوتيَّة، التي يقيمها بعض قطاعات المجتمع في ضوء كونها تجاوزات أخلاقيَّة، وبثاً للإشاعات، وخلق مناخ من الريبة في الرموز والمؤسسات المجتمعيَّة، وهو ما يضاعف من حجم مشاعر التربص والتحزب والاستقطاب.

وبينما صراع الفيديوهات يستمر، وحرب الـ"يوتيوب" تتأجج، تتخذ المواجهات الافتراضيَّة أشكالاً تبدو وكأنها "الوطنيَّة" في مواجهة "الخيانة والعمالة"، وهنا تتضاءل قيم التعبير الحقيقي عن الرأي، سواء كان مؤيداً النظام السياسي أو معارضاً، وتتقلص مساحات الحوار المرتكز على تبادل وجهات النظر وشرح الحجج والبراهين ليصبح مجرد صراخات مصوّرة ومحملة على الشبكة، الهدف منها نيل هؤلاء من أولئك، وتتحوّل منصة مشاركة المقاطع المصورة في دوائر الأصدقاء أو حتى بحثاً عن شهرة أو تفاعل أو تشارك إلى محاولات فريق لهدم وتشويه دول وكيانات وجهود فريق للرد عبر تطبيق مبدأ الفيديو بالفيديو، والشتم بالشتم، والبادي أظلم على "يوتيوب" و"فيسبوك لايف". وفي هذه الهوجة الضخمة تتضاءل وتتقلص فرصة الشعوب الحقيقيَّة للمعرفة المعلوماتيَّة، والتعبيرات السياسيَّة، والمراقبة على أداء الأجهزة والمؤسسات السياسيَّة والحكوميَّة، ومتابعة المناظرات والجدالات النقاشيَّة، إذ ينجرف الجميع في صخب عنكبوتي صارخ المظهر فارغ المحتوى.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات