Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الصفحة 7" عرض مسرحي عن مشردين يواجهان عبثيا...مأساتهما

الممثلان عصام أبو خالد وفادي أبو سمرا ثنائي لامع في المسرح اللبناني

من مسرحية "الصفحة 7" (مسرح المدينة)

أول انطباع يرتسم في ذهن مشاهد مسرحية "الصفحة 7" (مسرح المدينة، بيروت) هو أن العرض قائم على لعبة ممثلين كبيرين هما فادي أبو سمرا وعصام أبو خالد، وأن الجديد الذي يحمله العرض الثنائي (ديو) هو رقيّ هذا اللعب الناجم عن مهارة هذه الممثلَين وقدرتهما الفائقة على احتلال الخشبة الفارغة إلا من بضعة مقاعد، مثلت المكان المفتوح الذي يستطيع الجمهور أن يتخيله بحرية. وعلى الرغم من جمالية النص وقوته التعبيرية ورمزيته، فهو كان لا بد له من أن يذكّر بنص صموئيل بيكيت الشهير "بانتظار غودو"، وأصلاً يذكر الممثلان في ختام العرض اسم غودو ويتحدثان عن الشجرة المعروفة التي زرعها بيكيت في صميم المسرحية، وكأنهما يوجهان تحية للكاتب الذي أسس مسرح العبث في أوروبا.

لكن الكاتب عصام أبو خالد أبدع نصاً يماثل نص بيكيت ويختلف عنه كل الاختلاف، فهذان المشردان المعدمان هما لبنانيان على الرغم من طابعهما الإنسانوي (هومانيست) الشامل، والوقائع لبنانية أيضاً وكذلك المكان المفترض أو المتخيل. وقد يكون هذا الشخصان واقعيين على الرغم من عبثيتهما المطلقة واقتلاعهما واستلابهما. ويمكن القول إنهما من هذا "الشعب" الهامشي والمهمش والمحذوف، معتوهان أو مريضان نفسانياً (أو مجنونان)، يهذيان حيناً ويعودان حيناً إلى حقيقتهما بوصفهما إنسانين، خائبين، يملكان هواجس وأسئلة ميتافيزيقية. في الختام بعدما يتخيلان نفسهما على شفا الموت، يسأل أحدهما: "قولك في حياة هونيك؟". بل إن إنسانيتهما تتجلى في اللحظات التي ينام فيها أحدهما (فادي أبو سمرا) على المقعد ويسترجع ماضيه الطفولي الذي كان سوياً على ما يبدو، في حال من التداعي، ولا يلبث أن يشاركه الآخر (عصام أبو خالد) في استرجاع الماضي وكأنهما شخص واحد، أو كأن الواحد مرآة للآخر. إنهما شخصان اثنان ولو كانا يبدوان في بعض المشاهد شخصاً واحداً، شخصاً وقرينه، شخصاً وظله. فعندما يتعاركان مثلاً يبدو كأن الواحد منهما يتعارك مع ظله، وعندما يتعانقان فكأنما الواحد يعانق ظله. ولكن لا يتّضح طوال المسرحية مَن قرين مَن، ولا مَن ظل مَن، فهما يكملان بعضهما بعضاً في حال النقصان أو الخسران.

 شارة نصر وهمية

في مستهل المسرحية يطل فادي داخل دائرة من الضوء، رافعاً إصبعيه في شارة النصر التي هي الرقم 7، وبعد دقائق صمت يهجم عليه عصام ليحتل دائرة الضوء نفسها ويرفع إصبعيه دلالة على النصر. يتعاركان على الدائرة وعلى شارة النصر، التي يكتشف الجمهور لاحقاً، إنها تدل على رقم الصفحة 7، وهي صفحة الوفيات في الجريدة. ولكن في الحقيقة أن صفحة الوفيات رقمها 19 وليس 7 إلا أن أحدهما يتشاءم بالرقم 19 فيطلق على الصفحة رقم 7. ولعلهما لا يركزان في الجريدة على صفحة الوفيات إلا بحثاً عن المآتم والجنازات وأسماء المتوفين، التي يحددان من خلالها، الطبقة التي ينتمون إليها. فهما الجائعان دائماً، يقصدان المآتم ليوفرا بعض الطعام من الموائد أو بقاياها. فإدا كان المتوفى رجلاً عادياً فهما يفوزان بالكاد بفنجانَي قهوة. وإذا كان الميت طبيباً يفوزان بمائدة غنية و"صحية" ومطهرة. أما أطرف ما يقرآن فهو عن جنازة لرجل بلا اسم.

عبثية مأسوية ساخرة

شخصان عبثيان تماماً، وتنم عبثيتهما عن الكثير من السخرية والهزء، ما يلقي على النص المأسوي في عمقه، طابعاً كوميدياً خفيفاً. فتعاركهما مثلاً ومضيّهما في شتم بعضهما بعضاً كما لو كانا في مباراة شتم، وبعض حركاتهما، تدفع الجمهور إلى الضحك. هذا أسلوب عبثي جداً: أن تجاور السخرية المأساة وكأنهما وجهان لعملة واحدة. وأطرف المشاهد الساخرة والعبثية هو شعورهما وهما جالسان على مقعد واحد، بأنهما عالقان في "النص" (النصف) أو في الوسط، وكأن أحداً ثالثاً موجود على طرف المقعد. يتبادلان المكان على المقعد، فيشعر واحدهما بأنه جالس في النصف بين زميله وشخص آخر متوهم أو خفي وغير موجود. وفي مشهد طريف آخر يقومان بالتصويت بعد خلاف ينشب بينهما حول الذهاب إلى المأتم والواحد منهما يركب على ظهر الثاني. والتصويت بين اثنين فقط ضرب من الجنون فلا تعادل هنا إلا بالتوهم. ومرة يتمنى واحدهما للآخر أن يموت، فيشعر أنه مات ويقرأ اسمه في صفحة الوفيات.

المسرحية إذاً هي مسرحية الممثلين الكبيرين عصام أبو خالد وفادي أبو سمرا، واللعبة لعبتهما في إيقاعها المتقطع والمتنامي، في حركيتها الجسدية وفي مداها التعبيري الرحب. رسم الممثلان ملامح الشخصيتين ببراعة، ودمجا في أدائهما بين التقنية العالية والوعي العميق لمفهوم التمثيل، منفتحين على مقدار من الارتجال غير المعلن الذي يخدم النص والشخصيتين وتعابيرهما ويلقي عليهما المزيد من الحيوية. أداء حر ومضبوط في وقت واحد، طبيعي لا يخلو من العفوية النضرة، حِرفيّ إلى أقصى حد. ولعل هذا الإداء الباهر هو الذي منح العرض أبعاداً درامية راسخة وأضفى على السينوغرافيا الفارغة ظلالاً ومعالم وملأها بحركة ودينامية. رسم الممثلان بجسدهما وحركتهما وتعبيرهما الداخلي فضاء العرض وجعلا الجمهور يتخيّل المكان أو الزمن خارج حدودهما المحددة. نجح فادي أبو سمرا وعصام أبو خالد في أداء هاتين الشخصيتين بتناغم خارجي وداخلي، و"تواطؤ" إبداعي، الواحد منهما يعطي الآخر بسخاء ويأخذ من الآخر بحرية. وكما حقّقت الشخصيتان ثنائياً درامياً حقّق الممثلان ثنائياً نادراً ما يبلغه الممثلون في مثل هذه الأدوار.

المزيد من ثقافة