ملخص
ها هو بوتين يعود مرة أخرى ليعلن في اجتماعه مع أعضاء مجلس الأمن القومي الروسي أن موسكو تحتفظ لنفسها بحق "استخدام أسلحتها النووية للرد على عدوان أية دولة غير نووية بدعم من جانب دول نووية"، في تلميح يرقى إلى حد التصريح، إلى أوكرانيا.
عادت موسكو مرة أخرى لما سبق وأثارت به مخاوف العالم من احتمالات استخدامها لقدراتها النووية، وعاد الرئيس فلاديمير بوتين لما سبق وقاله في حديثه إلى الإعلامي الروسي الأشهر فلاديمير سولوفيوف، حول أنه "لا حاجة لبلاده إلى عالم ليس فيه مكان لروسيا". وكان الحديث حول هذا الموضوع تكرر أكثر من مرة منذ بدء "العملية العسكرية الروسية الخاصة" في أوكرانيا في الـ24 من فبراير (شباط) 2022، واتخذ طابعاً أكثر جدية بعد دفع روسيا لعدد من وحداتها النووية التكتيكية والاستراتيجية إلى أراضي بيلاروس شريكتها في الدولة الاتحادية منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وأجرت مناوراتها المشتركة مع القوات المسلحة البلاروسية. وبعد إعلان الرئيس السابق بوريس يلتسين مرسومه في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) 1993 في شأن "الأحكام الأساسية للعقيدة العسكرية لروسيا الاتحادية"، أصدر بوتين في مستهل ولايته الأولى في الـ21 من أبريل (نيسان) 2000 "أول عقيدة عسكرية نووية"، ليعيد خلفه دميتري ميدفيديف صياغة نسختها الثانية في الخامس من فبراير (شباط) 2010، وهي "العقيدة النووية" التي عاد بوتين لتعديلها في الـ26 من ديسمبر (كانون الأول) 2014، بما يتوافق مع متغيرات المرحلة ومقتضيات الأوضاع الإقليمية والدولية، وبما يسمح لروسيا بحق استخدام أسلحتها النووية ضد خصومها، بما في ذلك "إذا كان هجومهم باستخدام الأسلحة التقليدية يهدد وجود الدولة".
أوكرانيا هي الهدف
وها هو بوتين يعود مرة أخرى ليعلن في اجتماعه مع أعضاء مجلس الأمن القومي الروسي، أن موسكو تحتفظ لنفسها بحق "استخدام أسلحتها النووية للرد على عدوان أية دولة غير نووية بدعم من جانب دول نووية"، في تلميح يرقى إلى حد التصريح، إلى أوكرانيا. وأشار الرئيس الروسي إلى أن العدوان على روسيا من أية دولة باستخدام الأسلحة التقليدية، ولكن بدعم من قوة نووية، سيعتبر عدواناً مشتركاً. وأضاف أنه في ضوء "ظهور مصادر جديدة للتهديدات والأخطار العسكرية بالنسبة إليهم وإلى حلفائهم"، يجري متخصصون من وزارة الدفاع والإدارات الروسية الأخرى ذات الصلة بحثاً معمقاً حول تحليل العقيدة النووية للبلاد العام الماضي من أجل تعديلها، مشيراً إلى أن "النسخة الموسعة من الوثيقة تفترض أن موسكو ستعتبر العدوان على روسيا من أية دولة غير نووية، ولكن بمشاركة أو دعم دولة واحدة نووية، بمثابة هجوم مشترك ضدها". وأشارت المصادر الروسية ومنها الموقع الإلكتروني لمنطقة الأورال URA.RU إلى الأخطار التي تهدد الدولة الروسية، وفي مقدمها توسع "الناتو" ونشر وتعزيز قواته الصاروخية والنووية على مقربة مباشرة من الحدود الروسية، وهو ما كان بوتين أدرجه في رسالتيه اللتين بعث بهما إلى الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي في أواخر عام 2021.
وأعلن بوتين في الـ25 من مارس (آذار) 2023 أنه بناء على طلب بيلاروس، فإن روسيا ستنشر أسلحتها النووية التكتيكية على أراضيها، على غرار الولايات المتحدة، التي تضع منذ فترة طويلة أسلحة مماثلة في أراضي عدد من حلفائها الأوروبيين، إلى جانب ما تنشره في مناطق أخرى من العالم. ونقلت موسكو منظومات صاروخية من طراز "إسكندر أم -"Iskander-M" إلى عاصمة بيلاورس مينسك، وساعدت في إعادة تجهيز الطائرات القادرة على حمل العبوات النووية، إلى جانب الانتهاء من إعداد وتدريب الجيش البيلاروسي في روسيا الاتحادية على استخدام هذه الأنظمة. وفي نهاية أبريل (نيسان) 2024 أعلن رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو نشر عشرات عدة من "الذخائر النووية" في أراضي البلاد، إلى جانب إمكان تجهيز منظومات "Iskander-M" برؤوس حربية نووية تكتيكية.
التحذير الأكثر إثارة
وسارعت الدول الغربية إلى تحديد موقفها مما قاله بوتين وما طرحه من تهديدات، كما بدا ما يشبه الإجماع من جانب الصحف الغربية الرئيسة، ومنها صحيفة "واشنطن بوست" التي ذكرت، نقلاً عن "عالم مقرب من كبار الدبلوماسيين الروس" بحسب ما وصفته الصحيفة، أن "بيان بوتين يأتي وسط "موجة من التهديدات النووية" رداً على طلبات أوكرانيا من الحلفاء الغربيين برفع القيود المفروضة على استخدام الأسلحة بعيدة المدى للدولة غير النووية التي تتلقى الدعم العسكري من القوى النووية. وقال المصدر الروسي "إن التغييرات في العقيدة النووية ستزيد من مرونتها و"توسعها إلى حد ما"، وفي رأيه أن اللحظة التي اختيرت لتصريح بوتين لم تكن صدفة، بل هي "إشارة واضحة إلى الغرب". كما أشارت صحيفة "فايننشال تايمز" إلى أن الرئيس الروسي وجه "تهديدات حادة" ضد حلفاء أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي، وأن ثلاث قوى نووية، هي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، تدرس طلبات كييف لتوجيه ضربات صاروخية من طراز "ستورم شادو" إلى عمق روسيا، وقالت "فايننشال تايمز" إن هذا التصريح هو أشد تصريحات بوتين "الأكثر مباشرة" حول استخدام الأسلحة النووية منذ بداية العملية العسكرية. ووفقاً للخبراء فإن التغيير في العقيدة النووية يمكن أن يعني انخفاضاً كبيراً في العتبة النووية المعلنة لروسيا، ووضع معايير إضافية يمكن لموسكو بموجبها أن تسمح بضربات نووية، بحسب ما ذكرت الصحيفة.
وتعليقاً على ما أعلنه المتحدث الرسمي باسم الكرملين دميتري بيسكوف حول النحو الذي بموجبه تغيرت العقيدة النووية الروسية، أشارت صحيفة "الغارديان" البريطانية إلى أن "بوتين شدد خطابه النووي"، ووصفت تصريحه بأنها "أقوى" تحذير من بوتين للغرب ضد أوكرانيا التي تشن ضربات في عمق الأراضي الروسية.
وقال رئيس مشروع أبحاث القوات النووية الروسية في جنيف بافيل بودفيغ، في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز"، إن التغيير في العقيدة النووية يهدف على ما يبدو إلى "ردع إضافي" لحلفاء أوكرانيا الغربيين. وفي حديث هاتفي من جنيف مع "نيويورك تايمز"، أشار بودفيغ إلى أنه "صار من الواضح تماماً أن إجراء تغييرات على العقيدة هدفه تشديد ردع حلفاء أوكرانيا الغربيين، وهناك عدد من الطرق لتفسير ما هو عدوان وما هو ليس كذلك، لكنه لا يزال يخفض عتبة الاستخدام المحتمل للأسلحة النووية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما شبكة تلفزيون "سي أن أن" الأميركية فوصفت الأوضاع الراهنة بأنها "المواجهة الأكثر خطورة بين روسيا والغرب منذ أزمة بحر الكاريبي (الصواريخ الكوبية)، وقالت إن الصراع الراهن في أوكرانيا، الذي استمر منذ عامين ونصف عام، تسبب في أخطر مواجهة بين روسيا والغرب منذ أزمة البحر الكاريبي في عام 1962، عندما كانت القوتان العظميتان على بعد خطوة واحدة من الحرب النووية."
من جانبها قالت "دير شبيغل" الألمانية إن هدف بوتين هو منع مزيد من إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا، وأضافت أن "العقيدة الجديدة تزيد من خطر الانتقام من روسيا، بخاصة بالنسبة إلى القوى النووية الغربية مثل الولايات المتحدة وفرنسا"، مشيرة إلى أن "النسخة المحدثة من العقيدة النووية الروسية" تنص على أن العدوان على روسيا من دولة غير حائزة للأسلحة النووية يمكن اعتباره هجوماً مشتركاً مع قوة نووية إذا كان البلد المعتدي يتمتع بدعمه. وقد يؤثر هذا الحكم، على سبيل المثال، في البلدان الخالية من الأسلحة النووية التي ستدعم أوكرانيا في حالة هجومها على روسيا". وكان بوتين سبق وحذر من أن السماح بضرب روسيا بالأسلحة الغربية، يعني أن دول الناتو ستصبح مشاركة مباشرة في الصراع، وفق "لو فيغارو" الفرنسية.
كما وصفت وكالة "أسوشيتد برس" خطاب بوتين بأنه "تحذير جديد قوي" للغرب، وكتبت الوكالة أن التهديد يهدف "بشكل واضح" إلى منع حلفاء أوكرانيا من السماح لها بضرب روسيا بأسلحة بعيدة المدى، و"يبدو أنه يخفض بشكل كبير عتبة الاستخدام المحتمل للترسانة النووية الروسية"، وقالت "أسوشييتد برس" إن الصياغة التي تقول إن موسكو تحتفظ لنفسها بالحق في استخدام الأسلحة النووية، رداً على الهجمات الجوية الضخمة هي "غموض متعمد يهدف إلى جعل الغرب أقل استعداداً للسماح بضربات بعيدة المدى"، وهو ما بات واضحاً لجميع الدول التي تواصل تقديم دعمها اللامحدود لأوكرانيا.
شروط استخدام الأسلحة النووية
حددت روسيا في عام 2020 وثيقة "أساسيات سياسة الدولة في مجال الردع النووي" التي نصت على الحالات الأربع التي يمكن لروسيا فيها استخدام الأسلحة النووية، وهي "الحصول على معلومات مؤكدة حول إطلاق صواريخ باليستية تهاجم روسيا أو حلفاءها"، و"استخدام الأسلحة النووية أو غيرها من أسلحة الدمار الشامل على أراضي روسيا"، إلى جانب "الهجوم على المنشآت الحكومية أو العسكرية الحيوية في البلاد"، و"العدوان باستخدام الأسلحة التقليدية بما يهدد وجود الدولة". وكان بوتين عاد في اجتماعه الأخير مع أعضاء مجلس الأمن القومي ليضيف ما يستوجب "توسيع قائمة التهديدات النووية ونطاق الردع النووي"، تجاه ما يمكن أن تتعرض له روسيا ومعها حليفتها بيلاروس. وتستند هذه الرؤية تجاه مواجهة الأخطار الجديدة التي يمكن أن تنجم عن استخدام دول غير نووية للأسلحة الصاروخية بعيدة وقصيرة المدى ضد روسيا بما قد يهدد وجودها كدولة (أقربها أوكرانيا)، إلى ما عكف الخبراء على دراسته خلال العام الماضي، على نحو شامل، وما خلصوا إليه من حاجة إلى تعديل استراتيجيات استخدام القوات النووية. وأشار موقع URA.RU إلى بعض التوصيات التي ثمة ما يشير إلى أنها كانت ضمن رؤية بوتين وأعضاء مجلس الأمن القومي الروسي في الاجتماع الذي خلص إلى ما سبق وأشرنا إليه من مقترحات، ومنها "التفكير بعناية في التحديثات في أساسيات سياسة الردع النووي الروسية وترتبط بالتهديدات والأخطار العسكرية"، و"تأكيد روسيا على حقها في استخدام الأسلحة النووية في حال العدوان على روسيا وبيلاروس كعضوين في دولة الاتحاد، إلى جانب "النظر في إمكان استخدام الأسلحة النووية في حال وجود معلومات مؤكدة عن إطلاق هائل للصواريخ والمسيرات الجوية العابرة للحدود"، و"تصنيف العدوان من دولة غير نووية بدعم من دولة نووية على أنه هجوم مشترك على روسيا وحليفتها بيلاروس".
وعلى رغم أن الرئيس بوتين لم يذكر اسم أوكرانيا وحلفائها الغربيين مباشرة، إلا أن هذا السياق لم يعد خافياً على أحد، في وقت تطلب كييف "الإذن باستخدام الصواريخ بعيدة المدى في قصف العمق الروسي". وثمة من يقول إن الولايات المتحدة لا تزال تلتزم موقفاً يتسم بالتحفظ من دون "إعطاء الضوء الأخضر"، خوفاً من رد فعل موسكو. وكان بوتين حذر بالفعل في منتصف سبتمبر (أيلول) الجاري، من أن مثل هذا القرار سيعني أن "دول الناتو في حالة حرب مع روسيا".