ملخص
الحقيقة أن قراءة فقرات مختارة من تلك النصوص تضع القارئ في صلب تجربة سيلين الحياتية والكتابية، بل إنها كذلك تضيء ليس فقط على آرائه السياسية، بل كذلك على خلفيات بعض اللحظات الأجمل والأقوى في إنتاجه الأدبي الكبير.
لا شك أن الكاتب الفرنسي لويس - فرديناند سيلين كان وإلى جانب مارسيل بروست وأندريه جيد الأشهر بين الروائيين الفرنسيين، بل لا شك أنه كان حتى الأكثر إثارة للسجالات بين أقطاب الحياة الثقافية في فرنسا، وذلك إلى درجة أن حتى في أيامنا هذه لا تمر مناسبة إلا ويستعاد الحديث عنه، وغالباً بصورة سلبية، ودائماً بالتذكير بماضيه "السياسي" النازي النزعة. إذاً، هي لعنة تحيط على الدوام بسيلين، لكنها ليست لعنة أدبية، فهو في الحقيقة أساء إلى أدبه وتاريخه الإبداعي والإنساني المجيد حين كان واحداً من الفرنسيين الذين اختاروا الوقوف إلى جانب أدولف هتلر ونازييه. وانطلاقاً من هنا خاض سيلي في أزمنة الظلمات أواسط القرن الـ20 معارك النازيين ضد أبناء جلدته من التقدميين والديغوليين مؤمناً إلى حد كبير بأن النصر سيكون في نهاية الأمر من نصيب هتلر، لكن هتلر لم ينتصر، بل كانت هزيمته ساحقة وهزيمة أفكاره مدوية، وهكذا وجد سيلين نفسه يهرب أولاً من فرنسا إلى ألمانيا، ثم منها إلى الدنمارك، إذ اعتقل وأودع السجن ليعاد بعد ذلك إلى فرنسا، حيث رأفة به وبقيمته الأدبية، اعتبر مجنوناً وترك على سجيته ليمضي سنواته الأخيرة شبه معزول تطارده لعنة الفرنسيين.
عودة المبدع إلى أحوال العالم
غير أن تلك اللعنة لم تدم يومذاك طويلاً، إذ سرعان ما اعتاد القراء أن يفصلوا بين الكاتب وكتاباته، متذكرين أن الرجل كان ويبقى كاتباً كبيراً. فالحال أنه بعدما هدأت العواطف وبدت النازية في تلك المناطق من أوروبا في الأقل جزءاً من مزبلة التاريخ، عاد سيلين ليعامل بوصفه صاحب أعمال، مثل "سفر إلى آخر الليل"، و"الموت بالتقسيط"... ومع هذا يبقى دائماً من لا يحب أن ينسى ويريد أن يأخذ عبقرية المبدع بجريرة حماقات ماضيه. ولعل من المفيد أن نذكر هنا ببضعة نصوص لسيلين كان معظمها قد صدر بعد موته في عام 1961 ليلقي أضواء كاشفة وإضافية على حياة الرجل وأعماله، وهي على أية حال لا يمكن أن تعد من أعماله الأكثر شعبية. ومن بين هذه الأعمال نصوص يصطلح اليوم على تسميتها "دفاتر السجن"، انطلاقاً من كون سيلين كتبها وهو قابع في سجنه في الدنمارك، أي بعد هزيمة ألمانيا، تمهيداً لاستخدامها لاحقاً في كتابات روائية له كان يخطط لإنجازها، واللافت أن زمن كتابة سيلين تلك النصوص ترافق مع وصوله "أعلى درجات الجنون"، مع أنه، في تلك الكتابات، لا يبدو مجنوناً بقدر ما يبدو مراجعاً أحوال العالم وأفكاره هو حول هذا العالم.
داخل التجربة
والحقيقة أن قراءة فقرات مختارة من تلك النصوص تضع القارئ في صلب تجربة سيلين الحياتية والكتابية، بل إنها كذلك تضيء ليس فقط على آرائه السياسية، بل كذلك على خلفيات بعض اللحظات الأجمل والأقوى في إنتاجه الأدبي الكبير. فإذا كانت عهدت عن سيلين كراهيته للإنجليز، بوصفه تلك الكراهية أحد أسباب توجهه الهتلري النازي، ها هو في صفحات "الدفاتر" يقول "أحب الإنجليز وإنجلترا حباً جماً، أحبهم بسبب أسلوب عيشهم وشاعرية فصل الصيف لديهم، ولكنني من الناحية السياسية أعترف بأنني أشعر تجاههم بمشاعر جان دارك نفسها، وهذه في اعتقادي مرجعية مغرقة في فرنسيتها". وعن فكرة تجريمه نجده يكتب "تباً لي، لقد كان عليَّ أن أموت قبل ذلك، كان عليَّ ألا أجرم وأنا على قيد الحياة. إن الكون كله يتشكل الآن من جديد وبصورة كلية بالنسبة إلى الأجيال الطالعة. الماضي لا يعني الآن شيئاً للشباب. كل ما في الأمر أنه يغيظهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
طائرات الإنجليز
وفي هذا الإطار نفسه يستطرد سيلين "ربما كنت أنا واحداً من قلة نادرة بين البشر يتعين أن تبقى لي حريتي، أما الباقون فإنهم جميعاً تقريباً يجب أن يكونوا مودعين في غياهب السجون بسبب خنوعهم وحيوانيتهم القميئة ونهمهم الملعون". أما النص الأجمل الذي يمكن قراءته في هذه الدفاتر، فهو التالي الذي يتحدث فيه سيلين عن أيام أمضاها في مونمارتر ربيع عام 1944 حين كان يتمعن في احتمال مبارحته فرنسا "ها هي الطائرات الإنجليزية تحلق منذ هذا الصباح كما يحلو لها فوق السطوح. إنها تبدو أشبه بأرتال من الناموس تسرح وتمرح في أجوائها الخاصة. قصف وجنون. أما ما أراه أنا، فإنه بيوت تستطيل وتستطيل كأنها ليل لا ينتهي. إن شتى ضروب القصف ترى طوال الليالي هنا وهناك. لم نعد قادرين على النوم. واغتيال الأطباء يتفاقم. وها هو رعب من هذه الناحية يستبد بي وبلوسيت. لم نعد نرى بوبول. وفيما أحدق أنا في المدينة. فجأة تصل أمي مع سيروي. من فوري جعلت سيروي يحدثني أكثر وأكثر عن المدينة، إنه الآن يعرف كل شيء عن حي كليشي وما يحصل فيه، يعرف حتى أصغر التفاصيل والوقائع. وبما أنني أشعر الآن وبأكثر مما في أي وقت مضى أنني مرتبط جداً بهذا المكان، مع أنه قد أسيء إلى مراراً فيه، وجدتني أندفع لإعطاء سيروي بعض المال كي يتمكن من متابعة أشغاله هناك. مسكين سيروي".
يا للأم المسكينة
ويتابع سيلين هذا السرد متحدثاً عن أمه مشفقاً عليها "أما أمي فأضحت ضريرة أو نصف ضريرة، ولم يعد قلبها قادراً إلا على الاستسلام. مسكينة هي الأخرى. لقد عملت كثيراً وقاست الأمرين أكثر، لكنها مع ذلك لم تفهم شيئاً في حياتها. وأنا نفسي أعترف بأنني قد تسببت لها بكثير من الأذى. إنها شديدة الوفاء، كبيرة القلب، وأنا أشبهها في ذلك. إنها امرأة تعيش استعداداً دائماً للتضحية، وأنا أماثلها أيضاً في ذلك. أنا مثلها، لكنني في الوقت نفسه مجبر على الرحيل. سأرحل غداً بالتأكيد، ولكن هل ترانا سنعود إلى هذا المكان يوماً؟ في الحقيقة، أنا لا أجرؤ حتى على التفكير باحتمال ألا نعود إلى هنا أبداً. لقد قررنا أن نترك كل شيء على حاله وكأننا نذهب في عطلة قصيرة. إن كل شيء من حولنا يتمزق. وأشعر أنني بت أكثر تعباً وتقدمت في السن كثيراً. لقد بت أضعف وأكبر سناً من أن أتحمل مثل هذا التمزق. أنا شخصياً لم أكن لأرغب في اندلاع تلك الحرب استجابة لبطولاتي الحمقاء. كنت أعتقد أنني، بكتبي، قادر على الحيلولة دون اندلاع الحرب. واليوم ها أنا ذا خائن، وحش، مجرم تستعد الجموع لسحله. لقد باتت المؤن نادرة بصورة مريعة، ولكن غداً سيصل الأميركيون وسيصبح لدينا مؤن من كل الأصناف. غداً، ربما سيتبدى من الضروري التخلص قتلاً من جميع الذين على شاكلتي كي تحصل الجموع على كل شيء. يبدو أنني أنا من يحول بينهم وبين الحصول على السعادة. وأمي التي لم يعد فؤادها يحتمل أي شيء، لا تتوقف عن المرور بكل المقاعد العامة في باريس، حيث تصغي للناس وما يقولون".
"اليوم زارني مونتادون"، يتابع سيلين قائلاً "وها هو يحاول أن يقنعني باعتناق المذهب البروتستانتي إذ ربما سينفعني هذا! أما أنا، فإنني أتهمه بالعنصرية، معتبراً نفسي طهرانياً حقيقياً الآن. مهما يكن، فإنني لم أعد أرى أي شيء من هذا كله نقياً أو أنيقاً".
سيرة مختصرة
ولد لويس - فرديناند أوغوست ديتوش الذي سيعرف لاحقاً ككاتب باسم سيلين، في عام 1894 ليموت بعد ذلك بـ67 عاماً في بلدة ميدون قرب كوربفوا على تخوم باريس، وهو يعد واحداً من أبرز الأطباء الفرنسيين الذين مارسوا الكتابة. ومن المعروف أن تجربته كطبيب، ولا سيما في أحياء البائسين في المدن الفرنسية وغيرها، كمنت خلف النزعة الإنسانية التي طبعت أعماله الروائية الكبرى. أما من الناحية السياسية، فقد انساق خلف أفكار اليمين المتطرف والفاشي ما ساقه، مثل عدد من مثقفين وكتاب فرنسيين آخرين في ذلك الزمن، إلى النازيين الذين احتلوا فرنسا منذ بدايات الحرب العالمية الثانية مُسلِّمين زعامة البلاد إلى المارشال بيتان، وقد أضحى خائناً بعدما كان من أبطال الحرب العالمية الأولى ضد الألمان تحديداً.