ملخص
يبدو من المؤكد أنه إذا مضت توجهات حكومة إسرائيل الحالية بقيادة نتنياهو على النهج السائرة في دربه فإنه لن يكون هناك أي مجال لا لحل دولتين ولا لفكرة الكونفيدرالية، ذلك أن القاعدة الرئيسة التي تحكم غالبية الصراعات إن لم تكن كلها هي "أنه عندما تسيل الدماء تتعذر المصالحة".
"الدعوة لتنفيذ حل الدولتين" كانت العبارة الأهم والأكثر إثارة بعد عام من حرب غزة في البيان الختامي لقمة مدريد التي عقدت خلال الـ13 من سبتمبر (أيلول) الماضي في العاصمة الإسبانية، والذي جمع وزراء من دول إسلامية وأوروبية إلى جانب مسؤول الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي بهدف مناقشة كيفية المضي قدماً في طريق ما عرف طويلاً بـ"حل الدولتين"، والذي كان كثر يأملون أن يكون كفيلاً بإنهاء الصراع.
البيان شدد على ضرورة الالتزام المشترك بتنفيذ حل الدولتين باعتباره السبيل الوحيد لتحقيق السلام والأمن الدائمين.
وطالب البيان المشار إليه بإعادة السيطرة الكاملة للسلطة الفلسطينية على الجانب الفلسطيني من معبر رفح وبقية الحدود إضافة إلى انسحاب كامل للقوات الإسرائيلية من غزة، بما في ذلك "محور فيلادلفي" أو ممر صلاح الدين.
البيان عينه دعا إلى التنفيذ الموثوق وغير القابل للتراجع لحل الدولتين وفقاً للقانون الدولي، بما يعزز الاستقرار والأمن والسلام والتعاون.
هل يمكن النظر إلى هذا البيان بأنه جاء بعيداً جداً من أرض الواقع وبخاصة في ظل النيات الإسرائيلية البادية للعيان كالشمس في ضحاها؟
لعله من المثير للسخرية أن البيان وعلى رغم حسن نيات المشاركين في قمة مدريد يتطلع للعودة إلى ما قبل أوضاع السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إذ غزة المنكوبة تكاد تكون سحقت ومحقت وفي القائمة أكثر من 40 ألف قتيل و100 ألف جريح في الأقل، عطفاً على الدمار المادي للممتلكات.
وفي ظل هذه الأوضاع فإن بنيامين نتنياهو لا ينفك يتحدث عن بقية من مشروعات لعسكرة مشهد الداخل الفلسطيني، ويصم آذانه عن أي حوار بناء خلاق، فيما تبدو فكرة الدولتين بالنسبة إليه منكراً لا يجوز الحديث في شأنه.
على أن أحد المتابعين يقول إن نتنياهو يمكن أن يرحل عما قريب، فهل يفتح ذلك الطريق لتنفيذ حل الدولتين أم أن الأمر له خلفيات تتجاوز رئيس الوزراء الحالي الساعي إلى إشعال المنطقة برمتها؟
يبدو الجواب مثيراً وخطراً في الوقت ذاته، ماذا عن هذا الحل كمفهوم أولي بداية؟
في أبسط صورة يتلخص حل الدولتين في فكرة مفادها أن إنشاء دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل من شأنه أن ينهي الأزمة، من خلال وجود دولتين على الأرض بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.
من أين أتت الفكرة في الأصل؟
الجواب يعود بنا إلى القديم، فقد وعد البريطانيون للمرة الأولى بإقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين خلال الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1917، في رسالة موجهة لوزير خارجية المملكة المتحدة أرثر بلفور بعد أن أصبحت بريطانيا القوة المنتدبة على فلسطين بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، واقترح قرار الأمم المتحدة رقم 181 إنشاء دولتين يهودية وعربية منفصلتين، ما مهد الطريق لتأسيس إسرائيل خلال العام التالي.
وبعد النكبة عام 1948 تأسست دولة إسرائيل، وهُجر الشعب الفلسطيني وسيطر الإسرائيليون على أراض جديدة أوسع مما كان ينص عليه اقتراح الأمم المتحدة، وفي ما بعد جاءت حرب الأيام الستة لتقضي على أية رؤية تفاؤلية لجهة قيام دولة فلسطينية.
أمضى وسطاء من أجل السلام عقوداً من الزمن متشبثين بفكرة أن الفلسطينيين والإسرائيليين يمكنهم العيش معاً جنباً إلى جنب في دولتين منفصلتين سياديتين، غير أن جنوح إسرائيل نحو اليمين المتطرف ورفض قادتها أي وجود لدولة فلسطينية مستقلة عطفاً على الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني حول الفكرة على مدى العقود الماضية إلى وهم.
ما موقف القيادات الفلسطينية والإسرائيلية من فكرة حل الدولتين اليوم؟
تؤيد السلطة الفلسطينية رسمياً حل الدولتين وقد دعا الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى عقد مؤتمر دولي حول هذه القضية خلال سبتمبر 2023، وأكد وقتها أنها "قد تكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ حل الدولتين".
لكن على الجانب الإسرائيلي ترفض حكومة نتنياهو أي حديث عن إقامة دولة فلسطينية، بل إنه وحكومته اليمينية تمادوا في رؤاهم لجهة فتح باب التهجير القسري أو الطوعي أمام الفلسطينيين في غزة.
هل تراجع حل الدولتين بالفعل؟
قد يكون من الطبيعي أن يتسق موقف القيادة السياسية في الداخل الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر الماضي مع مواقفها من قبل، إذ إن اتجاهها اليميني لا يحتاج إلى جهد كبير للتدليل عليه.
غير أن السؤال الأهم غالب الظن يتعلق بموقف الرأي العام الإسرائيلي، وهل كانت هجمات "حماس" على جوارها الإسرائيلي سبباً مباشراً في حدوث انتكاسة لدى غالبية المواطنين في الداخل الإسرائيلي، حتى وإن كان بعضهم في السابق بدأت فكرة السلام تلوح له ولو من بعيد؟
عبر استطلاع للرأي أجراه معهد "بيو" في واشنطن جاءت النتائج لتفيد بأن دعم الإسرائيليين اليهود للتفريق بينهم وبين عرب 1948 قبل حرب غزة لحل الدولتين انخفض من 46 في المئة عام 2013، إلى 32 في المئة عام 2023.
وبالمثل فإن استطلاعاً آخر أجرته مؤسسة "غالوب" قبل الحرب أيضاً أفاد بأن التأييد بين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية انخفض من 59 في المئة عام 2012، إلى 24 في المئة العام الماضي.
ما الذي تعنيه تلك الأرقام؟
باختصار غير مخل، إنها تفيد بأن الإسرائيليين والفلسطينيين كانا في طريقهما من غير شك لنسيان هذه الفكرة واعتبار الوقت تجاوزها، فقد بني جدار آخر في النفوس بين الجانبين أعلى وأقوى من الجدار الإسرائيلي المعروف.
لكن على رغم هذا التوجه الشعبي الداخلي للإسرائيليين والفلسطينيين معاً فإن رؤية عالمية اندفعت بقوة بعد حرب غزة لتقطع بأن حل الدولتين هو الطريق الوحيد لإنهاء صراع طال أكثر من ثمانية عقود.
لقد عاد قادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة للحديث علناً وبصوت عال مطالبين بوضع الفكرة موضع التنفيذ.
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قال إنه من غير المقبول حرمان الفلسطينيين من حقهم في إقامة دولتهم، فيما دعا الرئيس الأميركي جو بادين مراراً إلى العمل على هذا الحل ومن بين تصريحاته اللافتة قوله "هناك طرق عدة للتوصل إلى حل الدولتين، خصوصاً أن هناك عدداً من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ليس لديها جيوشها الخاصة".
وعلى رغم أن تصريحات بايدن تفيد بأن النية الأميركية وفي أحسن الأحوال لا تتجاوز دولة صورية منزوعة السيادة من خلال حرمانها من حقها الطبيعي في أن يكون لها جيشها الخاص، فإن التصريح في صورته الأولى يدعم في الأقل المسار التفاوضي الدبلوماسي بهدف الوصول إلى حيز التنفيذ.
أما منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل والذي يدعم بقوة حل الدولتين، فقد انتقد القادة الإسرائيليين وتساءل ما هي الحلول الأخرى التي يفكرون فيها؟ إجبار جميع الفلسطينيين على الرحيل؟ قتلهم؟
على أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان يصر قبل حرب غزة على أن أي اتفاق سلام يجب أن يحافظ على "السيطرة الأمنية لإسرائيل على جميع الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن"، وهي المنطقة التي تشمل جميع الأراضي الفلسطينية.
هل نتجاوز الواقع إن قلنا إن حرب غزة لم تغير الشيء الكثير، ذلك لأن حل الدولتين كان ميتاً منذ زمن طويل؟
القضية ليست رؤية متشائمة أو متفائلة بل واقعية وقابلة للتطبيق، أو مجازية لا محل لها في عالم الذين كانوا أحياء واليوم باتوا أشلاء.
إدارة بايدن... قعقعة من غير طحين
أحد الأسئلة الرئيسة التي تطرح في الحديث عن حل الدولتين هي هل كانت إدارة بايدن مخلصة بالفعل في طريق بحثها عن حل الدولتين؟
من الواضح أنها انشغلت في الأعوام الثلاثة الأولى لها بقضايا دولية، بدءاً من الانسحاب من أفغانستان مروراً بالأزمة الأوكرانية وصولاً إلى التحضير لانتخابات ولاية ثانية، لم تتم.
احتضن بايدن رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو حرفياً في غضون أيام من هجوم "حماس" وحمت واشنطن تل أبيب بثبات في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لكن التوترات تصاعدت مع ارتفاع حصيلة القتلى المدنيين، وخلال ديسمبر (كانون الأول) 2023 حذر بايدن من أن إسرائيل تفقد الدعم الدولي "بسبب قصفها العشوائي لغزة" ووجه اللوم الواضح لحكومة نتنياهو بسبب عدم وجود ملامح لحكم غزة بعد الحرب، وإشكالية اليوم التالي.
وفي أعقاب الأمر التمهيدي الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل، أوضح تعليق البيت الأبيض أن أوامر المحكمة تتماشى مع السياسة الأميركية، وعلى وجه التحديد قالت المحكمة إن إسرائيل يجب أن تتخذ كل الخطوات الممكنة لتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين وزيادة تدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة.
والشاهد أنه على مدى عام كامل وعبر جولات مكوكية لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أخفقت إدارة بايدن في التوصل إلى اتفاق تهدئة، وفشلت في ممارسة ضغوط على حكومة نتنياهو.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
علامة الاستفهام هنا هل خشي بايدن والذي كان يطمح في ولاية رئاسية ثانية من أن يكرر نتنياهو معه ما ممارسه من قبل مع الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون حين هدده بـ"إحراق واشنطن" بعد أن حاول ممارسة ضغوط تقود إلى سلام كامل ومن ثم حل الدولتين؟
مؤكد أن ارتباك إدارة بايدن خلال الأشهر القليلة الماضية لم يتح لها مجالاً لأن تكون فاعلة أو ناجزة على صعيد هذا المقترح، مما جعل من دورها دعائياً فحسب وهو ما عزز فكرة الكرة الملقاة في أحضان نتنياهو وبقية حكومته، إذ القرارات الأممية من زمن النكبة حتى الساعة يضرب بها عرض الحائط قولاً وفعلاً.
وعلى رغم اتفاقيات أوسلو خلال عامي 1993 و1995 التي وقعها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحاق رابين والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات التي مهدت الطريق لإنشاء دولة فلسطينية، فإن نتنياهو لم يخف أبداً معارضته لهذا المفهوم، مما دعا عديداً من الكتاب والباحثين لطرح علامة استفهام موجعة بل مفجعة هل مات حل الدولتين؟ وإذا كان ذلك كذلك فهل دُفن الطرح مرة واحدة؟
عدم الواقعية الجغرافية للحل
لعله يجب قبل البحث في علامة الاستفهام المتقدمة التطلع إلى الأفق الجغرافي للحل، وقديماً قال الرئيس الفرنسي الأشهر شارل ديغول إنه لا يمكن البحث في حلول التاريخ من غير الاستعانة بخرائط الجغرافيا، ما الذي تخبرنا إياه في شأن حل الدولتين المتلاصقتين الفلسطينية والإسرائيلية؟
تخبرنا الأرقام أن هناك نحو 700 ألف مستوطن إسرائيلي يعيشون في الضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية، جنباً إلى جنب مع 3 ملايين فلسطيني، مما يعني أول الأمر أنه لم تعد هناك مساحة كبيرة متاحة لدولة فلسطينية.
عطفاً على ذلك فإن الفجوة السكانية تضيق بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إذ إن النمو السكاني أعلى بين المستوطنين منه بين الفلسطينيين، لا سيما أن اليهود المتدينين الذين يشكلون ثلث المستوطنين لديهم معدل خصوبة يبلغ 6.5 مولود لكل امرأة في إسرائيل، ويبلغ معدل الخصوبة الحالي بين الفلسطينيين نحو 3.8 مولود لكل امرأة. وإذا استمر هذا الاتجاه فقد يصبح عدد السكان الإسرائيليين أكثر من نظرائهم الفلسطينيين، مع ما يتطلبه ذلك من مستلزمات حياة لوجيستية مكانية.
ما هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها تهيئة الأجواء لقيام دولة فلسطينية؟
بلا شك الطريقة الوحيدة التي يمكن بها إفساح المجال لدولة أخرى أن تفكك الحكومة الإسرائيلية المستوطنات وتوجه المستوطنين للعيش داخل الحدود التي كانت قائمة قبل استيلاء إسرائيل على الضفة الغربية في حرب الأيام الستة عام 1967.
والثابت أنه على رغم أن تلك المستوطنات غير قانونية بموجب القانون الدولي فهي تنتهك اتفاق جنيف الرابع، فمن غير المرجح أن تحاول حكومة إسرائيلية إزالتها خوفاً من العواقب الداخلية العنيفة.
والمؤكد كذلك أن بعض أعضاء حكومة نتنياهو يتحدثون بالفعل عن ضم إسرائيل للضفة الغربية، على النحو الذي ضمت به القدس خلال عام 1980.
وفي هذا السياق يجري التلاعب على أفكار من نوعية تبادل الأراضي، وعادة ما ينتهي الأمر بعروض محتملة لأرض للفلسطينيين في صحراء النقب التي لا تصلح للسكن الآدمي تقريباً، وعلى النقيض من ذلك فإن الكتل الاستيطانية اليهودية الكبرى في الضفة الغربية تقع في مناطق عقارية رئيسة.
وهناك أيضاً مسألة غزة التي لا تكاد تكفي لاستيعاب سكانها الحاليين الذين يبلغ عددهم 2.3 مليون نسمة مع ارتفاع معدلات البطالة هناك إلى نحو 50 في المئة، والتي باتت بعد عام كامل من الحرب في حال شبه يائسة بشراً وحجراً.
ولعلنا لا نتجاوز الواقع والحقيقة إن قلنا إن التركيبة السكانية الإسرائيلية والتي ترتفع فيها يوماً تلو الآخر الشريحة اليهودية الأرثوذكسية تجعل التصويت للأحزاب اليمينية فرض عين، وهذا يعني أن أعداداً متزايدة من الناخبين المتدينين الأرثوذكس يفضلون تشكيل حكومات يمينية، وهذه لديها إيمان رؤيوي توراتي قاطع لا تحيد عنه بأن أرض إسرائيل من الفرات إلى النيل وأنه لا يمكن التنازل عن حبة رمل منها.
هل يعني ذلك أن الحديث عن حل الدولتين من جانب الحكومات الغربية ليس أكثر من إرجاء للحل؟ أم أن الحل نفسه غير قابل للتحقق؟
تبدو هذه القضية تحديداً داخلية، وعليه فإنه مهما كانت صورة أو وضع الرئاسة الأميركية القائمة أو المقبلة، فإن أحداً لن يغامر بالضغط على حكومة إسرائيلية، وسواء كانت حكومة نتنياهو أو غيره فعند هذه الجزئية لا يوجد في الداخل حمائم أو صقور فالجميع صقور تجاه "مفهوم أرض الموعد".
هل حان وقت الجواب عن السؤال المتقدم؟
أنتوني كوردسمان وموت حل الدولتين
قبل رحيله بنحو شهرين وبعد هجمات غزة بأيام قليلة كتب محلل الأمن القومي الأميركي الشهير أنتوني كوردسمان عبر مجلة "فورين بوليسي" الأميركية متسائلاً "هل كتبت هذه الحرب شهادة وفاة حل الدولتين؟".
رأى كوردسمان أن هجوم "حماس" أثبت أن التهديد الأشد خطورة الذي تواجهه إسرائيل حالياً هو تهديد داخلي وإلى حد ما تهديد ذاتي، وهو تهديد ناجم عن فشل إسرائيل في تقديم دولة حقيقية للفلسطينيين أو الأمن والفرص الاقتصادية والسياسية المتساوية لهم، وبدلاً من السعي وراء الدولة انقسم الفلسطينيون عبر أربع مناطق تسيطر عليها إسرائيل.
إن أول تلك الجيوب التي تشكل حقيقة "اللادولة" أو التي تكاد تكتب شهادة وفاة حل الدولتين بحسب كوردسمان هي منطقة القدس الكبرى مع التوترات والصراعات حول السيطرة على قلبها المركزي القديم والأماكن المقدسة، وكذا القيود المفروضة على الإسكان والأعمال التجارية المعروضة على الفلسطينيين في القدس الشرقية، والغالبية الإسرائيلية المتزايدة باستمرار والسيطرة على القدس الكبرى والحدود الأمنية الاستثنائية.
أما الجيب الثاني فهو بقية إسرائيل مع وجود قواعد مختلفة في ما يتصل بحقوق الفلسطينيين والمواطنة والتنقل، والمراقبة والأمن المشددين.
أما المنطقة الثالثة التي تعزز عند المحلل الأميركي الشهير من فرضية موت حل الدولتين فتتمثل في الضفة الغربية، مع ما يسميه القشرة الفارغة للحكومة الفلسطينية والسيطرة الأمنية الإسرائيلية بحكم الأمر الواقع على قوات الأمن الفلسطينية، والسيطرة المحكمة على تحركات الفلسطينيين ووصولهم إلى بقية أنحاء إسرائيل، والوجود المتزايد بإطار لـ"المستوطنين" الإسرائيليين والذي يتزايد بصورة حادة بدعم من حكومة نتنياهو.
ما الذي يتبقى؟
حكماً القطاع الرابع الذي يبطل فكرة حل الدولتين وبخاصة بعد الهجوم الأخير هو قطاع غزة، الذي يمثل أسوأ مجموعة من الضغوط على الفلسطينيين، فهو يضم نحو 2.3 مليون نسمة ولا يوجد فيه أي يهودي ولا يزيد حجمه عن ضعف حجم منطقة واشنطن العاصمة الكبرى، ولا توجد فيه أية صناعة كبرى أو صادرات، كما أنه يعتمد على إسرائيل في الحصول على معظم المياه اللازمة للشرب والطاقة الكهربائية.
ومع وصول المواجهة في غزة إلى يوم السابع من أكتوبر 2023 يعد كوردسمان أن حل الدولتين يعيش لحظات "خروج الروح"، وإلى الحد الذي يجعل الجهود المبذولة لإحيائه من المرجح أن تكون مجرد أعمال دبلوماسية ميتة، خصوصاً أن الحكومة الفلسطينية في الضفة الغربية مجرد قشرة جوفاء لحكومة حقيقية وفعالة.
ولعله في ثنايا رؤية كورسمان يوضح لنا وبطريق غير مباشر أن تصاعد أوضاع المستوطنات ونفوذ المستوطنين يعد الأداة اليقينية التي تكتب شهادة وفاة حل الدولتين، ولهذا يطالب بتشديد ممارسة الضغوط الدولية على الحكومة الإسرائيلية لحملها على وقف التوسع الاستيطاني وتخفيف القيود المفروضة على الحياة المدنية لنحو 1.9 مليون فلسطيني في إسرائيل ذاتها وأكثر من مليوني في الضفة الغربية.
لكن على جانب آخر، وعلى رغم كل الرؤية الضبابية المتقدمة فإنه لا تزال هناك رؤى تشير إلى أن حل الدولتين يمكن أن ينجح، كيف ذلك على رغم معوقات كوردسمان الأربعة؟
هل تفلح الكونفيدرالية في حل الأزمة؟
في العدد الأخير من مجلة "فورين أفيرز" الأميركية طالعنا كل من عمر م. دجاني المتخصص في مجال القانون الدولي داخل كلية جورج مالك للقانون بجامعة المحيط الهادئ، وليمور يهوذا الزميل الباحث وقائد مشروع الشراكة للسلام الإسرائيلي - الفلسطيني في معهد لير في القدس بقراءة مغايرة تحمل روحاً متفائلة بعض الشيء، ذلك أنه قد تكون فكرة الكونفيدرالية بين إسرائيل وفلسطين هي الحل الممكن لإحياء رؤية حل الدولتين، كيف ذلك؟
بحسب هذه الرؤية، فإنه إذا لم ينجح الانفصال التام بين الشعبين وإذا كان حل الدولة الواحدة غير قابل للتحقيق في المستقبل المنظور فقد يبدو الأمر وكأننا ببساطة لا نملك أي خيار جديد، ووفقاً لاستطلاعات الرأي الأخيرة فإن هذا هو الرأي الذي يتبناه عدد كبير من الإسرائيليين والفلسطينيين.
لكن لحسن الطالع فإنه من جهة ثانية هناك مجموعة متزايدة من المراقبين بما في ذلك كاتبا هذه الرؤية يعتقدون أن الكونفيدرالية المكونة من دولتين تقدم أرضية وسطى قابلة للتطبيق، فهي من شأنها أن توفر لكلا الشعبين تقرير المصير الوطني في حين توفر أيضاً إطاراً عادلاً لإدارة ارتباطهما المشترك والاعتماد المتبادل فيه.
ينطلق الباحثان من أن الكونفيدرالية الإسرائيلية – الفلسطينية لن تكون أول ترتيب من هذا القبيل فقد كانت الكونفيدراليات موجودة منذ قرون، ويشير المصطلح إلى رابطة أو اتحاد تتفق فيه دولتان أو أكثر ذات سيادة على التنازل عن بعض سلطاتها السيادية لمؤسسات مشتركة لغرض تحقيق أهداف مشتركة، مثل الأمن المتبادل أو التكامل الاقتصادي، وعادة ما تمتلك الدول الأعضاء في الكونفيدرالية شخصيات دولية مستقلة.
خلاصة هذه الرؤية هي أن الكونفيدرالية الإسرائيلية الفلسطينية مثل الاتحاد الأوروبي ستتألف من دولتين منفصلتين، وسوف تنشأ فلسطين إلى جانب إسرائيل مع وجود حدود دولية معترف بها بينهما، وسوف تتمتع كل منهما بالسيادة وتتمتع بنظام دستوري منفصل وعضوية في المنظمات الدولية، وكذلك سلطة مستقلة على كل مجموعة واسعة من المجالات، مثل التعليم والشؤون الخارجية وإنفاذ القانون والرعاية الاجتماعية والضرائب، وفي هذه النواحي فإن الكونفيدرالية هي في جوهرها حل الدولتين.
وفي هذا السياق فإن الكونفيدرالية تختلف عن حل الدولتين المألوف بطريقة مهمة أخرى، فهي ستوفر للإسرائيليين والفلسطينيين إطاراً مؤسسياً قوياً ومرناً بما يكفي لإدارة التحديات المشتركة التي يواجهونها.
وفي محادثات السلام السابقة، أدرك الجانبان أن المساحة الضئيلة التي يتقاسمانها تتطلب التعاون بين إسرائيل وفلسطين منفصلتين، وفي بعض المجالات مثل الزراعة والخدمات المصرفية والعدالة الجنائية وكذلك تخطيط التنمية والتعليم والشؤون الخارجية والضرائب والسياحة، ومن المرجح أن يكون مثل هذا التعاون كافياً.
هل من خلاصة؟
يبدو من المؤكد أنه إذا مضت توجهات حكومة إسرائيل الحالية بقيادة نتنياهو على النهج السائرة في دربه فإنه لن يكون هناك أي مجال لا لحل دولتين ولا لفكرة الكونفيدرالية، ذلك أن القاعدة الرئيسة التي تحكم غالبية الصراعات إن لم تكن كلها هي "أنه عندما تسيل الدماء تتعذر المصالحة".
وخلال العام الماضي سالت الدماء بصورة غير مسبوقة وبخاصة من الجانب الفلسطيني في غزة، وهو ما لا يبشر بخير أو يسمح بطاقة تفاؤل.
ومن جهة ثانية فإن الأوضاع العالمية المرتبكة بين القديم الذي يتوارى والجديد الذي لم يولد بعد لا تسمح بوجود توجه أميركي خاصة أو عالمي عامة، يمكنه أن يمارس نوعاً من الضغوط التي لا تصد ولا ترد على الحكومات الإسرائيلية المقبلة، بهدف التوصل إلى حل عادل.
هل يظل سيناريو كرة الثلج هو المرجح فلسطينياً وشرق أوسطياً؟