ربما تعاملَ القارئ العابر، أو غير المدرب، مع قصيدة النثر باعتبارها كلاماً عابراً فيه من الخفة ما يخرجه عن دائرة الشعر التي اعتادها، يسأل أين الوزن، أين القافية، أين البلاغة والتراكيب اللغوية المعتبرة، غير مدرك أنه أمام وجهة نظر جديدة في دور الشعر والشاعر، وزاوية نظر مختلفة إلى العالم، استوجب معها أن تبدو على هذه الكيفية. ثمة تشابه كبير بين قصيدة النثر، وبين العرض المسرحي "ماما" الذي قدمه المخرج أحمد العطار على مسرح الجامعة الأميركية في القاهرة. عرض "ماما" الذي كتب نصَّه أحمد العطار أيضاً، جاء بسيطاً وعارياً تماماً من كل المحسنات أو الأدوات التي يمكن أن تربطه بالمسرح التقليدي المعتاد، وبالتالي فهو- على بساطته المفرطة- يحتاج مشاهداً نوعياً يقرأ ما بين السطور- إن صحَّ التعبير- ولا يكتفي بالمرور السريع ويطرح سؤاله المتوقع: أين المسرح؟
لا قضايا كبرى، بالمعني التقليدي، يطرحها العرض، هو موضوع عادي ومتداول بشكل يومي، في المجتمع المصري: مكان المرأة في هذا المجتمع، وحتى هذا الموضوع تمَّ طرحه بحيادية، من دون سعي إلى فرض وجهة نظر ما، أو نفي أو إثبات حقيقة ما، تاركاً المشاهد ليفكر ويتساءل. هي حكاية مفتوحة ومتداولة، وكذلك نهايتها، فأنت طوال العرض لا تعرف متى تتوقف هذه الحكاية، ما الحد الذي تكون عنده قد تشبَّعت، كمشاهد، تماماً، مساحات فارغة كثيرة يتركها العرض لتملأها أنت بمعرفتك، بعد أن قدَّم لك نفسه في خمس وسبعين دقيقة، لم تكن تشاهد خلالها ممثلين على خشبة المسرح بقدر ما كنت تشاهد ذاتك أنت، حكايتك أنت، "ماما" التي تخصك/ تخصنا.
هي أسرة يبدو من ممارساتها وطريقة معيشتها أنها تنتمي إلى الطبقة البرجوازية، فالأب والابن رجلا أعمال، والأم المسيطرة (منحة البطراوي) تبدو كإحدى سيدات المجتمع المخملي، لا تغادر مقعدها في بهو البيت الكبير إلا قبل النهاية بقليل، لتحتل المقعد بدلاً منها زوجة الابن، في دلالة على استمرارية الحياة على الوتيرة النمطية المعتادة، وكذلك على الصراع على السلطة داخل البيت الكبير.
المرأة والبيت
هناك سيطرة ما للمرأة داخل البيت، والأم هي الأكثر انحيازاً للذكر واهتماماً به، والأكثر قدرة على تشكيل شخصيته، وهي تلجأ، إلى تزجية أوقات فراغها بلقاء صديقاتها، ربما لتتأكد من استمرارية وجودها ودورها، أو الدخول معهن في مشروعات خيرية، وكذلك في مناوشة زوجة الابن بشكل خفي، هناك غِيرة واضحة من تلك التي خطفت ابنها- كما تشعر غالبية النساء العربيات- فلا يكون ما على اللسان هو نفسه ما في القلب، والأمر نفسه تفعله الزوجة التي ينشغل عنها زوجها بعمله، تاركاً لها أمور تربية الأولاد، ومهملاً ابنته المراهقة ما يدفعها إلى التمرد وإقامة علاقة مع سائقه، ثم بعد ذلك تتحجب وتتحول إلى النقيض تماماً. وحتى الخادمتان، إحداهما تعمل في البيت الكبير، والأخرى تعمل لدى زوجة الابن، حرص العرض على إظهار الصراع بينهما، ورغبة كل منهما في السيطرة، وكذلك التباين الكبير في تصرفاتهما، فالأولى (منى سليمان) فيها من الجدية والصرامة، ما يوحي بتقاليد زمن الأم، حتى في حركتها تعمَّد المخرج أن تكون أشبه بحركة الجنود في انتظامها وصرامتها، ما يجعلها ممثلة لذلك الجيل القديم من الخادمات، بينما تمثل الثانية الجيل الجديد في عبثه واستهتاره، سواء في حركتها أو ملابسها أو طريقة كلامها. والاثنتان ترتبطان أيضاً بالسائق، ليس لأنه "دونجوان"، لكنه فِعل الندرة، فهو الغريب الوحيد الذي يرتع في البيت ويراود فتياته على اختلاف أعمارهن وطبقاتهن. لا جديد يحدث، ولا تجديد، هي الحياة النمطية المعتادة نفسها التي نحياها جميعاً ولا نملك أو لا نحاول تغييرها، فتصبح والأمر كذلك، فارغة من مضمونها. لا تمثيل في العرض أو أداء يضرب منهجه في مقتل. جاء الأداء بسيطاً وهامساً وخالياً من أي تكلف، وهي سهولة مقصودة وليست مجانية. هؤلاء الواقفون على الخشبة (منحة البطراوي، علي السبع، بلال مصطفى، داليا رمزي، هدير مصطفى، هبة رفعت، مجدي عطوان، منة التوني، محمد حاتم، منى سليمان، ناندا محمد، نهى الخولي، رمزي لينر، سيف صفوت) هم نحن، بالتالي كان عليهم أن يأتوا إلينا كما هم من دون أقنعة أو مبالغات تجعلهم غرباء عنا.
في أحد المشاهد جلس الممثلون في وضع متقابل، بينما الأم في المنتصف، ودار حوار ثنائي بين كل شخصيتين بينهما علاقة ما، كشف فيه المخرج عما بينهما من أسرار شخصية، بينما الآخرون في وضع صامت وكأنهم غير موجودين. والمخرج في كشفه هذا وبتلك الكيفية، ربما أراد، فضلاً عن توضيح طبيعة العلاقة بين المتحاورين الاثنين، كشف ما نرتكبه من تواطؤات حتى تستمر الحياة، كأننا نعرف، ونمثل أننا لا نعرف، وهو من المشاهد الدالة والقوية التي تفصح عن وعي المخرج بالموضوع الذي يعمل عليه.
الديكورات (صمّمها حسين بيضون وصمم الأزياء أيضاً) بهو كبير مفتوح على غرفة معيشة كلاسيكية، محاط في جوانبه الثلاثة بشاسيهات أشبه بالحديد ومكسوة بستائر بيضاء شفَّافة، ربما للإيحاء بأن الحياة هنا تبدو مخملية، لكنها في الوقت نفسه أشبه بالسجن. حرص بيضون كذلك على إظهار التباين بين الأجيال والطبقات، في طريقة الملبس وأشكاله وألوانه، ولم يبالغ مصمم الإضاءة (تشارلي أستروم) في استغلال إمكانات مسرح الجامعة الأميركية، واستخدم فقط ما يخدم رؤية المخرج، ولجأ في معظم الأحيان إلى الإنارة مع تنوع واختلاف درجاتها، وجاءت موسيقى حسن خان كمؤثر خفي ناعم وبسيط ومن القماشة نفسها التي عمل عليها المخرج.
ينتمي المخرج إلى ما يعرف في مصر بالمسرح المستقل، ذلك المسرح المتحرر من كل القيود، والساعي إلى تقديم وجهة نظر مختلفة وجديدة للمسرح، وعلى الرغم من أنه مسرح يسعى إلى الربح، فإنه- في أغلبه- يحاول دائماً عدم الاستجابة لشروط السوق التي يستجيب لها المسرح الخاص، ويفرض شروطه هو، وهي شروط ليست قاسية. هي تتطلب فقط وعياً مغايراً، يتماس مع وعي صناع هذا النوع من المسرح.