ملخص
إثارة الفضول واللعب على مسألة حب الجمهور للتشويق، معياران اختارهما الفنانون الذين قرروا إخفاء هويتهم تماماً والتواري وراء الأقنعة لتحقيق الانتشار والشهرة من دون التعرف على ملامحهم، ورغم أنها مغامرة تبدو غير محسوبة فإنها في معظم الأوقات تؤتي ثمارها.
رغم أن مغنيّ الراب المصري تووليت أصدر على مدى عامين تقريباً ألبومين غنائيين، فإنهما على انتشارهما في وسط محبي هذا الفن لم يحققا الانتشار الواسع الذي حظي به الكوكتيل الأخير الذي طرحه قبل أسابيع، إذ حرص خلال تجاربه السابقة أن يخفي كل شيء عن ملامحه بما فيها هيئته، فخرجت فيديوهات تلك الأعمال على "يوتيوب" وكذلك عبر منصات الاستماع مصحوبة برموز تعبيرية وأشكال ومجسمات من دون أن أية تفصيلة عن ملامحه.
غير أنه بات ظاهرة فنية حينما قرر أن يصبح المطرب المقنع ويتوارى خلف قناعه، ويظهر في كليباته وفي منشورات ألبومه مرتدياً قناعاً أبيض لا يُبدي منه سوى عينيه، مع أسلوب ملابس تسعيني كفيل بأن يجلب إليه مشاهدين يبحثون فقط عن مشاعر الحنين إلى تلك الحقبة.
والغموض وإخفاء الهوية وإرباك الجمهور مغامرة ناجحة أجادها المطرب الذي تحوّل البحث عن هويته إلى سؤال متكرر عبر تدوينات الـ "سوشيال ميديا" حتى إن الفنانة أنغام مازحت تووليت متسائلة عن حقيقته ومستعينة بأغنيتها الجديدة "إنت مين؟"، لكن رده عليها حمل مزيداً من الحيرة بعدما ألمح إلى إمكان تقديمهما "ديو" غنائياً مشتركاً.
والمؤكد أن تلك الحيلة الدعائية أجاد المطرب الشاب لعبها وأشعل قائمة من التكهنات والتخمينات، بينها هل هو عبدالله ابن عمرو دياب أم مروان بابلو أم خفاجي أم ليجي سي، وهي ظنون جرى بشكل قاطع نفي معظمها لأسباب كثيرة بينها اختلاف المظهر الجسدي وحتى الصوت وشكل العيون.
لكن كثرة الاستفسارات ومحاولات البحث تؤكد أن طريقة إخفاء نصف الحقيقة أو حتى ثلاثة أرباعها في تلك الحال أثبتت فعاليتها مثلما يحدث في كل مرة، إذ لم يكن صاحب "ما تيجي أعدي عليكي" هو الأول الذي يعتمد تلك الطريقة وسيلة ترويجية أو أسلوباً للظهور.
بين الهرب من الجمهور والتودد إليه
كان مطرب البوب الراحل مايكل جاكسون أبرز من لفتوا الأنظار في ما يتعلق باستخدام القناع، لكنه كان يلجأ إليه بعد أن أصبح مشهوراً لا في بداياته كما يحدث الآن، إذ عمد إلى استخدام القناع رغبة في التخفي كي لا يلفت النظر، ويستدعي مصوري الـ "باباراتزي"، وأيضاً حرص على أن يستعمله أبناؤه في مرحلة الطفولة لإبعاد الفضوليين عنهم والحفاظ على ملامحهم مخفية.
لكن اللجوء إلى القناع أسلوب ظهور متعمد منذ البداية من أشهر رواده منسقاً الأغنيات الفرنسيان غي مانويل دي هوميم كريستو وتوماس بانغالتر ضمن فرقة "دافت بانك" التي تفككت قبل نحو ثلاثة أعوام وسط صدمة لعشاقها، إذ حقق الثنائي انتشاراً كبيراً نظراً إلى طريقة ظهورهما قبل ثلاثة عقود بالخوذات، ولمساتهما المبتكرة على الموسيقى الإلكترونية، وأيضاً بسبب الغموض شبه الكامل حول ملامحهما.
لكن وفقاً للمنتج التنفيذي وخبير الدعاية والإعلام الرقمي عمر قاسم فإن سبب اتجاه الثنائي الموسيقي الفرنسي للظهور بهذه الطريقة كان عكس الشائع تماماً، فهما كانا يرغبان في عدم تحقيق الشهرة وإبقاء هويتهما مخفية، وألا يتعرف الجمهور على ملامحهما أبداً، وأن تكون الموسيقى هي البطل.
اللافت أن هذا التوجه معاكس على المعظم لرغبة كثير من الفنانين الذين يجرّبون وسائل كثيرة لتحقيق الشهرة المدوية، وإخفاء بعض الملامح أحد تلك الطرق، ولا سيما أن عدداً منهم يعتمد القناع بصورة موقتة ليحقق هدفه، ثم يفصح عن باقي الوجه في ما بعد بصورة عادية، بينهم فريق سليبنوت الأميركية التي ظهرت منتصف التسعينيات، واعتمد أعضاؤها على الأقنعة المرعبة، وبعد أعوام جرى كشف هويتهم.
والأمر نفسه بالنسبة إلى دي جي السويسري مايك كانديس صاحب الخوذة الصفراء الشهيرة، وأيضاً المغنية الأسترالية سيا التي اشتهرت بمظهرها المميز، إذ كانت تغطي غالبية وجهها بشعرها المنسدل، وبررت ذلك بأنها ترغب في أن يركز الجمهور على صوتها، لكنها في ما بعد أصبحت تظهر بصورة طبيعية.
وفي سبعينيات القرن الماضي عرفت فرقة الروك الأميركية "The Residents" بأقنعة أعضائها الغريبة التي تحمل طابعاً عدوانياً أو حيوانياً، وقد حققت انتشاراً كبيراً وبدت أشكال الأقنعة ملائمة كثيراً لنوع الموسيقى التي تحمل طابعاً طليعياً تجريبياً في ذلك الوقت، إذ كانت تستخدم الفرقة عدداً من الفنون البصرية الأخرى لخدمة أسلوبها.
الغموض وحده لن يكفي
ويشدد متخصص التسويق والمدير التنفيذي السابق لمهرجان القاهرة السينمائي عمر قاسم على أن تلك الحيلة تجد طريقها للجمهور في أوقات كثيرة، لكن ليس بمفردها، بمعنى أن الدي جي الفرنسيين على سبيل المثال "لم يكن لأعمالهم أن تحقق قبولاً وانتشاراً لولا الجودة، والشيء نفسه بالنسبة إلى باقي الفنانين الذين لجأوا إلى الحيلة نفسها"، مؤكداً أنه "من دون الموهبة لن يهتم الجمهور بمحاولة معرفة هُوية الشخص، ولن يهتم بمتابعة ما يقدمه من الأساس، فهي في البداية طريقة جيدة للترويج لكن لن يستمر صاحبها إذا كان يصنع منتجاً رديئاً".
وبالعودة لتووليت باعتباره أحدث نماذج تلك الظواهر، فعملاه السابقان "مجهول" و"طيش شباب" اعتمدا على نمط أغنيات الراب الذي بات ينال حظه خلال الأعوام الأخيرة، وعلى رغم الرضا الجماهيري عن أغنيات الألبومين فإن تووليت ظل في مرتبة متأخرة في ما يتعلق بالانتشار مقارنة بنجوم الراب الأكثر سيطرة ونجومية.
غير أنه حينما قرر أن يقدم منتجاً مغايراً ويعتمد على ثيمة موسيقية وشعرية تقترب أكثر من أغنيات حقبة التسعينيات حقق الشعبية التي يبحث عنها، إذ إنه قرر الظهور أيضاً بمظهر تسعيني مرتدياً الجاكيت الجلدي الشهير الذي ظهر به عمرو دياب في فيلم "آيس كريم في جليم" 1992.
كما صوّر المغني الشاب كليبه "حبيبي ليه" معيداً تجسيد بعض مشاهد العمل الذي بات من كلاسيكيات تلك الفترة، إضافة بالطبع إلى ظهوره مقنعاً حتى في حفله الذي أحياه أخيراً ضمن فعاليات مهرجان العلمين بمصر، فهناك أكثر من عامل اعتمد عليه المطرب وليس فقط فكرة إخفاء الهوية.
فضول اكتشاف المجهول
ارتبطت فكرة القناع في عالم الفن بمصر بمطربي الراب، إذ سبق وارتداه مسلّم وكذلك مروان بابلو بعض الوقت وحسن أبو الروس، لكن طريقة إخفاء الهوية عموماً صاحبت ظهور الدمية فاهيتا الشهيرة بأبلة فاهيتا من خلال فيديوهات عبر موقع يوتيوب قبل نحو 15 عاماً، واستمرت على الطريقة نفسها حتى بعد تحقيق الشهرة الهائلة وتقديمها برامج تلفزيونية وأعمالاً درامية، وعلى رغم التكهنات وراء مبتكر الشخصية وصاحب الأداء الصوتي لها ولباقي الدمى التي تشاركها العرض، فإنه جرى الحفاظ على سر الأبلة سليطة اللسان صاحبة الإفيهات اللاذعة والمضحكة التي تتميز بسرعة بديهة فائقة جعلتها صديقة النجوم على رغم سخريتها منهم طوال الوقت.
من جهته يعلق أستاذ علوم المسرح الدكتور محمد سعد أن "فكرة ارتداء القناع عُرفت في جميع أنواع الفنون، وهي تحمل أكثر من دلالة وبينها السحر والغموض، وإيحاء القوة والسيطرة والرهبة، وأن هناك سراً ما"، مضيفاً أن "اعتماد بعض المطربين ومقدمي الأعمال الفنية والترفيهية على القناع يجعلهم يستفيدون من كل هذه الدلالات المحملة بمخزون ثقافي ضخم لصنع حال درامية تخدم أسلوبهم وشخصيتهم الفنية التي تكتمل أيضاً بصورة الملابس وأسلوب تصفيف الشعر وطريقة ارتداء الإكسسوارات".
وكشف سعد أنه في حال نجوم الغناء فإن هذا التوجه يلائم الفنان الذي يسعى لمخاطبة فئة من الشباب المعجبين بهذه الفكرة الغامضة، لكنه بالنسبة إلى فئة أخرى قد يكون غير متقبل، مشيراً إلى أن "صفات المتلقي هي التي تحدد طريقة مخاطبته، فالقناع في نظر بعضهم عنصر جذب، لكنه قد يأتي بنتيجة عكسية مع مجموعات أخرى".
أقنعة وخوذات ورموز
وعلى رغم أن الاستماع إلى أغنية ما دون معرفة الملامح الكاملة لصاحبها تبدو قريبة لفكرة الراديو قديماً قبل اختراع الوسائط البصرية، فإن في العصر الحديث أصبح التخفي وارتداء القناع طريقة ملائمة بصورة خاصة للتجارب الغنائية غير التقليدية والبعيدة من الكلاسيكية، سواء في ما يتعلق بأغنيات الراب أو الموسيقى الإلكترونية الراقصة، مثلما هو الوضع مع الدي جي والمنتج الأميركي المعروف بمارشملو الذي شاعت فرضية أنه كريستوفر كومستوك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحقق كريستوفر كومستوك نجاحاً ساحقاً من بدايته قبل نحو 10 أعوام، وتصدّرت الأغنيات التي قام بمزجها والعمل عليها قوائم الأكثر استماعاً على مستوى العالم، وبينها تعاونه مع سيلينا غوميز ونانسي عجرم، فيما هو عرف بالقناع المربع الضخم الذي يرتديه والمزين بأشكال رمزية الرموز، بينما تصميمه الأساس يحاكي حلوى الخطمى أو المارشملو.
كذلك عرف عازف الجيتار الأميركي الذائع الصيت Buckethead الذي اتخذ من مظهره لقباً له والذي يعني "دلو الرأس"، إذ حقق جماهيريته بطريقة عزفه المميزة، وبقناعه الأبيض الذي يخفي ملامحه، وكذلك ارتداؤه دلواً على رأسه يشبه علب الطعام.
أما الموسيقي الكندي ديدماو فقد اتخذ من خوذة الفئران شعاراً له، وباتت تمثل معلماً مهماً لشخصيته التي لم تعد سرية، ومع ذلك فهو لم يستغن عن طريقته في الظهور.
الرغبة في اكتشاف المجهول ثم تقلص مساحة الفضول ليتحول إلى نوع من التعود والتعايش مع هذه الأحجية الناقصة، والاكتفاء بفكرة السحر والغموض والسرية، وهي أمور ربما تدفع مزيداً من الفنانين إلى تكرار التجربة نفسها، إذ يرى أستاذ علوم المسرح الدكتور محمد سعد أن "هذه الأفكار يجري تطويرها، كما أنها تجارب يختبرها الفنان ليخدم رغبته في الانتشار".
ويذكر الأكاديمي بمدى رسوخ القناع في معظم الحضارات الإنسانية تاريخياً، مذكراً باستخداماته المتعددة سواء في الحروب أو الأعراس أو الجنازات، ووصولاً إلى استخدامه بقوة في المسارح، بينها مسرح الطفل كونه يساعد في التقمص ووسيلة رئيسة للتعبير عن معاني مثل القوة والخير والشر وصولاً إلى استخدامه في الـ "سايكو دراما" والعلاج بالفن وسيطرته على عالم الموضة، لأنه مكون أساس يسهم في دعم أفكار الإبهار والتجديد والابتكار.