ملخص
صرح الدروس الخصوصية في مصر أصبح متجذراً في الفكر والمكان. أجيال جديدة وُلدت في كنف الدروس الخصوصية، فالتحقت بالمدرسة، ومنها إلى الجامعة، ثم العمل، وهي تعتقد أن الدروس الخصوصية جزء أصيل من العملية التعليمية، يكمل أحدهما الآخر، بل ربما يمكن للأولى أن تكتمل وتستوي وتزدهر، دون الثانية.
بدلاً من بحث كيفية مواجهتها وسُبل مناهضتها، وبعد عقود من المطاردات الأمنية والضرائبية في مصر على سبيل التضييق، وإلصاق وصمات العار والتربح وفساد الذمة من باب الضغط النفسي والخزي الاجتماعي تحوّلت الدفة عكس التيار التأديبي تماماً، فمالت صوب التنظيم تارة، وفي اتجاه المناشدة بالتعقل، والمطالبة بالترشيد تارة أخرى.
وبعد ما كان الأوائل ينفون وصمتها عن أنفسهم، ويسهبون في ذكر محاسن شرح معلم الفصل، وتدريب برامج التلفزيون التعليمية، ودعاء ماما وبابا المستمر، أصبحوا يتحدثون عن السُّبل المثلى لتنظيم رحلات الذهاب والإياب إلى ومن "السنتر"، والإشادة بـ"بابا" الذي وفّر أموال الدروس الطائلة، و"ماما" التي رشدت ميزانية الطعام والكساء من أجل أولوية "فلوس المستر"، وربما نبرة تباهي في الاكتفاء بدروس في الفيزياء والكيمياء والرياضة البحتة واللغة العربية فقط لا غير، حتى النظام الجديد الذي أعلن قبل أيام قليلة، وما زالت الملايين تحاول فك لوغاريتماته، لا يحتوي حتى اللحظة ما من شأنه أن يحاصر الدروس الخصوصية، باستثناء التأكيدات الرسمية أن النظام الجديد سيقضي عليها.
برج الدروس الشاهق
في مثل هذا الوقت من كل عام، تطلّ منظومة الدروس الخصوصية من برجها الراسخ الباسق الشاهق، لتتأكد من أن "كله تمام"، وأن أحداً لا يقترب من حرمها، أو يتطاول على كيانها، وبالطبع يفكّر في هدم صرحها.
صرح الدروس الخصوصية في مصر أصبح متجذراً في الفكر والمكان. أجيال جديدة ولدت في كنف الدروس الخصوصية، فالتحقت بالمدرسة، ومنها إلى الجامعة ثم العمل، وهي تعتقد أن الدروس الخصوصية جزء أصيل من العملية التعليمية، يكمل أحدهما الآخر، بل ربما يمكن للأولى أن تكتمل وتستوي وتزدهر، دون الثانية.
عائلة الأستاذ فهمي تحكي بفخر بالغ عن حفيدها البالغ من العمر خمسة أعوام، الذي سأله أحد الأقارب ذات يوم عن الكلية التي يود أن يدخلها، فقال بكل ثقة: "كلية الدروس الخصوصية!" (معتقداً أن هناك كلية تؤهل الطلاب للعمل في مجال الدروس الخصوصية)، وحين سُئل عن السبب، قال: "حتى أكسب أموالاً كثيرة".
تقوم المنظومة برمتها على "الأموال الكثيرة". المعلمون يبحثون عن "أموال كثيرة" تعوّض تدني رواتبهم المدرسية أو أملاً في زيادة الدخل ورفع مستوى معيشتهم، والأهل يدفعون "أموالاً كثيرة" بحثاً عن الفرصة الأفضل للأبناء والبنات، والمراكز تتقاضى "أموالاً كثيرة" من هذا وذاك.
حتى عامين مضيا، كان أوائل الشهادات الدراسية الابتدائية والإعدادية والثانوية وذووهم يتحدثون في وسائل الإعلام عن أسرار التفوق، وفي القلب من الكثير منها الدروس الخصوصية. ووصل الأمر لدرجة أن طلاباً وطالبات كانوا يتحدثون بأريحية بالغة عن اليوم الدراسي في المدرسة، باعتباره مضيعة للوقت وهدراً للمجهود، وكلاهما يفضّل الاحتفاظ به للدروس الخصوصية، لأنها الطريق للنجاح والتفوق!
في عام 2022، وصلت "نصائح" الأوائل التي تدور حول روعة وعظمة وأهمية الدروس الخصوصية أوجها، وهو ربما ما سلّط الضوء على ما وصلت إليه المنظومة من تمكّن وهيمنة وتفوق على نظام التعليم الأصلي. في ذلك العام، ارتفعت أصوات في مجلس الشيوخ المصري مطالبة بالبحث فيما يصرح به الأوائل، إذ اعتبره البعض "ناقوس خطر" يستحق وقفة.
وعلى الرغم من أن الناقوس يقرع منذ ما يقرب من نصف قرن هو عمر "توحش" منظومة الدروس الخصوصية، فإن القرع في ذلك العام كان مدوياً. لماذا؟ لأن أحدهم تنبه إلى أن تحول المنظومة إلى ما يشبه "وزارة تعليم" موازية للوزارة الأصلية، تتميز عليها بالشعبية والفوقية، وإن كانت تخلو تماماً من مسمى "التربية" الملحق باسم الوزارة.
ملحمة الصراع بين "الوزارة" والدروس الخصوصية معقدة ومتشابكة. بدأت صراعاً وعداءً، وتحوّلت شداً وجذباً، ثم توقفت عند مرحلة التعايش المتأرجح بين السلمي وشبه السلمي.
وبينما تتواتر تأكيدات من "خبراء تربويين" وتدوينات من "محللين في مجال التعليم" تتغنى بمحاسن النظام الجديد الذي جرى الإعلان عنه للمرحلة الثانوية، وكيف أنها ستقضي تماماً على مافيا الدروس الخصوصية، يبحث الباحثون وينقب المنقبون على الأمارات والبشارات التي ستحقق الحلم وتفعله، فلا يجدون دلالات إلا اعتبار هؤلاء الخبراء أن زيادة درجات الحضور في المدارس إلى 40 و50 في المئة في المادة الواحدة محاربة للدروس دون شرح الكيفية، وأن تقليص عدد مواد الثانوية العامة سيتيح للطالب الاعتماد على نفسه في المذاكرة من دون اللجوء إلى الدروس الخصوصية، أو اللجوء إليها في أضيق الحدود دون سرد البراهين، ناهيك بإتاحة الفرصة لممارسة "التربية الرياضية" (وهي غير موجودة أصلاً في أغلب المدارس). ليس هذا فقط، بل انبرى البعض عبر منصات إعلامية ليؤكد أن مسيرة الدروس تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأنها ستصبح تاريخاً، شأنها شأن مادة التاريخ التي طالب إعلامي مصري شهير بإلغائها.
تندر اجتهادات المؤرخين في تأريخ وتوثيق تاريخ الدروس الخصوصية في مصر، وكيف تحوّلت من طالب أو اثنين في المرحلة الثانوية غالباً يصعدان سراً إلى شقة "مستر فلان" لتلقي درساً في مادة أو اثنتين، إلى أفواج تصعد وأخرى تغادر تتلقى الدروس في كل المواد تقريباً، ولا تفرق بين صغير غادر "بيبي كلاس" لتوه أو كبيراً أصبح رجلاً بشوارب، وأخيراً إلى مراكز ومؤسسات تعمل بنظام الحضور والانصراف، وتتردد عليها آلاف الطلاب يومياً، وفي مواسم الامتحانات يجري نقل النشاط إلى استاد أو صالة رياضية لتتسع للأعداد الغفيرة.
المدرس النجم
قبل بضعة أيام من بدء امتحانات الثانوية العامة في يونيو (حزيران) الماضي، تداول ملايين المصريين وغير المصريين مقطع فيديو يرقى إلى صناعة الـ "شو بيزنس". صالة رياضية شاسعة يجلس فيها ما يزيد على أربعة آلاف طالب وطالبة. وفجأة تُضاء كشافات ساطعة، ويدخل معلم مادة الجيولوجيا الشاب وسط هتاف مدو من الطلاب الذين أخرجوا هواتفهم المحمولة، ليلتقطوا صوراً وفيديوهات للحظة الدخول التاريخية للمدرس النجم. وقبل أن يبدأ المراجعة النهائية للجيولوجيا. انتشار الفيديو على منصات السوشيال ميديا دفع الجهات المسؤولة إلى اتخاذ خطوات قانونية. أمام النيابة العامة، قال المعلم إنه لم يكن على علم بأن جمع الطلاب للمراجعات أمر مخالف للقانون.
ووصف المعلم المبالغ التي يحصلها من الطلاب بـ "الرمزية"، مؤكداً أنه يتقاضى 85 جنيهاً مصرياً (1.74 دولار أميركي) عن كل طالب في الحصة الواحدة، وهو ما يعني 340 ألف جنيه مصري (6952 دولارا أميركياً) في الحصة. لكن الحقيقة هي أن الطالب الواحد يسدد مبلغ 300 جنيه (6 دولارات أميركية) في الحصة، أي أن المعلم الشاب يحصل على مليون و200 ألف جنيه مصري (24541 دولاراً أميركياً) في الحصة.
يشار إلى أن رواتب المعلمين المعينين في مصر تتراوح بين أربعة وتسعة آلاف جنيه في الشهر (بين 82 دولاراً أميركياً و185 دولار أميركي). يشار أيضاً إلى أن وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني لجأت قبل سنوات إلى نظام التعاقد مع المعلمين بنظام الحصة، وذلك لسد الفجوة في عدد المعلمين المطلوب.
وظلت تسعيرة الحصة ثابتة عند عشرين جنيهاً للحصة إلى أن زادت إلى 35 جنيهاً مصرياً في مارس (آذار) الماضي، على أن يزيد خمسة جنيهات أخرى قريباً لتصل الحصة إلى 40 جنيهاً! يشار كذلك إلى أن سعر علبة الحليب الواحدة يتراوح بين 45 و50 جنيهاً مصرياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التقرير الإحصائي الأحدث عن دخل وإنفاق الأسرة المصرية (2019 - 2020) يشير إلى أن 26 مليون أسرة مصرية (وهو مجموع الأسر ممن لديها أبناء في مراحل التعليم) تنفق 482 ملياراً و247 مليون جنيه (9.8 مليار دولار) على التعليم. ووفق تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الدوري، فقد بلغ إجمالي ما ينفقه المصريون على الدروس الخصوصية سنوياً يبلغ أكثر من 136 مليار جنيه.
جزء غير قليل من هذه المليارات يخرج من جيب الأهل رأساً إلى جيب المعلم، الحلقة الأبرز في منظومة الدروس الخصوصية. جانب من هذه الأموال تذهب رسوم تأجير أو شراء مراكز وصالات، ورواتب عاملين إداريين لتنظيم حركة انضمام الطلاب وغيرها من بنود الإنفاق. وتظل الدولة بعيداً عن مجال الانتفاع من هذه المليارات، سواء عن طريق الضلوع في تنظيمها، وفرض رسوم حكومية، وكذلك ضرائب.
ويبدو أن هناك من تنبّه إلى تلك الفرص المالية الضائعة قبل فترة، ففكّر في تقنين المنظومة! أبرز محاولات التقنين جاءت عقب تولي وزير التربية والتعليم السابق مقاليد الوزارة الأصعب في مصر رضا حجازي. أدهش الوزير الجميع ذات صباح حين قال: "الفكرة التي نعمل عليها حالياً هي تقنين الدروس الخصوصية لضمان بيئة تعليمية تربوية آمنة خاضعة لرقابة حكومية، على أن تستخدم أي موارد مكتسبة للوزارة من هذا الدور في دعم المدارس الحكومية ورفع مرتبات المعلمين. أدعوكم جميعاً للنقاش البناء بخصوص هذا الشأن". كان هذا في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022. خرج حجازي من الوزارة، وجرى تنصيب غيره، ولم يقترب أحد من المنظومة بالخير أو بالشر، بالتقنين أو عدمه. بقي الحال على ما هو عليه على مدار نصف قرن.
تأريخ الدروس الخصوصية
إحدى المحاولات التأريخية النادرة تربط بين بزوغ عصر الدروس الخصوصية وعصر الانفتاح الاقتصادي التي اتبعها الرئيس الراحل محمد أنور السادات في منتصف السبعينيات. أرجع أستاذ الفلسفة محمود محمد في كتابه "أنور السادات وانتشار ظاهرة الدروس الخصوصية في مصر" (2021) بداية فكرة الدروس إلى عصر الانفتاح الاقتصادي. مشيراً إلى أن توجه السادات نحو سياسة الانفتاح جعلته يتجاهل أهمية وأولوية منظومة التعليم لصالح أولويات اقتصادية أخرى، وهو ما أدّى إلى تدهور العملية التعليمية، وترك مشكلات مثل كثافة الفصول المرتفعة تؤثر سلباً في التحصيل الدراسي وقدرة المعلم على الشرح وتوصيل المعلومة في المدرسة.
ويضيف أن ذلك أدّى إلى اتجاه الأسر الميسورة إلى الدروس الخصوصية بديلاً لشرح الفصل المتعثر. وساعد على نمو الفكرة وتوسعها تركيز نظام التعليم على اعتبار مجموع الدرجات هو المعيار الوحيد المحدد للالتحاق بالتعليم الجامعي، وأدّى ذلك بدوره إلى تصنيف كليات "قمة" و"غير قمة" أو "قاع"، وتكالب أعداد متزايدة من الطلاب على "القمة"، ونفور الغالبية من "القاع"، وهي الكليات التي ظلت تستوعب العدد الأكبر ممن يضخهم نظام الثانوية العامة، وظلت منظومة الدروس الخصوصية تتوسع باعتبارها القادرة على تحقيق حلم "القمة".
تفسيرات كثيرة تُطرح لشرح أسباب استضافة ثم تربية وإقامة، وأخيراً ترك الفيل في الغرفة دون قدرة على مواجهته أو إخراجه منها. "فيل" الدروس الخصوصية يأبى ألا أن يرتبط بعصر السادات. فبين قائل بأن تحوّل مصر في ذلك الوقت إلى تشجيع الاستثمارات الخاصة، وبينها التعليم الخاص متمثلاً في المدارس الخاصة، وترك التعليم الحكومي المجاني يقتل نفسه بنفسه، وبدء تحلل منظومة التعليم الحكومي، التي تستوعب العدد الأكبر من طلاب مصر بحكم المقدرة المادية للأهل، إذ أصبح اليوم الدراسي مقسماً على فترتين وأحياناً ثلاث، ليتم استيعاب الجميع، وقل أو ثبت عدد المدارس والفصول، وخارت قوى المعلم الجسدية أمام هذه الأعداد الهائلة والمادية أمام توغل المظاهر المرتبطة بالاقتصاد الحر المفتوح وثقافة الاستهلاك الضارية، تدهور حال التعليم المعتمد على التلقين في الفصل المدرسي، ليزدهر التعليم المعتمد أيضاً على التلقين، لكن في بيت المدرس الخصوصي أو بيت الطالب المستضيف المدرس الخصوصي، وأخيراً "السنتر" الذي يملكه أو يعمل فيه المدرس الخصوصي.
المدرس الخصوصي، والدرس الخصوصي، و"سنتر" الدرس الخصوصي شهدت كراً من قِبل الحكومة في ثمانينيات، وجانب من تسعينيات القرن الماضي وحتى العقد الأول من الألفية الثالثة، إذ جرى وصفها من قبل وزراء التعليم المتعاقبين بـ"السرطان التعليمي" و"آفة العصر" و"مافيا المعلمين" و"فيروس المدارس" و"إيدز البيوت"، وفراً من قبل الأطراف الضالعة في المنظومة تجلت عبر التجاهل التام للحكومة والمضي قدماً في المنظومة.
الطريف أن الأطراف الضالعة في المنظومة، والمدافعة عن استمرارها، والمحاربة من أجل بقائها هي: المدرس، والأهل، والطالب، والبيئة الخدمية المحيطة بالمنظومة من إداريين ومستثمرين وغيرهم.
احتجاج من أجل "السنتر"
يقولون إن شر البلية ما يضحك، لكن شرها يقول الكثير أيضاً عما وصلت إليه البلية من توسع وتطور وتمكن. في السنوات القليلة، التي تلت أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011، كانت تطغى على السياسات الرسمية المصرية بين الحين والآخر هبات ضبط مفاجئة ومحاولات ربط مباغتة. في أثناء محاولات تصحيح أوضاع معوجة عمرها عقود مثل البناء المخالف والاستيلاء على حرم الشوارع والأرصفة والمرور العشوائي والفساد الإداري، وكذلك الدروس الخصوصية، أصدر أكثر من محافظ أوامر بإغلاق مراكز دروس خصوصية في محافظاتهم، لأنها غير قانونية، وظناً منهم أن الإغلاق سيؤدي إلى عودة العملية التعليمية إلى المدارس، وإنقاذ ميزانية البيوت التي تستنزفها الدروس.
الطريف أنه في كل مرة كان يجري فيها إغلاق مركز أو استدعاء مدرس خصوصي للتحقيق، كان الأهالي والطلاب ينظمون وقفات احتجاجية للمطالبة بفتح المركز والإفراج فوراً عن المدرس.
في نتائج الثانوية العامة هذا العام، تفجّرت ظاهرة غير مسبوقة. دفة تصريحات الأوائل تحوّلت من أقصى يمين "سر تفوقي الدروس الخصوصية في كل المواد" إلى "سر تفوقي الابتعاد تماماً عن الدروس الخصوصية". وبعيداً من مصداقية التصريحات، وسر التطابق في "نبذ الدروس الخصوصية"، التي تضج بمراكزها وإعلاناتها أرجاء مصر، فإن أياً من الأوائل لم يذكر فضل الشرح في الفصل في تفوقه. العامل الجديد هو "المذاكرة أون لاين" حيث الاستعانة بالمواقع التعليمية والشروح المتاحة على المنصات، وبينها "بنك المعرفة".
وعلى سيرة "الأون لاين"، تزدهر هذه الآونة إعلانات البحث عن "مصمم إعلانات مدرس أون لاين"، لا سيما مع اقتراب بدء العام الدراسي الجديد. "كورس اللغة العربية لتأهيل طفلك للصف الأول الابتدائي" "أستاذ اللغة الإنجليزية للمرحلتين الابتدائية والإعدادية"، "معلمة الرياضيات للمرحلة الثانوية طريقك إلى كلية الهندسة"، "مع مستر عبد الوالي أنت دائماً في العالي" وغيرها الآلاف من الإعلانات التي تنشط هذه الأيام استعداداً للعام الجديد.
وبينما أوائل الثانوية العامة يجمعون فجأة على عدم جدوى الدروس الخصوصية، فإن كل شارع ينضح بسنتر واحد على الأقل، ومن لا تتيح ظروفه الوصول لـ "السنتر" يصل السنتر إليه عبر الدروس الخصوصية "أون لاين"، والدفع كذلك "أون لاين". "أون لاين" أيضاً باغت معلم لغة فرنسية الملايين من المصريين بطرحه إعلان عن خدماته التعليمية على صفحة "فيسبوك" الخاصة به. هذه المرة الإعلان ليس مجرد إشارة إلى الاسم والمادة ورقم الهاتف، لكنه إعلان فيديو استعان فيه المعلم ببلوغر مشهور وأكبر مشجعي نادي الاتحاد السكندري الكروي، واسمه عادل شكل (اسم كودي ويعني مشاكل).
ورشة ميكانيكا يتحدث فيها شخصان، أحدهما يتحدث الفرنسية بطلاقة، لأنه يأخذ درساً خصوصياً عند المدرس صاحب الإعلان، والآخر متعثر، وفجأة يدخل شكل على ظهر دراجة نارية متفوهاً بكلمات غير مفهومة يفترض أنها فرنسية، ما يدفع المدرس الخصوصي للخروج من الورشة، ثم يقف في مواجهة الكاميرا، ويقول: "معنا هتتعلم وتتفوق وتقفل الفرنساوي".
منظومة "التقفيل" وثيقة الصلة بتدهور التعليم، ومعه بزوغ عصر الدرس الخصوصية. "تقفيل" المادية يعني الإجابة الصحيحة على كل الأسئلة في الامتحان، وهو المبدأ الذي أدّى إلى إحراز الآلاف لمجاميع مئة في المئة، وأحياناً 107 و110 في المئة بعد إضافة ما يسمى بـ "مواد المستوى الخاص".
من الظلم شيطنة المنظومة من ألفها إلى يائها. بحسب الباحث في المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية محمود سلامة، فإن للدروس الخصوصية فوائد تتمثل أحياناً في تحسين كفاءة الطالب أكاديمياً، إذ تستجيب لاحتياجات بعض الطلاب بشكل أكثر مرونة مقارنة بالنظام التقليدي. كما تخلق الدروس الخصوصية فرصة عمل لخريجي كليات التربية وغيرها من الراغبين في العمل بمهنة التدريس، لا سيما في ظل ضعف قدرة الحكومات على تعيين جميع الخريجين في المدارس الحكومية، إضافة إلى أن الدروس الخصوصية تمكن المعلمين من تحسين رواتبهم كثيراً. كما يستفيد منها الأهل الراغبون في تحسين مستوى أبنائهم الدراس، ولا يمتلكون الوقت أو المهارة الكافية لعمل ذلك بأنفسهم.
أما الجوانب السلبية، فيقول سلامة في ورقته وعنوانها "مراكز الدروس الخصوصية: تكامل مع المدرسة أم منافسة؟"، أن الدروس الخصوصية تشجّع الطلاب على عدم الذهاب إلى المدرسة، ويتسرب لديهم شعور قوامه "إذا كان في إمكان المدرس الخصوصي أن يعدني بشكل كاف لدخول واجتياز الامتحان، فما الحاجة للمدرسة؟" عندها، يتوجه الطلاب إلى المدرسة فقط بسبب إلزامية الحضور، التي لو قلت عن نسبة محددة، لا يسم للطالب بدخول الامتحانات.
ويضيف سلامة أن البعض من الطلاب الذين يأخذون دروساً خصوصية يفسدون بيئة التعلم داخل الفصل المدرسي، إذ يعيقون الآخرين عن التحصيل، بسبب اعتقادهم أن المدرسة للهو والتسلية.
ويلفت سلامة كذلك إلى عامل اقتصادي واجتماعي سلبي، إذ تفرّق الدروس الخصوصية بين الطبقات، وتعطي أولوية الفرصة والتفوق للأسر ذات الدخول المرتفعة على حساب الآخرين. ويضيف: "هي إذن أداة لعدم المساواة في التعليم وتوسيع الفجوة بين الطبقات".
تعليم مجاني
يشار إلى أن الطبقات متواضعة الحال لم تعد تحظى بما يسمّى "التعليم المجاني"، لا لأنها ارتقت السلم الاقتصادي، وباتت قادرة على تعليم أبنائها في المدارس الخاصة، لكن لأن فكرة التعليم المجاني لم تعد قائمة. لماذا؟ لأن الدروس الخصوصية من بين عوامل القضاء عليها، ضمن عوامل أخرى كثيرة.
سعاد عاملة النظافة لديها ثلاثة أبناء في مرحلتي التعليم الإعدادي والثانوي. الثلاثة يأخذون دروساً خصوصية في أغلب المواد الدراسية، وهو ما يعني أن راتبها بالكامل مخصص لهذا البند، وتعتمد الأسرة على راتب زوجها البسيط في معيشتها اليومية. الأبناء الثلاثة في مدارس حكومية، لكنها لم تعد مجانية.
وسواء كانت الدروس الخصوصية صداعاً في رأس الحكومة، أو "نزيفاً في ميزانية الأسرة، أو فيتاميناً لراتب المعلم، أو وزارة تعليم قطاع خاص، أو شراً لا بد منه، أو آفة أصابت دولاً عدة في العالم، تظل دليلاً على مشكلات جمة في منظومة التعليم، بدأت بتدهور في مكانة التعليم والميزانية المخصصة له، ومرت بزيادة سكانية ضخمة لا تصاحبها زيادة في الموارد تتيح بناء مزيد من المدارس والفصول وتشغيل المزيد من المعلمين، وتقف حالياً عند مرحلة التعليم الأون لاين كبديل أو مخرج من مأزق الدرس الخصوصي للبعض، واستمرار ازدهار المنظومة للغالبية.الطريف أن نقاشاً مجتمعياً جرى قبل نحو عام حول مشكلة الدروس الخصوصية، وخرج بسؤال أشبه بـ"أيهما أتى إلى الدنيا أولاً: البيضة أم الدجاجة؟". فريق أكد أن المشكلة سببها نقص المعلمين (الذين تزخر بهم مراكز الدروس الخصوصية)، وقلة عدد الفصول الدراسية، وآخر قال إن امتناع المعلم عن الشرح هو سبب اللجوء للدرس الخصوصي، وثالث ألقى بكرة الاتهام في ملعب الطالب، حيث توقف الطلاب عن الذهاب للمدرسة، هو سبب انتعاش الدروس الخصوصية. في كل الأحوال، تبقى الدروس الخصوصية منظومة مزدهرة.