ملخص
عاش المواطن اللبناني طويلاً حال "الثراء الوهمي" معتمداً على قروض مصرفية أمنت لمختلف الشرائح الكماليات كما الحاجات الأساسية. فكيف يتعامل اليوم مع الوضع الجديد في ظل الانهيار؟
منذ بداية الأزمة الاقتصادية والمصرفية في لبنان، حصل تغيير جذري في حياة المواطن اللبناني، فإضافة إلى الوضع المعيشي الصعب والغلاء غير المسبوق مع التدهور الحاد في قيمة الليرة اللبنانية، كان لتوقف القروض المصرفية وقروض الإسكان وقعاً مهماً على نمط عيشه، وكأن حياته انقلبت رأساً على عقب، فوجد نفسه عاجزاً عن الاستمرار بنمط العيش الذي كان يتبعه قبل الأزمة.
آنذاك، كان من السهل نسبياً الحصول على قروض مصرفية تسهل العيش وتوفر حياة يمكن فيها الاستمتاع بالكماليات إلى جانب الاحتياجات الأساسية. لم تعد هذه القروض متاحة اليوم، وكان على المواطن التأقلم مع نمط حياة جديد لم يعتد عليه سابقاً. أما شراء منزل أو سيارة أو السفر أو غيرها من الأمور التي كانت متاحة لأي مواطن لبناني فلم تعد اليوم في متناول الكل، وأصبح تأمينها من المسائل الصعبة التي تتطلب الإدخار طوال سنوات أو اللجوء إلى الاستدانة.
أوهام الترف وأزمته
قبل الأزمة عاش المواطن اللبناني طويلاً حياة مترفة معتمداً على القروض. لكن طالما وصفت هذه الرفاهية بـ"الكاذبة" لأنها لم تعكس يوماً واقعاً اقتصادياً فعلياً في البلاد ولا حقيقة الوضع الاجتماعي للمواطنين. ففي السفر وفي شراء العقارات والسكن والسيارات وغيرها من الكماليات اعتمد المواطنون اللبنانيون على القروض المصرفية التي سهلت حياتهم وأمنت لهم الحياة المترفة التي يطمحون إليها ولو بشكل وهمي، وفق ما أوضحه المحلل الاقتصادي محمود جباعي لـ"اندبندنت عربية"، فقد "بلغ حجم القروض قبل الأزمة 55 مليار دولار، وهو رقم ضخم يوازي حجم الناتج المحلي. وكانت القروض تشكل نسبة 70 في المئة من الأنماط الاستهلاكية، بفضل التسهيلات المصرفية والفوائد المقبولة التي قدمتها المصارف واستفاد منها المواطن اللبناني في الاستهلاك. أما الاستثمار فلم يشكل أكثر من نسبة 30 في المئة من هذه القروض، مما ينعكس سلباً على النمو الاقتصادي بما أن قرض الاستهلاك يعتبر خاسراً".
"في بداية الأزمة استفاد كثيرون من انهيار سعر الصرف لسداد القروض التي كانوا قد حصلوا عليها قبلها، وذلك على أساس سعر الصرف 1500 ليرة لبنانية مقابل الدولار. بالتالي خدمت الأزمة كثيرين ممن تمكنوا من تسديد قيمة القروض بعد انهيار سعر الصرف في الفترة الأولى. وتم تسكير قروض بقيمة 45 مليار دولار في بداية الأزمة بأقل من نسبة 90 في المئة من قيمتها"، يقول جباعي.
في مرحلة لاحقة تأقلم المواطن اللبناني مع وضعه الجديد بغياب القروض، وكان ذلك لمصلحته لأنه توجه عندها نحو الادخار بدلاً من الاعتماد بشكل تام على القروض. لكن جباعي يدعو اليوم إلى تطوير القروض لتتركز على الاستثمار، وتحديداً للمشاريع المتوسطة والصغيرة بانتظار النمو الاقتصادي بشكل سليم. عندها من المفترض ألا تشكل القروض الاستهلاكية أكثر من نسبة 10 في المئة من مجمل القروض. هذا فيما لا ينصح بالعودة إلى القروض الاستهلاكية تجنباً للدخول مجدداً في دوامة القروض التي تضر بالاقتصاد، وأيضاً بالمواطن اللبناني الذي يعيش في حال "ترف وهمي".
نمط استهلاك مختلف
من إيجابيات الأزمة وتوقف القروض المصرفية وقروض الإسكان، أن المواطن اللبناني اعتاد على نمط حياة جديد لا يعتمد فيه على القروض في نمط العيش بعد حال "الثراء الوهمي" التي عاشها قبل الأزمة ودفع ثمنها غالياً، وبعد أن استفاد في أولى مراحل الأزمة بات مرغماً على الاستهلاك بحسب قدراته المادية مع غياب القروض. اليوم يبحث عن سلع بديلة ويعتمد نهجاً مختلفاً في الاستهلاك بما يتناغم مع إمكاناته كما من المفترض أن يحصل في وضع طبيعي.
ويشير جباعي إلى أن الأسعار عادت اليوم إلى ما كانت عليه، فيما لم تعد الأجور إلى سابق عهدها كما يجب أن يحصل لتعزيز إمكانات المواطن اللبناني. لكن الضرر الأكبر مع توقف القروض، خصوصاً قروض الإسكان، طاول الشباب الذي يواجه مزيداً من التحديات في الإدخار في بداية حياته وفي التأسيس لمستقبله. لذلك تعتبر قروض الإسكان ضرورية، إضافة إلى القروض الخاصة بالتعليم الجامعي، وتلك الخاصة بالاستثمار. أما غياب القروض الاستهلاكية فيُعتبر إيجابياً لأن القروض الباقية هي التي تساعد على نمو الاقتصاد تدريجاً مما ينعكس إيجاباً على حياة الموطن ووضعه.
وحول عودة قروض الإسكان، توضح مديرة الائتمان بمصرف الإسكان هنرييت زلزل، أنه بعد توافر قرض الصندوق الكويتي للتمويل أعيد فتح باب قبول الطلبات، مؤكدة دخول 24 ألف شخص إلى التطبيق للاطلاع على الإجراءات والمستندات المطلوبة في اندفاع واضح من الناس نحو هذه القروض، خصوصاً أن كافة القروض كانت قد توقفت عندما توقفت قروض مصرف الإسكان مما زاد من الأعباء على المواطنين.
وتضيف "في مرحلة سابقة كانت القروض التي قدمها المصرف لفترة معينة محدودة وتقتصر على تلك الخاصة بالطاقة الشمسية والترميم. حالياً يبدو أن ثمة طلباً هائلاً على هذا النوع من القروض، والكل في حال ترقب الآن لعودتها. وعلى رغم أن القروض التي يقدمها الآن مصرف الإسكان محدودة وتقتصر على مبالغ لا تتخطى 40 أو 50 ألف دولار أميركي، فإنها يمكن أن تشكل دعماً مهماً لفئة الشباب والراغبين بشراء سكن ولو خارج العاصمة. كما يمكن اللجوء إلى هذه القروض بهدف ترميم السكن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واللافت بحسب زلزل، هو انخفاض عمر المتقدمين بطلبات للحصول على قروض إلى نحو 22 أو 23 سنة بالمقارنة مع معدل الأعمار قبل الأزمة. مع الإشارة إلى أن الأمور قد تكون أصعب الآن، ففي السابق كان من الممكن تأمين إفادة عمل مع كشف حساب أو توطين للأجر عندما كانت الأمور طبيعية. أما اليوم فلا يفضل المواطنون التعامل مع المصارف بسبب فقدان الثقة مما يزيد من صعوبة إثبات الدخل، وهو عنصر أساسي عند التقدم بطلب للحصول على قرض.
إيجابيات القروض وسلبياتها
في لبنان يعتبر صندوق النقد الدولي أن القروض المصرفية لها أثر سلبي وإيجابي في الوقت نفسه على اقتصاد البلد، بحسب الاستشاري والباحث في التنمية المستدامة كميل حاماتي، إذ يعتبر أثرها الإيجابي قصير الأمد على الاقتصاد، ويظهر خلال مدة عامين إلى خمسة أعوام يبدأ بعدها ظهور الأثر السلبي من خلال الانكماش الاقتصادي.
ففي تحليل صندوق النقد الدولي، بقدر ما تزيد معدلات الحصول على قروض، كما كان يحصل في لبنان قبل الأزمة، يزيد الطلب على المنتجات على اختلافها، وعندها تزيد فرص العمل والازدهار الاقتصادي لكن لمدة محدودة لا تتخطى ثلاث إلى خمس سنوات. بعدها يبدأ الأشخاص عادة بالحد من النفقات لسداد هذه الديون وينفقون بمعدل أقل في مختلف المجالات. وهذا ما يؤثر سلباً في الاقتصاد للمدى البعيد ويؤدي إلى الانكماش الاقتصادي ويزيد البطالة. وهو واقع ينطبق على لبنان حكماً باعتبار أن أهله اعتادوا سابقاً على الاعتماد على القروض لتأمين حياة مترفة.
بحسب حاماتي فإن هذه النظرية تطبق أكثر فأكثر في لبنان. فكما يبدو واضحاً كان اللبنانيون قادرين على التمتع بحياة تغلب عليها الرفاهية قبل الأزمة عندما كانت القروض المصرفية متاحة، وكانت الكماليات متوافرة بسهولة من سفر وسهر وشراء عقارات وسيارات عدة في المنزل الواحد والحصول على مدبرة منزل. كان الإنفاق زائداً آنذاك، أما بعد الأزمة فقد انقلبت حياتهم رأساً على عقب لا بسبب الغلاء المعيشي وإنما بسبب انعدام القروض التي لم تعد في متناول اليد. فلم يعد بمقدورهم أن ينعموا بالكماليات كما في السابق، وباتوا مرغمين على العيش بحسب إمكاناتهم لأن القروض ليست متوافرة لتسهيل هذه الأمور.
يقول حاماتي "أقصى ما يمكن أن يفعله اليوم المواطن اللبناني هو الاستدانة من الحلقة الصغيرة من الأصدقاء او أفراد العائلة عند الحاجة، لكن يبقى هذا المجال محدوداً ولا يسمح له بالإنفاق بحرية كما في السابق عندما كانت القروض متوافرة. ويساعد هذا النوع من الاستدانة المواطن على الاستمرار بالعيش بالحد الأدنى المطلوب لعيش كريم، لكن لن يكون له الأثر نفسه الذي للقروض المصرفية. انطلاقاً من ذلك تبدل نمط العيش إلى حد كبير في لبنان بعد الأزمة الاقتصادية والمصرفية، وتحديداً لدى توقف القروض".
لكن يمكن القول إن وقف القروض كان له أثر إيجابي وسلبي على المجتمع اللبناني في الوقت نفسه. إذ لم يعد المواطن يعتمد نمط حياة يفوق إمكاناته المادية ومدخوله، ولا يزيد معدلات ديونه للمدى البعيد. فبدلاً من أن يبالغ في الإنفاق ويعتمد على قروض لسد حاجته، يفكر أكثر بترشيد المدخول لأنه لا بدائل متاحة له.
لطالما كان معروفاً أن اللبناني معتاد على الاستدانة، ويعتمد بنسبة عالية على القروض من أجل عيش حياة مترفة. لكنه بات مختلفاً اليوم لأنه يعيش بحسب قدراته، وقد يشكل هذا عبئاً إضافياً على الفئات الفقيرة بشكل خاص، إضافة إلى التحديات المطروحة أمام الشباب.