Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحتمية الجينية تفكير سطحي لكن تغيير "معزوفتها" ليس سهلا

أثبتت "المجاعة الهولندية" أهمية التفاعل بين الجينات والبيئة

يجدر التفكير نقدياً في المفهوم السائد عن صلابة الجينات ومعطياتها (ساينس آليرت.كوم)

تشكل الحتميّة الجينيّة Genetic Determinism المبسّطة نوعاً من التفكير الأولي لدى معظم الناس، بمعنى التسليم بفكرة أن التركيب الجيني يملك القول الفصل في ما يكون عليه الإنسان في الأشياء والمناحي كلها. إذ يتراءى لكثيرين أن الحتميّة الجينيّة تمثّل الطريقة الأكثر "طبيعية" في تفسير التشابه بين أفراد العائلة مثلاً، وكذلك شرح التفاوت بين أبنائها أيضاً. وبقول آخر، يُستَعمَل مفهوم الحتميّة الجينيّة في اتجاهين متعاكسين، فيُقدم سنداً للتشابه وتبريراً للتفاوت في الوقت نفسه.

ويتحمل العلماء جزءاً من ذلك الالتباس، لأنهم يعلمون عن ذلك الموضوع أكثر مما يعرفه عامة الناس. وعلى مدار العقود الثلاثة المنصرمة، انهمرت علينا سيول من تقارير تحكي عن اكتشاف جينات تتصل بالأشياء كلها من الشيزوفرينا إلى الأمراض السرطانية بأنواعها.

في المقابل، يوصل التدقيق في تلك التقارير إلى اكتشاف أن كثيراً منها ثبت عدم صحته، أو بالأحرى أنه لا يقدّم تفسيراً وافياً للموضوع الذي يتصدى لشرحه. ومثلاً، مُلئتْ الدنيا ضجيجاً بتقاير عن مجموعة جينات "بي آر سي إيه" BRCA باعتبارها تفسيراً شاملاً ووافياً عن سرطانات الثدي. وبالتمحيص، يتبيّن أنها تفسّر أنواعاً محدودة من تلك الأورام الخبيثة. ومن دون مجازفة كبرى، من المستطاع الإشارة إلى أن القاعدة الذهبية تفيد بأنّ الجينات التي تسهم فعلياً في أمراض الإنسان، لا تفسّر سوى جزء يسير منها.

واستطراداً، أدّت تلك المعطيات إلى طرح سؤال عن جدوى المقاربة المستندة إلى مفهوم "هناك جين لكل شيء". وفي المقابل، سارت مجموعة من العلماء صوب البحث عن الأكثر عمقاً، ذلك الذي أُسَمّيهْ على سبيل التشبيه أنه "المادة السوداء" في الجينات. ولشرح ذلك التشبيه،  أشير إلى أن علماء الفلك يعملون حاضراً على فهم مادة غامضة موجودة في الكون ومنتشرة فيه لكنها "خفية" على الرغم من أنها تفوق المادة التقليدية (وهي كل ما نعرفه في الكون) بأضعاف مضاعفة!

وعلى نحو مشابه، بات مسلماً لدى علماء الفلك ضخامة تلك "المادة السوداء"، وأنها المفتاح الفعلي لفهم تراكيب الكون، واستطراداً، فإن التعرّف عليها في العمق سيشكّل النقلة النوعيّة المقبلة في العلوم كلها.

وفي سياق الجينات، أستطيع أن أُشبّه وضعيّة "المادة السوداء" بالتشفير وآلياته في الحمض النووي الوراثي الذي يحتوي الجينوم كله، مع ما يحتويه من جينات، وتراكيب أخرى. ومع فهم آليات التشفير وتفاعلاتها، ينفتح المجال واسعاً أمام فهم معمّق وشامل للجينات. وعلى سبيل الإشارة العابرة، ثمة "مفاتيح" تتحكّم في عمل الجينات ومدى تأثيراتها ومسارات توجهاتها. وتكون تلك "المفاتيح" قابلة للتأثّر بعناصر خارجية تأتي من البيئة بمعناها الواسع الذي يشمل أيضاً المأكل والمشرب ونمط الحياة اليومية والعادات الصحية والرياضة والأحوال النفسية وغيرها. وثمة علم كامل عن تلك "المفاتيح"، يسمى "إبيجينتكس" Epigenetics، ويترجم أحياناً بـ"علم التخلّق" (راجع مقالي بعنوان [مفاتيح "التعبير الجيني" تصنع جسدك وصفاته وترسم إمكاناته ومساراته] على هذا الموقع).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإذا سارت الأمور بصفاء، فالأرجح أن يؤدي علم الـ"إبيجينتكس" دوراً محورياً في حسم النقاش بشأن مفهوم الحتميّة الجينيّة وعدم جدواه. وبالاسترجاع، ثار نقاش حاد عن ذلك الأمر في القرن التاسع عشر، عندما صاغ عالم الوراثة الشهير فرانسيس غالتون نظرياته عن الوراثة وطرقها وتأثيراتها. وقد جاءت تلك النظريات المملوءة بالحتميات الوراثية، أقرب ما تكون إلى الفضيحة، خصوصاً أنه نسب إلى الوراثة عناصر معقدة في المسارات المعرفية والإدراكية للإنسان. وعندما صعدت النازية والفاشية، استغل منظّروها مقولات غالتون في ترويج طروحاتهم عن تفوق أعراق معينة على غيرها.

ومع تعمق العلم في فهم آليات تولّد الإنسان من البويضة الملقحة إلى جسد كامل، إضافة إلى التطوّر في فهم الآليات المعقدة في عمل الدماغ ونموه وتطوّر وظائفه، بدت نظريات غالتون أكثر بُعداً عن معطيات العلم.

ومن دون خوض في تفاصيل علميّة معقدة، من المستطاع القول إنه ليس مجدياً صوغ مقولات جامدة عن الصفات المركّبة التي تناولها غالتون من جهة، والتفاعل المعقد بين البيئة والحمض الوراثي من الجهة الأخرى. في مثل تلك الأحوال، ربما يكون الأكثر جدوى هو النأي بالنفس والعقل عن سؤال يفتقر إلى صيغة علميّة متماسكة. ومع الإعراض عن الأسئلة غير المجدية، يصبح ممكناً التقدّم صوب إعطاء إجابات عن الأسئلة المجدية بمعنى أنها تلك التي تستند إلى معطيات علميّة كافية.

وبالعودة إلى علم الـ"إبيجينتكس"، من المستطاع القول إنّ إحدى خلاصته الأساسية تتمثل في أن الحمض الوارثي (أو الجينوم) يشكّل عنصراً فاعلاً بمقدار موازٍ لكونه عنصراً متأثراً. وبقول آخر، يمثّل الجينوم سبباً بمقدار كونه نتيجة. واستطراداً، ليس علمياً التفكير في تأثير قطعة معينة من الحمض الوراثي (= جين معين) على تطوّر الإنسان، من دون التعمّق في تقييم البيئة التي تحيط بالكائن كله، بداية من العناصر البيئية التي تؤثر في الخلية ووصولاً إلى المحيط الاجتماعي والثقافي الذي يحيا فيه الكائن ككل.

ليس الأمر مجرد تنظير. لننظر إلى موضوع البدانة مثلاً. بات معروفاً أن الإنسانية شهدت تصاعداً في معدلات البدانة لم تعرفه خلال تاريخها كله. ومن الواضح أن تلك الزيادة لم تحدث بتأثير تبدّل في الجينات (ليس على طريقة داروين وغالتون)، لكن يصح القول أيضاً بوجود مكوّن وراثي قوي التأثير في البدانة. إذ تصح الإشارة إلى أن الوزن الزائد ينتقل عبر الأجيال في العائلات، وذلك ما حفز البحوث التي سعت إلى اكتشاف "جين البدانة"! وسرعان ما تبيّن أن ذلك المسعى لا طائل منه. وحاضراً، نعلم أن هنالك مؤثّرات تتفاعل مع "المفاتيح الجينيّة" (التي يدرسها الـ"إبيجينتكس"، ويمكن الإشارة إليه أيضاً باسم "علم التخلّق") في فترة ما قبل الولادة وما بعدها مباشرة، وتؤثر في البدانة. وأثناء تلك الفترة (بالأحرى، النافذة الزمنية)، يكون للوفرة الفائضة في السعرات الحرارية أو شحّتها الشديدة، تأثير كبير في ظهور البدانة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مجموعة من أمراض القلب والسكري من النوع الثاني (= "سكري البالغين").

وفي ذلك الصدد، صار ممكناً الآن التعرف إلى التغيّرات المتصلة بـ"المفاتيح الجينيّة" (= عناصر التخلّق) المؤثرة في البدانة. إذ إنها تعمل على ضبط عمليات حرق السعرات الحرارية في الجسم بالتوافق مع المستوى المحدّد للوزن فيه. هل لديك سخّان كهربائي في حمامك؟ عندما تصل الحرارة إلى المستوى الذي نحدده، يعمل "مفتاح" معين على فصل التيار الكهربائي (= "ثرموستات" بمعنى مثبّتْ الحرارة) عنه، كي تتوقف عمليات التسخين واستهلاك الطاقة. إذاً، تعمل "المفاتيح الجينيّة" كأنها "ترموستات" يوازن بين عمليات حرق السعرات الحرارية من جهة، والوزن "المُثَبّتْ" في الجسم من الجهة الثانية. إذاً، لنقل إن في الجسم يوجد "كالوري ستات" اقتباساً من تسمية "ثرموستات"! وبسبب تلك المعطيات، تكون البدانة مرضاً للوفرة والثراء وكذلك للشح والفقر.

في إطار تلك المشهدية، يُنظَرْ إلى البدانة المتناقلة عبر الأجيال والمتصلة بالفقر. لقد لوحِظَتْ أولاً في الأطفال الذين عانوا شُحاً في السعرات الحرارية أثناء تكوّنهم في أرحام أمهاتهم إبان "المجاعة الهولندية" في الحرب العالمية الثانية، تحديداً بين عامي 1944 و1945. يتمثّل المعطى الأساسي في ذلك الموضوع بأن "المفاتيح الجينيّة" في أولئك الأطفال تأثّرت بشح السعرات أثناء فترة الحمل والولادة وما بعدها مباشرة، وصارت مؤهلة لأن تعمل على تعديل عمليات حرق السعرات الحرارية (عبر تأثيرها في الجينات التي تتحكم في تلك العمليات) كي تتناسب مع كل بيئة تكون كميات السعرات الحرارية (بالأحرى، الأطعمة) قليلة. ولكن، ما حدث في البيئة كان عكس ذلك تماماً، بمعنى أن "المجاعة الهولندية" انتهت، وترعرع أولئك الأطفال في بيئة توافرت فيها فوائض من السعرات الحرارية! في المقابل، كان الـ"كالوري ستات" في أجسامهم مُثبتاً عند مستوى الإقلال من حرق السعرات الحرارية وتخزينها. وكما نعرف، يخزّن الجسم السعرات الحرارية الفائضة على هيئة شحوم. وشكل ذلك آلية لبدانة فائضة في أولئك الأطفال في مسار حياتهم كلها.

ولعل الأمر الأكثر إثارة للدهشة يتمثّل في أن الأطفال الذين وُلِدوا من أطفال "المجاعة الهولندية" كانوا أكثر عرضة للبدانة أيضاً، ما يشير إلى أن "المفاتيح الجينيّة" المتأثرة بشح السعرات الحرارية في فترة الحمل والولادة وما بعدها مباشرة، قد انتقلت من جيل إلى جيل. وينطبق وصف مماثل على حالات عدّة من البدانة المتّصلة بالفقر، خصوصاً عندما تكون الطفولة غارقة في السعرات الحرارية الآتية من "ماكدونالدز" وأشباهها.

في مسار مختلف، قد تؤدي وفرة الأشياء الجيدة إلى بدانة تكون "المفاتيح الجينيّة" مدخلاً إلى برمجتها في الجسم. ويصح ذلك على البدانة المتّصلة بالوفرة. في تلك الحالة، يكون الـ"كالوري ستات" في الطفل مثبتاً عند مستوى أعلى من الطبيعي (بمعنى أنه يفوق ما تقتضيه ضرورات الحفاظ على بقاء الجسم واستمراريته)، بسبب الوفرة الزائدة للسعرات الحرارية، ما يجعل الجسم يتعامل مع تلك الوفرة باعتبارها حالة طبيعية.

ثمة منعطف آخر. إذ تتوجب الإشارة إلى أن تغيير الـ"كالوري ستات" في مراحل مختلفة من العمر، أمرٌ صعب جداً لكنه ليس مستحيلاً. يكفي النظر إلى بعض أولئك الذين يظهرون في برامج تلفزيونية عن البدانة والرشاقة (كبرنامج "الخاسر الأكبر") ليظهروا أنهم خسروا كثيراً من أوزانهم. إذ يسترد معظمهم ما خسروه ضمن فترات قصيرة نسبياً، ذلك أن الـ"كالوري ستات" لديهم مثبّت عند مستوى يتوافق مع بدانتهم.

في المقابل، يجدر تذكّر أن كثيراً من التغييرات التي تحدث لـ"المفاتيح الجينيّة" لا تكون ثابتة، بل يمكن التأثير في مساراتها وصولاً إلى دفعها إلى اتجاه معاكس تماماً. وتهتم بحوث معاصرة كثيرة بالطرق التي قد تتكفل بقلب مسار الـ"مفاتيح الجينيّة" المؤثرة في الجينات التي تتحكّم في مستوى حرق السعرات الحرارية. ولا ينفي ذلك ضرورة الإشارة إلى خطأ التفكير في تركيز بحوث جينات البدانة على "المفاتيح الجينيّة" بصورة حصرية. وفي المحصلة، تبقى المشكلة الرئيسة في البدانة متمثلة في دخول وفرة من السعرات الحرارية (الأكل الزائد) إلى الجسم، مع غياب ما يكفي من حرق تلك السعرات (الخمول البدني).

المزيد من آراء