Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"خطاب العبودية الطوعية" لـدى لا بويسي انتظر 500 عام قبل اكتشافه

الفرنسي النهضوي "موتزارت الفلسفة" يحلل سلطات الطغاة قبل فلاسفة القرن الـ20 بزمن طويل

إيتيان دي لا بويسي (1530 – 1563) وميشال دي مونتاني (1533 – 1592)  (اندبندنت عربية)

ملخص

من عجائب كتاب "خطاب العبودية الطوعية" للمفكر الفرنسي إيتيان دي لا بويسي أن مؤلفه أصدره وهو بعد في سن المراهقة. كان في الـ18 من عمره. صحيح أن لا بويسي لم يصدر سوى هذا الكتاب في حياته لكنه ترك كتابات شعرية وسياسية كثيرة لا تزال حتى اليوم في حاجة إلى أن تجمع وتدرس

هو كتاب اضطر للانتظار ما يقارب نصف ألفية من السنين قبل أن يعاد اكتشافه، وكتاب يدين للمفكر الفرنسي الإنساني مونتاني بالمكانة التي حاز عليها في تلك الأزمنة السحيقة وبالسمعة الطيبة التي حازها مؤلفه. ولكن جرب اليوم أن تبحث في الموسوعات الفلسفية والمدونات الفكرية التاريخية عن اسم إيتيان دي لا بويسي المؤلف الذي نتحدث عنه هنا وسبق أن أشرنا إليه مراراً بوصفه الصديق المخلص والمحب لمونتاني فإنك لن تجده، فإن وجدته ستجده مذكوراً فقط بوصفه صديق مونتاني الذي رحل عن عالمنا وعن صداقتهما وهو يلفظ أنفاسه بين يدي ذلك الصديق. ومن هنا عدت صداقتهما على مر الأزمنة واحدة من الصداقات الأكثر عمقاً التي قامت بين مفكرين حتى وإن كانت لم تدم سوى عاماً أو عامين انتهيا بموت لابويسي وهو بالكاد بلغ الـ33 من عمره. ولربما يعود تجاهل المراجع الفلسفية لهذا المفكر إلى ذلك الواقع الذي جعل حياته تنتهي في سن بالكاد يبدأ فيها المفكرون حياتهم كفلاسفة، بيد أن الأدهى من ذلك هو أن هذا المفكر الشاب كان فقط في الـ18 من عمره حين وضع كتابه الذي نتناوله هنا، كتاب "خطاب في العبودية الطوعية" فيما كان مونتاني حين قرأ مخطوطاً متداولاً له، وهو بالكاد بلغ الـ16 ولم يكن يعرفه لكنه سيقول لنا لاحقاً إنه منذ بلغ تلك السن وهو يحلم بالتعرف إلى مؤلف ذلك الكتاب، مضيفاً أن ما من كتاب أثر فيه خلال حياته ودفعه إلى الكتابة ولا سيما وضع "مقالاته" التي ستضحى لاحقاً أشهر كتبه، بقدر ما فعل كتاب لا بويسي. أما لماذا طال به الزمن قبل أن يلتقيه فأمر غير واضح مع أنهما ابنا منطقة واحدة غير بعيدة من مدينة بوردو في الغرب الفرنسي الأوسط.

صداقة عميقة وسريعة

لكنهما التقيا في نهاية الأمر حين كان الاثنان عضوين في برلمان مدينة بوردو وارتبطا من فورهما بتلك الصداقة التي باتت على مرور الزمن مضرب الأمثال، مع أنها لم تدم طويلاً كما أشرنا. ومهما يكن من أمر هنا لا بد أن نذكر أن لا بويسي لم يضع وقته بين إنجازه كتاب "خطاب في العبودية الطوعية" ورحيله المبكر مصاباً بوباء تفشى حينذاك خلال اندلاع المعارك الطائفية في فرنسا وغيرها من بلدان أوروبا. وهو لم يكن مقاتلاً في تلك الحروب بل كان على غرار مونتاني يخوض محاولات إصلاحية تهدئ من غائلة المتقاتلين. ونعرف أنه مات بين يدي صديقه الذي كان تعرف عليه أخيراً خلال عملهما معاً في برلمان بوردو وهو يوصي هذا الصديق بمتابعة رسالتهما في التوفيق بين المتقاتلين، انطلاقاً من فكرته الثابتة بأن الحروب لا تفيد أحداً وأن ما من أحد يخرج منتصراً من أية حرب. وهو على أية حال ما يمكن تلمسه بين سطور ذلك الكتاب الذي صدر في تلك الأزمنة لكنه كان ضحية تجاهل عام حتى عاد القرن الـ20 ليحييه من جديد، وبخاصة من خلال أفكار وتعليقات تمت إليه بصلات وثيقة نجدها لدى حنة آرندت خصوصاً في بحوثها الهائلة والتجديدية حول الأنظمة الشمولية، كما لدى عدد من المفكرين الذين أمعنوا في دراسة مسألة الحرية والعبودية التي تشكل جوهر كتاب لا بويسي.

فيلسوف في سن المراهقة

والحقيقة أن من عجائب هذا الكتاب أن مؤلفه أصدره وهو بعد في سن المراهقة. كان في الـ18 من عمره. صحيح أن لا بويسي لم يصدر سوى هذا الكتاب في حياته لكنه ترك كتابات شعرية وسياسية كثيرة لا تزال حتى اليوم في حاجة إلى أن تجمع وتدرس. ومع ذلك يبقى "خطاب في العبودية الطوعية" (1548) كتابه الأساس. ولعل الفكرة الأساس التي يعبر عنها الكاتب الشاب في هذا النص وتتسم بجرأة فكرية وتعد من أجرأ ما كتب هي تلك التي تقف بالتعارض مع مجمل ما كتبه المفكرون حول مسألة السلطة. فبالنسبة إلى لا بويسي ليس ثمة في العالم ولا في تاريخ العالم طاغية يحكم هكذا بمفرده ومن تلقائه. أي إن ما من طاغية يمكنه أن يستند إلى قوته وحده كي يمسك بالسلطة ويتمسك بها. فالحاكم من هذا النوع يحتاج دائماً إلى نوع من التواطؤ – ولو السلبي – الشعبي كي يحكم. وفي هذا السياق يبدو لنا واضحاً كيف أن هذا الكاتب النهضوي الذي عاش وفكر وكتب قبل خمسة قرون ونيف استبق باحثي القرن الـ20 الكبار ليبرهن على أن الناس (الجماهير، من دون أن يسميها كذلك) هي التي تترك نفسها فريسة للاستعباد "قابلة لتنحر من أعناقها إن لم تقم هي بذلك". أي إنها وبكلمات أخرى تسلم قيادها للطغاة راضية بأن يستعبدوها من خلال نسجها وبأيديها شبكات من العلاقات القائمة على الاستعباد الذي يصفه المؤلف بكونه "استعباداً طوعياً" أي إن تلك "الجماهير" تلف أعناقها بنفسها بتلك الأغلال التي تسلم مفاتيحها للطاغية يتحكم بها كما يشاء.

القامع والمقموع

في مثل هذه المنظومة التي تتنافى حقاً مع إنسانية الإنسان جاعلة إياه أقرب إلى الحيوان "مع أن الحيوان لا يسلم حريته طوعاً لأحد" كما سيقول مونتاني معلقاً على كتاب لا بويسي، في مثل هذه المنظومة تتلاشى الفوارق تماماً بين القامع والمقموع إذ يضحي كل فرد مضطهداً (بكسر الهاء) ومضطهداً (بفتحها) في الآن معاً ضحية ومتواطئاً. "غير أن هذا الواقع ليس بأية حال من الأحوال قدراً مطلقاً" وذلك بالتحديد لأن "حصول الإنسان على الحرية إنما يبدأ مع رغبته الذاتية في الحصول عليها". أما إذا كان هو نفسه لا يرغب بها فسيكون اختار ما يجب أن نسميه العبودية الطوعية. وهذه العبودية هي السلاح الأقوى في يد الطغاة. السلاح الذي يعطيهم تلك القوة التي تمكنهم وغالباً من دون أن يبذلوا كثيراً من الجهود في التغلب على تلك الأقلية الواعية، التي تجعل من الحصول على الحرية تحقيقاً لرغبتها فيها على العكس من الأكثرية التي عادة ما تختار راحة العبودية وسهولتها. ومن هنا يكون على هذه الأقلية التي تدرك الجوهر الحقيقي لإنسانيتها وتفهم معنى الحرية أن تحارب الطاغية، لكنها لا تحارب في نهاية الأمر سوى تلك القوى التي تحمل سلاح الطاغية مدافعة عنه وتحديداً ضد الأقلية من أصحاب الوعي، الأقلية التي أخذت على عاتقها تحرير تلك الأكثرية من عبوديتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

شرعية الملوك تعفيهم من الطغيان

وفي هذا السياق قد لا يكون مفر من أن نلاحظ كيف أن لا بويسي يفرق بين الطغاة الديكتاتوريين والملوك بصورة عامة، مؤكداً أن الملوك ليسوا بالضرورة طغاة وذلك انطلاقاً إما من مشروعيتهم الإلهية وإما من خلال أبويتهم للأمة، وأكثر من ذلك انطلاقاً من واقع أنهم قلة الملوك الذين يصلون إلى السلطة من طريق العنف والقوة ضد الشعب أو من خلال استعباده بالقوة أو طوعياً. وبقي أن نذكر هنا أن إيتيان دي لا بويسي (1530 – 1563) يبدو في كتابه مستبقاً ما حدث في العالم خلال القرون الخمسة التي تلت مروره على هذا العالم ووضعه كتابه المبكر الذي احتاج لانتظار كل تلك القرون، قبل أن يعاد إليه اعتباره حتى من قبل مفكرين كبار نسوا أن مؤلفه كان حين كتبه في الـ18 من عمره! وهو ما يبرر تلقيبه لاحقاً بـ"موتزارت الفلسفة". وهو ولد في منطقة البيريغور، نفس منطقة مونتاني، متحدراً من عائلة بورجوازية تسير بخطوات حثيثة على درب النبالة. وشغل لاحقاً منصب مستشار في برلمان مدينة بوردو وعرف كمثقف كبير. وهو تتلمذ على أية حال على يدي رجل دين متنور ارتبط به مونتاني بدوره وربما كان هو من قدمهما لبعضهما بعضاً ورعى صداقتهما، بل شجعهما معاً على التجاوب مع ما طلبته السلطات منهما من القيام بجولات غايتها التخفيف من حدة الصراعات المذهبية. ولقد حقق لا بويسي دراساته العليا في باريس حيث نال إجازة في الحقوق مكنته من خوض العمل السياسي، الذي دأب عليه نشاطاً عملياً وكتابات حتى أيامه الأخيرة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة