ملخص
كما أننا لا نتوقع مرونة كبيرة من قبل المرشد الأعلى والمتشددين إزاء السياسات الخارجية والداخلية التي يحاول بزشكيان إصلاحها
أحد الأبعاد البارزة التي أفرزتها نتائج الدورة الـ14 من الانتخابات الرئاسية في إيران، انشطار البلاد إلى فسطاطين رئيسين الفرس وغير الفرس. وأدت هذه الانتخابات التي تمت بين مسعود بزشكيان التركي- الأذري الإصلاحي وسعيد جليلي الفارسي المتشدد إلى مقاطعة نحو 40 في المئة من المؤهلين للتصويت في الجولة الأولى ونحو 50 في المئة في المرحلة الثانية منها، وهي المشاركة الأدنى قياساً بالانتخابات التي شهدتها إيران خلال الأعوام الـ45 من عمر الجمهورية. منذ الانتخابات الرئاسية التي صعد فيها محمد خاتمي إلى دفة الحكم عام 1997 ونحن نشهد تأثير القوميات غير الفارسية في الانتخابات الرئاسية المتتالية، غير أن ما يميز الانتخابات الأخيرة أن هذه المرة كان ختم القوميات على الانتخابات بارزاً جداً.
القوميات والانتخابات خلال العقود الثلاثة الماضية
في الدورة السادسة للانتخابات الرئاسية عام 1993 قاطع نحو 50 في المئة من الإيرانيين العملية الديمقراطية التي شارك فيها أربعة مرشحين وهذا يماثل ما شاهدناه خلال الانتخابات الرئاسية عام 2024، إذ صوت إقليم كردستان لمصلحة أحمد توكلي وهو المرشح الوحيد الذي كان ينتقد سياسات هاشمي رفسنجاني. فيمكن أن نصف ما قام به الشعب الكردي في تلك الظروف المشفوعة بالاختناق السياسي والأمني وفقدان وسائل التواصل الاجتماعي، بأنها كانت مفاجأة ومعارضة لهاشمي رفسنجاني، الرجل القوي في البلاد آنذاك ومنافس أحمد توكلي والذي فاز في النهاية على توكلي، غير أن التاريخ سجل تلك المعارضة باسم كردستان.
عام 2005 رشح محسن مهر علي زادة، وهو تركي- أذري، نفسه للانتخابات الرئاسية في إيران، لكن على رغم فشله أمام محمود أحمدي نجاد استطاع أن يحصد أصوات إقليم أذربيجان، أي محافظتي أذربيجان الشرقية والغربية ومحافظتي أردبيل وزنجان، أكثر من أي مرشح آخر. فخلال العقد الأخير لم ينحصر تأثير الشعوب غير الفارسية في الانتخابات الرئاسية فحسب، بل شاهدناه حتى ضمن الانتفاضات والاحتجاجات الواسعة التي شهدتها إيران خلال 2017 و2019 و2022 وكادت أن تطيح الأخيرة بالنظام في البلاد.
الفجوة بين الفسطاطين
تؤكد نسبة نحو 60 في المئة من المقاطعة الشعبية في الجولة الأولى وكذلك الذين صوتوا لمسعود بزشكيان في الجولة الثانية، أن زهاء 80 في المئة من الإيرانيين يعارضون المرشد الأعلى علي خامنئي وحلفاءه المتشددين في السلطة، وهذا ما أجهروا به خلال التظاهرات والاحتجاجات الدامية في العقد الأخير. ويعود الدور البارز والحاسم في الانتخابات الأخيرة وفوز مسعود بزشكيان فيها للأقاليم غير الفارسية والأتراك الأذريين خصوصاً، والسبب يرجع إلى بزشكيان نفسه الذي تكلم عن اضطهاد الأكراد والبلوش والعرب في إيران "فيما يتم سحب الغاز والنفط من تحت أقدامهم"، بل أعلن من دون خجل، أنه تركي وتحدث باللغة التركية- الأذرية في حملته الانتخابية، خلافاً للمرشد الأعلى علي خامنئي ورئيس الوزراء السابق والمرشح لانتخابات رئاسة الجمهورية مير حسين موسوي وسياسيين آخرين كبار لم يعلنوا عن إثنيتهم التركية جهاراً ولم يتحدثوا عن التمييز الذي يعانيه الأتراك والأكراد والعرب والبلوش في إيران.
وعاشرت كثيراً من الكتاب والصحافيين وتعرفت إلى عدد من السياسيين يعتبرون أنفسهم تقدميين غير أنهم يستنكفون عن التعاطف مع العرب والأتراك، بل يشمئزون من استخدام مفردة "عرب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد صوتت مدينة الأحواز العاصمة لمصلحة بزشكيان في الجولتين الأولى والثانية، فيما هناك اختلاف حول تصويت كل إقليم الأحواز، إذ تتحدث المواقع والوكالات الإيرانية عن زيادة أصوات بزشكيان على جليلي في الإقليم لكن وكالات المحافظين تؤكد عكس ذلك، وبحسب وكالة "فارس" القريبة من الحرس الثوري، اعتبر حاكم الأحواز الأمر سرياً ولم يعلن نتائج الانتخابات الرئاسية في الأحواز على الملأ، ويبدو أن السلطة لا تريد إظهار مسعود بزشكيان كفائز في كل المناطق غير الفارسية كي لا تقدم صورة منسجمة وشاملة تؤكد تصويت كل الأقاليم غير الفارسية لمسعود بزشكيان. في الحقيقة صوتت أقاليم أذربيجان وكردستان وكرمنشاه وبلوشستان والأحواز، أي الفسطاط غير الفارسي لمصلحة بزشكيان، فيما صوتت معظم المناطق الفارسية في إيران لمصلحة المرشح المتشدد سعيد جليلي، مما يعني أن الفسطاط الفارسي يريد الحفاظ على الوضع القائم ويرفض أي تغيير يمكن أن يصب لمصلحة القوميات غير الفارسية. فهنا تنشطر إيران إلى فسطاطين اثنين، وهذا الانقسام سيشكل منصة قفز للأتراك بالدرجة الأولى والشعوب الأخرى في الدرجة الثانية في صراعها مع الخطاب الفارسي المهيمن على السلطة الإيرانية.
إذا تمعّنا في عدد أصوات الفائز مسعود بزشكيان والخاسر سعيد جليلي نرى أن هناك تفاوتاً يصل إلى مليوني و846 ألف صوت على مستوى إيران، وكذلك نرى أن عدد أصوات إقليم أذربيجان (محافظتا أذربيجان الشرقية والغربية ومحافظة أردبيل وزنجان) وغالبيتهم من الأتراك، يبلغ مليوني و860 ألف صوت، وإذا لم يصوت هؤلاء الأتراك لابن جلدتهم بزشكيان فكان سعيد جليلي فاز في الانتخابات الرئاسية. أضف إلى ذلك أصوات الأتراك القشقائية بمحافظة فارس في جنوب إيران وأتراك خراسان في شمال شرقي إيران التي كانت لمصلحة بزشكيان، أي إن العامل الذي حسم فوز مسعود بزشكيان لم يكُن الإصلاحيين بل الأتراك في إيران ولو لم يصوت له الأتراك لفاز سعيد جليلي بكل تأكيد. ويعتبر الأتراك في إيران الذين يشكلون نحو ثلث سكان البلاد، فوز بزشكيان إنجازاً تاريخياً لهم بعد قرن من سقوط السلالة القاجارية- التركية على يد الشاه رضا بهلوي المحسوب على القومية الفارسية. وأثار هذا الفوز حفيظة الملكيين والقوميين الفرس الذين بدأوا يشعرون بالخطر من الزحف التركي- الأذري على سلطتهم السياسية والثقافية واللغوية على إيران المتعددة القوميات والأعراق. غير أن العنصر الفارسي المتمثل في الإصلاحيين ذوي الخبرة التكنوقراطية هو الذي يحاصر بزشكيان ويستطيع أن يؤثر فيه أكثر من العنصر التركي، كما أننا لا نتوقع مرونة كبيرة من قبل المرشد الأعلى والمتشددين إزاء السياسات الخارجية والداخلية التي يحاول بزشكيان إصلاحها، وستظهر المئة يوم الأولى أو الأشهر الستة الأولى لرئاسة بزشكيان مدى تمسكه بوعوده التي قطعها للشعوب غير الفارسية وأهل السنة والنساء، ومن المؤكد أن عدم تحسن الوضع الاقتصادي للجماهير واستمرار التصلب في العلاقات مع الغرب والولايات المتحدة سيمهدان لاحتجاجات وتظاهرات واسعة في المستقبل وربما مواجهة مع الولايات المتحدة إذا فاز فيها دونالد ترمب.
وفي المحصلة يمكن القول إن الدورة الـ14 للانتخابات الرئاسية أكدت الفجوة بين الأتراك والفرس أو بالأحرى بين الفرس وغير الفرس والتي ستتسع مستقبلاً بسبب أي طريق مسدود تصل إليه إيران، إذ أشار عالم الاجتماع الإيراني وأستاذ علم الاجتماع في جامعة بهشتي بطهران أحمد شكرجي إلى الجذور الاقتصادية لهذه الفجوة بقوله "إذا نظرنا إلى الأطلس الجغرافي للإيرانيين نشاهد أنه قائم على أساس السياسات الهووية أو بالأحرى أننا نرى أعلى مستوى للرفاه في إيران بين الرجال من الشعب الفارسي المدني الشيعي وأقل مستوى للرفاه بين النساء من الشعب البلوشي القروي السني".