ملخص
سيذكر دايسون دائماً بفضل مكانسه الكهربائية، لكن بالنسبة إلى كثيرين فإن دوره في بريكست هو الذي سيثير الاستياء منه دائماً. ويرى البعض أن إيمانه الراسخ بالسيادة وقدرة بريطانيا على التفوق بصورة مستقلة مشوب بالمصلحة الذاتية التجارية على رغم قناعاته الحقيقية
السير جيمس دايسون رجل رائع. يبلغ من العمر 73 سنة ولا يزال نشيطاً. هو أغنى شخص في بريطانيا، إذ تبلغ ثروته الصافية نحو 16 مليار جنيه استرليني (20.65 مليار دولار). وللمقارنة تبلغ ثروة بيل غيتس نحو 10 أضعاف ذلك الرقم، لكن الرقم لا يزال لا بأس به لابن مدير مدرسة عامة في نورفولك لم يملك ثروة كبيرة يبدأ بها. وأصبح اسم ماركة دايسون الآن مرادفاً للتنظيف بالمكنسة الكهربائية من دون جهد، ويمكن التعرف عليه على الفور مثل ماركة "هوفر"، وهو بمثابة كلمة مرادفة للابتكار البريطاني.
عندما ضربت جائحة كورونا وأدركت الحكومة بقيادة بوريس جونسون أنها لا تملك ما يكفي من أجهزة التنفس الاصطناعي للتعامل مع عدد الحالات، دب فيها الذعر. وبصفته المهندس والمصمم البريطاني "المقصود" و"القادر" طلب من دايسون مد يد المساعدة، فوافق على الفور.
وتواصل مع السلطات حول صنع تصميم جديد لأجهزة التنفس الاصطناعي باستخدام تكنولوجيات شركة "دايسون" الحالية وسلاسل إمداد المكونات الخاصة بها، وبالشراكة مع شركة "جاي سي بي" JCB وشركة "تي تي بي" TTP للهندسة العلمية في مدينة كامبريدج، تبلورت قصة نجاح بريطانية أخرى متعاطفة مع بوريس جونسون. ومع ذلك واجه المشروع مشكلة مبكرة حول ما سيحدث إذا بقي دايسون وفريقه في المملكة المتحدة لفترة أطول مما خططا له، بعيداً من عمليات الشركة في سنغافورة وماليزيا.
إذا فعلوا ذلك كانا سيخضعان إلى ضرائب (أعلى) في المملكة المتحدة. ومع بطء الحل البيروقراطي لجأ دايسون إلى رئيس الوزراء آنذاك مباشرة. وباعتباره "لورد الخزانة الأول" [وهو اللقب الذي يحمله رئيس الوزراء البريطاني]، ذكر أنه "سيصلح الأمر". وفي الوقت المناسب علق وزير الخزانة آنذاك ريشي سوناك قواعد الإقامة المعتادة ذات الصلة بخضوع المقيم إلى الضرائب البريطانية. ثم علمنا بعد ذلك أن رئاسة الوزراء ومسؤولي الخزانة ربما لم يكونوا على دراية بتفاصيل ممارسة الضغط، على رغم أن أية مخالفة ربما لم تحصل في ذلك الوقت، وأصر بوريس جونسون في ذلك الوقت على أنه كان يحاول فقط بذل قصارى جهده من أجل الحصول على أجهزة التنفس الاصطناعي هذه، وهو جهد أشار إليه ذات مرة، في صورة غير لائقة باسم "عملية النفس الأخير".
وهناك طريقتان للنظر في الأمر. ويمكن الجدل بأن دايسون لم يكن مضطراً إلى تحويل موارد شركته وإنفاق أمواله الخاصة مقابل عوائد مالية غير معروفة وكان يطلب إعفاء ضريبياً موقتاً بينما كان هو وفريقه يعملون على إنتاج أجهزة التنفس الصناعي التي تشتد الحاجة إليها بسبب الجائحة. بدلاً من ذلك، قد يرى البعض أن أفعال دايسون كانت مدفوعة بالجشع المفرط. باعتباره مؤيداً لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومليارديراً يتمتع بترتيبات مالية خارجية تحميه قانوناً من بعض الضرائب، فقد ينظر إلى طلبه للحصول على مزيد من المزايا المالية سلباً. علاوة على ذلك فإن تحالفه مع حملة بريكست التي قادها بوريس جونسون وهو العضو في حزب المحافظين قد يشير إلى محاباة، على رغم أن مؤهلاته كرجل صناعي لا يمكن التشكيك فيها.
وفي النهاية، ونظراً إلى العملية المطولة للحصول على موافقة من وكالة تنظيم العقاقير ومنتجات الرعاية الصحية وتحسن الوضع الناجم عن الجائحة بصورة أفضل من المتوقع، لم يتم تصنيع جهاز التنفس الاصطناعي "دايسون كوفنت" أبداً ولم يستخدم "الإعفاء الضريبي" الذي وعد به جونسون وأنجزه سوناك، أقله من قبل دايسون وشركائه.
وعلى رغم الجهود المكثفة التي امتدت لمدة 30 يوماً فإن النتيجة لم تثمر أي شيء. وقال دايسون في ذلك الوقت "نما الفريق بسرعة، وفي النهاية شارك نحو 450 شخصاً فيه وعملوا في أنحاء المملكة المتحدة وسنغافورة كلها حتى نتمكن من تحقيق دورات عمل على مدار 24 ساعة، والاستفادة مما لدينا من سلاسل إمداد ومعرفة عالمية. وكان فريقنا الهندسي في سنغافورة يعمل بينما كان فريقنا في المملكة المتحدة ينام والعكس بالعكس، لكن أيام العمل ما انفكت طويلة وكثيراً ما امتدت حتى أوقات متأخرة من الليل".
وفي النهاية، استثمر دايسون 20 مليون جنيه استرليني في المشروع من دون الحصول على أي تمويل من دافعي الضرائب البريطانيين. وقد يبدو هذا المبلغ ضئيلاً نظراً لثروته وبخاصة بالنظر إلى شطب 500 مليون جنيه استرليني عندما أوقف مشروع سيارته الكهربائية. ومع ذلك فقد كانت تلك بادرة وطنية في عصر أصبح فيه المصرفيون والشركات العالمية "الداعون إلى العولمة"، بما في ذلك أولئك الذين يشرفون/ يدمرون كرة القدم، ينظر إليهم باحتقار أكثر من أي وقت مضى.
وفي حين أن المقر الرئيس لشركة دايسون "دايسون المحدودة" لا يزال في سنغافورة، لا يزال منزله الرئيس في دودنغتون بارك وهو عقار مترامي الأطراف يعود إلى العصر الجورجي (بين عامي 1714 و1837) وتبلغ مساحته 300 فدان (1.2 كيلومتر مربع) في غلوسترشاير بإنجلترا، ويبدو أنه كبير بما يكفي لاستيعاب 18 ألف منزل عادي الحجم. وثمة أيضاً قصر في فرنسا وبيت ريفي في تشيلسي. ويعد يخته "نهلين" الذي يبلغ طوله 300 قدم (91.44 متر) بمثابة منصة عائمة. وباع شقة علوية (Penthouse) بقيمة 50 مليون دولار في سنغافورة قبل بضعة أعوام، بخسارة كما اتضح: يربح المرء هنا، ويخسر هناك.
ودايسون متزوج من ديدري (هندمارش قبل الزواج) منذ عام 1968 ولديهما ثلاثة أطفال بالغين سيعيشون الآن في مكان أقرب إليهما، ورثوا جميعاً مواهب ريادة الأعمال. فالابنة الكبرى إميلي تدير متجراً اسمه "كوفرتور" في تشيلسي. وجايك يصمم إضاءات للجدران والأرضيات ويبيعها. ويملك سام استوديو تسجيل ويديره وهو عازف الغيتار الرئيس في فريق "ذا كيميستس" (الذي تبرز موسيقاه في تغطية شبكة "سكاي الرياضية" للرغبي وكرة القدم). واستفاد الثلاثة من هدية بقيمة 15 مليون جنيه قدمها والدهم ربما لأغراض ضريبية، وتزويدهم ببداية قوية في الحياة والتي يمكن القول إنها أفضل من بدايته.
ويعزو دايسون كثيراً من اندفاعه وتصميمه إلى فقدان والده أليك مدرس الكلاسيكيات في مدرسة غريشامز ببلدة هولت بسبب سرطان الرئة والحنجرة، عندما كان عمره تسع سنوات فحسب. ويقول دايسون "عدم وجود أب، وبخاصة في ذلك الوقت كان أمراً غير عادي أبداً. وشعرت بأنني مختلف وكنت بمفردي. ولا أستطيع أن أشرح ذلك تماماً لكنني أعتقد أنني أحسست لا شعورياً بالحاجة إلى إثبات نفسي. ما يقارب 80 في المئة من رؤساء الوزراء البريطانيين منذ والبول (روبرت والبول 1676-1745 رجل دولة بريطاني تولى السلطة بين عامي 1721 و1742، ويعد عموماً أول رئيس وزراء بريطاني) فقدوا أحد الوالدين قبل سن العاشرة. لذلك ثمة شيء ما في ذلك. وبالتأكيد أنا أحظى بدفع. كذلك أخبر أحد المحاورين بأن الفترة التي قضاها في المدرسة الداخلية كانت "قاسية" إلى حد ما "'المشاعر' كلمة لم أكن أعرفها حتى أصبح عمري نحو 50 سنة". ولربما تعلم المثابرة من الجري لمسافات طويلة أيضاً.
وأحب الفن ولبى شغفه في مدرسة بيام شو للفنون ثم الكلية الملكية للفنون في ستينيات القرن العشرين، إذ افتتن بالتصميم ثم الهندسة. وعلى ما يبدو استلهم في البداية من المصمم والمهندس المعماري الأميركي الغريب الأطوار آر باكمينيستر فولر الذي اخترع القبة الجيوديسية (هيكل قشري خفيف ذو شكل كروي)، في وقت لاحق استلهم أكيو موريتا المؤسس الرائد لشركة "سوني" ووالد جهاز "ووكمان".
وأثناء دراسته الجامعية وجد دايسون مرشداً في جيريمي فراي سليل عائلة فراي المصنعة للشوكولاتة ومالك شركة تصميم صناعي. وفراي المعروف بأسلوب حياته المتحرر وصداقته مع أنتوني أرمسترونغ جونز كان من المقرر في البداية أن يكون الإشبين، في حفل زفاف أرمسترونغ جونز على الأميرة مارغريت أخت الملكة الراحلة إليزابيث عام 1960، قبل أن تلفت مغامراته الجنسية انتباه القصر وتعترض على ذلك.
وإذ كان فراي حراً في تفكيره كما في علاقاته الجنسية، كان فراي الثري ذو العلاقات الجيدة هو الذي أعطى دايسون أول مهمة له،تصميم "الشاحنة البحرية"، وهي نوع من قوارب الإنزال الصغيرة. وكان هذا المشروع مثالاً متواضعاً على طفرة الابتكار التكنولوجي البريطاني في ستينيات القرن الماضي، التي ترمز إليها سيارة "ميني" الأصلية الثورية والحوامة وطائرة "كونكورد" وطائرة "هوكر هارير النفاثة". ونجح دايسون في هندسة "الشاحنة البحرية" وتولى مهمة الترويج لها معتمداً على فهمه العميق لتعقيداتها وحماسته الحقيقية للمنتج، تماماً مثل ستيف جوبز.
وبحلول عام 1972 كان دايسون يعرض مركبته الغريبة على الجميع من البحرية المصرية إلى شاب يهرب السجائر الأميركية إلى إيطاليا. والآن وكما كانت الحال آنذاك لا يزال شخصاً ودوداً. وقال لصحيفة "نيويورك تايمز":، "لم أكن أبدو كرجل أعمال أو أي شيء. كنت أرتدي سروالاً فضفاضاً وكان شعري طويلاً وقمصاني مزهرة، لكنني أنشأت الشركة والتصنيع وروجت لهما لخمسة أعوام.
وأضاف "الجوهر هو هذا، تخيل طالب فنون ذا شعر طويل... يطلب منه تصميم شيء لا يعرف عنه شيئاً. ثم يطلب منه إنشاء شركة لم يكن يعرف عنها شيئاً. هذا ما أفعله اليوم مع الموظفين لدي. أحاول توظيف الخريجين في مختلف الأدوار، فهم لا يحملون تجارب سابقة ويتمتعون بالحماسة والفضول". هذا النوع من الروح كان جونسون و(كبير مستشاريه) دومينيك كامينغز يحاولان غرسه خلال شراكتهما القصيرة في رئاسة الوزراء، وقبل أن يتهم كامينغز من قبل رئيسه القديم بتسريب محادثات نصية مع دايسون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد "الشاحنة البحرية" قدم دايسون عربة اليد وهي عربة يدوية أكثر مرونة تتميز بوجود كرة بدلاً من العجلة، وعرضت في برنامج "عالم الغد" التلفزيوني. ثم جاء أول انخراط لدايسون مع المكنسة الكهربائية المنزلية التي كرهها كثيراً إلى درجة أنه أزال أكياسها واستبدل بها مخروطاً من الورق المقوى. وإذ لاحظ كيف تزيل الأجهزة الدوامية الغبار والمخلفات في المناشر وورش الأسمنت، حاول تصغير العملية. وبطريقة ما حصل على نحو مليوني جنيه – يساوي المبلغ أكثر بكثير بأسعار اليوم – من مصرف لتمويل أنشطته "أعتقد أن البنك تدخل بصورة أعمق مما كان ينوي، ولكن كان لدي مدير بنك مثير للاهتمام. سألته لماذا أقرضني المال، فقال ذهبت إلى المنزل وقلت لزوجتي ’ما رأيك في أكياس المكانس الكهربائية، والمكانس الكهربائية‘ فقالت ’مريعة، مريعة‘".
صنع خمسة آلاف و127 نموذجاً أولياً للمكنسة الكهربائية قبل أن يتوصل إلى النموذج الصحيح ويبدأ ببيع طراز "جي-فورس" عام 1983 من خلال الطلب البريدي والكتالوغات. وحقق نجاحاً كبيراً في اليابان الصديقة للتكنولوجيا، وبعض المبيعات في الولايات المتحدة قبل أن يؤسس شركة "دايسون المحدودة" عام 1991 ويبدأ في صنع المكنسة والترويج لها بنفسه، رفع الشعار الدعائي "ودعوا الكيس". وحقق الاختراع له شهرته وثروته، وجعل كثيرين من أصحاب المنازل أكثر سعادة. ومنذ ذلك الحين طبقت التقنيات والعناصر الأساس بنجاح متفاوت لصنع منتجات حملت العلامة التجارية "دايسون" من غسالات، ومراوح ومكانس كهربائية لا سلكية ومكانس كهربائية روبوتية ومجففات شعر ومصففات شعر، وتلك السيارة الكهربائية التي تعمل ببطاريات صلبة وتسير لـ600 ميل (966 كيلومتراً) لكل شحنة، على رغم أنها غير عملية تجارياً. وفي الوقت الحاضر ينصب تركيزه على الروبوتات المنزلية وتعزيز المنازل الصحية، والذكاء الاصطناعي، والتطبيقات غير المنزلية.
وسيذكر دايسون دائماً بفضل مكانسه الكهربائية، لكن بالنسبة إلى كثيرين فإن دوره في بريكست هو الذي سيثير الاستياء منه دائماً. ويرى البعض أن إيمانه الراسخ بالسيادة وقدرة بريطانيا على التفوق بصورة مستقلة - مردداً طريقة دايسون - مشوب بالمصلحة الذاتية التجارية على رغم قناعاته الحقيقية، كما أثبت موضوع اللقاحات. وفي أواخر تسعينيات القرن الماضي دعا دايسون إلى تبني المملكة المتحدة عملة اليورو، وفي ذلك فقدان نهائي للسيطرة الاقتصادية. لكن خلال تلك الأعوام حافظ دايسون على التصنيع والتوظيف في المملكة المتحدة، إذ لعبت السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي دوراً حاسماً في أعماله. وكان دايسون رمزاً لنجاح التصنيع البريطاني.
وبعد بضعة أعوام نقل الإنتاج إلى ماليزيا البلاد ذات الكلفة المنخفضة والأقرب بكثير إلى الأسواق النامية في شرق آسيا، بسبب مشكلات في الحصول على إذن تخطيطي للتوسع في ويلتشاير، فضلاً عن ارتفاع الأجور وقوة الجنيه. وفي الوقت المناسب بعد التصويت على بريكست نقل المقر الرئيس لشركة "دايسون" إلى سنغافورة، مما عده مؤيدو بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي ومناصرو خروجها منه على حد سواء منافقة وخيانة.
صحيح أن عملية بحث وتصميم رئيسة أبقيت في المملكة المتحدة، وأن أعمال دايسون الخيرية المستنيرة في جامعة كامبريدج وأماكن أخرى لا تزال مصالح مهمة، لكن على غرار تلك المكانس الكهربائية القديمة وأكياسها يبدو زخم علامته التجارية الشخصية أقل قوة مما كان عليه.
ومن غير المرجح أن تساعد في تعزيز الزخم الأخبار الواردة هذا الأسبوع حول إلغاء شركة "دايسون" ما يصل إلى ألف وظيفة في المملكة المتحدة، مما يقلل من قوتها العاملة في المملكة المتحدة بأكثر من الربع. وقال هانو كيرنر الرئيس التنفيذي لشركة "دايسون" في بيان، إن إلغاء الوظائف كان نتيجة لمراجعة الشركة لهياكلها العالمية واستعدادها للمستقبل.
لو انتشرت أجهزة التنفس الاصطناعي الخاصة بدايسون في كل مكان في أجنحة العناية المركزة على غرار ما فعلت المكانس الكهربائية في المنازل، ربما بات الرجل الآن كنزاً وطنياً محبوباً عالمياً. لكن بينما يتركنا الآن السيد دايسون لنواجه فوضى بريكست العزيز على قلبه فيما ينقل أعماله إلى خارج المملكة المتحدة، علينا نحن الآخرون أن نعاني مرارة بريكست وحدنا.
© The Independent