ملخص
خطة السلام الروسية تسعى إلى فرض شروطها وفق فهمها الخاص للمعاهدات الدولية، وعلى هذا النحو فما تريده ليس مفاوضات بل فرض شروط استسلام.
قمة حلف الأطلسي (الناتو) التي انعقدت في واشنطن في الـ10 والـ11 من يوليو (تموز) الجاري شهدت احتفالية بمرور 75 سنة على تأسيس الحلف، واجتمع خلالها 32 دولة عضواً، فيما تركز البحث حول سبل مساعدة أوكرانيا في حربها ضد روسيا، وأعلن عن عدد من القرارات منها تزويدها بطائرات "أف 16"، التي ستنطلق هذا الصيف من السويد وهولندا، وصرف 42 مليار دولار لعام 2025. وأكدت الدول الأعضاء مواصلة دعمها بشتى الوسائل.
كما شهدت القمة أيضاً حضور دول المحيط الهندي والهادئ، وهي نيوزيلندا وكوريا الجنوبية واليابان وأستراليا. حزمة قرارات خرجت بها قمة "الناتو" وصفها المراقبون بأنها انزلاق نحو التصعيد وتأزم الوضع مع روسيا التي تواصل حربها على أوكرانيا بضربات جوية طاولت مستشفى للأطفال.
وغداة زيارتين للرئيس المجري فيكتور أوربان، الأولى إلى موسكو حيث اجتمع بالرئيس فلاديمير بوتين، والأخيرة إلى الصين حيث التقى خلالها الرئيس تشي جينبينغ، سارعت دول الاتحاد الأوروبي إلى نزع أية صفة أوروبية لهذه الزيارة، مؤكدة أنها لم تمنح الرئيس المجري أي تفويض رسمي خصوصاً أن بلاده تتولى رئاسة المجلس الأوروبي.
بدوره رد بوتين على قرارات القمة بالقول، "أن روسيا ستتخذ الخطوات المدروسة والمتناسقة والفعالة ضدها".
"اندبندنت عربية" حاورت أستاذ التاريخ العسكري في جامعة السوربون غيوم لاسكونجارياس، حول أجواء القمة وما تمخضت عنه.
تصعيد الخطاب
حول تعليق بوتين يرى غيوم لاسكونجارياس، أنه يدخل في باب التصعيد الخطابي وليس مستجداً، وبوتين يرد بصورة مستمرة على التصريحات التي تصدر عن دول الحلف بتصريح مماثل.
ويذهب المتخصص في التاريخ العسكري إلى أن الرئيس الروسي يركز في المقابل على استهداف القصف الروسي منذ أسابيع عدة المواقع المحتملة لنشر الطائرات التي ستتسلمها من النرويج وبلجيكا والدنمارك، وهذا يدل على تدابير وخطوات انتقامية منسقة. إضافة إلى نشره الإشاعات في الصحافة لحملة اغتيالات تستهدف شخصيات معينة لترويع المؤسسات التي تساند أوكرانيا، مما يعكس طبيعة التهديدات التي تتخذها روسيا والتي توفق بين قصف جوي ترافقه حملات مهجنة على الأرض تهدف إلى إضعاف الدعم الذي تقدمه الدول الغربية إلى أوكرانيا.
ولدى سؤاله عن مدى التغيير الذي ستحدثه الطائرات التي ستتسلمها أوكرانيا خلال الصيف، رأى أن هذا لن يغير الوضع على الأرض، فنظام الطائرات بحد ذاته لا يغير الوضع، إذ يجب الأخذ في الاعتبار على الدوام مسألة القدرة على التكيف، لأن الحرب عبارة عن علاقة جدلية متواصلة ما بين الدرع والسيف، وما يمكن أن تغيره طائرات "أف 16" بصورة جزئية، في حال كان عدد هذه الآليات كافياً ومرتفعاً، هو إمكانية إحداث تفوق جوي، وليس سيطرة كاملة على الأجواء. وشدد على الفارق الواضح ما بين "تفوق وسيطرة"، لمصلحة روسيا، فهو يوفر عليها استخدام طائراتها لتوجيه ضربات في العمق وفي مواقع قوات الدعم المتقدمة.
يوضح لاسكونجارياس من هذا المنطلق أن الطائرات الحربية يمكنها لعب دور، لكن المشكلة تكمن في العدد، وهنا أود التشديد على ذلك، إذ يبلغ عدد الطائرات التي وعد بها الحلفاء 100 طائرة في حين أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قدر حاجة بلاده إلى 120 طائرة في الأقل، إذاً هناك فارق بـ20 طائرة وهذا أمر حاسم.
ويشير إلى أنه "إذا ما عرفنا أن تسليم هذه الطائرات سيتم على مراحل تمتد حتى عام 2027 - 2028، فإن هذا يعني أن أمد الحرب سيطول".
واعتبر أن "هذه الدفعة تأتي متأخرة ولا ترد على الحاجات المباشرة. هناك نوع من عدم الرضا من الجانب الأوكراني، بخاصة أن الأمر لا يتعلق فقط بالطائرات بل هناك كل ما يتبع ذلك، تكوين الطيارين وقطع الغيار والصيانة والمدارج التي ستحط عليها هذه الطائرات. خلاصة القول أن النقاش يتعدى مسألة الحصول على الطائرات".
لكن هل يمكن اعتبار استهداف الطيران الروسي المدرجات دليلاً على عدم قدرة أوكرانيا على حماية المواقع الحساسة؟
يجيب لاسكونجارياس بأنه "من الصعب تمويه المطارات والمدرجات، والسؤال يحتمل عاملين أي قدرة أوكرانيا على حماية هذه المنشآت وارتباط القدرة بالخيار السياسي، وترتيب الأولويات، بالنسبة إلى المهام الموكلة إلى منظومات الدفاع الجوي، لتحديد ماذا عليها أن تحمي أولاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويذكر بأن قمة واشنطن كانت مناسبة للإعلان عن تسليم خمس بطاريات أنظمة دفاع جوي من طراز "باتريوت" ونظام إيطالي "أس أي 5 بي تي"، مما سيسهم في تدعيم حماية الأجواء والمنشآت، لكن ذلك لا يكفي بحسب رأيه.
تابع "خيار الأوكرانيين يتركز حول معرفة إن كان من الأهم حماية مولدات الطاقة، علماً أن نصفها بات خارج الخدمة، مما يضعف طاقتها على تحمل مجهود الحرب على المدى الطويل، أم أنه يجب حماية المدن؟ وكما نعلم أنه تم استهداف مستشفى الأطفال أخيراً. إذاً مسألة ترتيب أولويات لمعرفة ماذا نحمي أولاً مطروحة بصورة طارئة وحيوية".
أما عن حظوظ التوصل إلى حل دبلوماسي في أمد قريب، أو إن كانت هناك قنوات تواصل ومساع تبذل في هذا الاتجاه، يرى أنه "لا يمكن القول إن الأوروبيين لا يحاولون إيجاد حل دبلوماسي أو إنهم لا يسعون إلى حوار، أو إيجاد حلول دبلوماسية، هذا لا يمنع من الأخذ في الاعتبار احتمال أن يدوم النزاع لأشهر عدة وأكثر".
شروط انتهاء حرب
يشير أستاذ التاريخ العسكري إلى أن ما يقرر نهاية حرب هو توافر ثلاثة احتمالات، الأول عندما يقر أحد الطرفين بأنه لا يمكنه كسب الحرب فيستسلم. وفي رأيه خلال الوقت الحالي من غير الممكن تخيل أن تقبل روسيا أو أوكرانيا بهذا الطرح.
الاحتمال الثاني يكون بإعلان وقف إطلاق النار، أو هدنة تحت رعاية الأمم المتحدة، مع نشر قوات حفظ السلام "ولا أرى روسيا أو أوكرانيا ستقبلان هذا الحل". أما الاحتمال الأخير فيتمثل في إقرار هدنة لأسابيع عدة أو أشهر، وإنشاء منطقة عازلة كالتي تفصل بين الكوريتين، وهذا ليس وارداً. لذا أعتقد أن المعارك ستستمر وإذا استمرت يجب التفكير بالدعم الذي سنقدمه لأوكرانيا في هذا الإطار.
ويعد لاسكونجارياس أنه "من المهم التفكير على المدى الطويل بآليات الدعم وهذا ما تم عبر منح مجموعة (رامشتين)، آلية الدعم المعروفة بالاسم ذاته وكانت غير رسمية، فيما أضفى عليها الناتو الرسمية بتقنينها".
اتهام الصين بدعم روسيا
حول الانزلاق نحو التصعيد عبر اتهام الصين بدعم روسيا بصورة ممنهجة يقول أستاذ التاريخ العسكري إن "هناك اتهامات ولكن ذلك لا يعني أن الصين مستهدفة. والاتهام سبق أن وجهته الإدارة الأميركية في عام 2021 – 2022 لاستنكار ما تفعله بكين في أوروبا".
يضيف "نعرف أن الإمدادات والمساعدات التي تقدمها الصين إلى روسيا عبر شراء مواردها ونفطها، وعدم منع كوريا الشمالية من تسليم أسلحة وذخيرة إلى روسيا، لذا يمكن القول إن الصين لا تلعب دور التهدئة. إضافة إلى التدريبات التي تقوم بها في بيلاروس على بعد كيلومترات من الحدود البولندية، ولو كانت الصين تريد لعب دور التهدئة لما كانت تتصرف بهذه الطريقة".
بين معسكرين
يشير لاسكونجارياس إلى أن "الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يؤكد أن الأمر لا يتعلق بمواجهة بين معسكرين، ولتأكيد ذلك فإن جزءاً كبيراً من الحلفاء بخاصة الأوروبيين يرفضون منطق المعسكرات (البلوكات)، والأهم في الأمر هو عدم الانجرار إلى منطق ربما تسعى إليه كل الولايات المتحدة وبكين بهدف فرض الخيار التالي "إما أن تكون معي أو ضدي".
يضيف "الاتحاد الأوروبي وقسم كبير من الحلفاء الأساسيين على غرار فرنسا وغيرها يتمنون لعب دور تجاه بكين، وأن يكون لديها طريق مستقل تجاه واشنطن، بخاصة أن اقتصادات هذه الدول مرتبطة بصورة واسعة بالصين في عدد من الميادين، واختيار تبعية دون أخرى لا يمثل حلاً أو خياراً يريده الأوروبيون".
ويرى طريق الحكمة هو "أن نفهم أن علينا العمل مع الصين في بعض الميادين، وأن نتمكن من القول إن موقفها غير مقبول في مجالات أخرى، وهذا يدخل في إطار اللعبة المرنة، التي هي التوازن والدبلوماسية".
المحيط الهندي والهادئ
حول صعوبة التمييز وخلط الحدود بين ما هو سياسي - اقتصادي، وما هو عسكري عندما يتعلق الأمر بمنطقة الهادئ والهندي يذهب أستاذ التاريخ العسكري إلى أن "الحلف لا يلعب دوراً في منطقة الهادئ وآسيا". هناك شركاء، هي كوريا ونيوزلندا وأستراليا واليابان، يهتمون بنشاط الحلفاء وممارسات التعاون الدولي، التي يمكن التشارك بها مع الحلف، لكن ذلك لا يعني أن الحلف سيتحول إلى منطقة المحيط الهندي والهادئ، والدليل على ذلك رفض مبادرة فتح مكتب في طوكيو.
ويتابع "لدى الناتو شراكات مع بعض دول الشرق الأوسط منذ زمن طويل، وفي هذا الإطار هناك مبادرتان: مبادرة إسطنبول للتعاون، والحوار المتوسطي منذ 1994 و2008، وهذه الحوارات قوية ومثمرة نزولاً عند طلب الدول الشريكة التي تبحث عن التعاون للعمل بصورة أفضل مع الحلف بما يعرف التعاون العملي المتبادل، وهناك أيضاً ما يمكن للحلف أن يستفيد منه. الفكرة على الصعيد الأمني تهدف إلى تطوير تعاون أمني، بمعنى أن قوة واستقرار شركائنا تزيد من قوة الحلف".
أما عن موقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي صرح حول اشتراط إنهاء الحرب على غزة للتعاون مع الأطلسي يقول لاسكونجارياس "إنه وكما أوربان وغيرهما يلعب على الوتر القومي الخاص".
ويشير إلى أن البيان الذي أعلنه الحلف إثر القمة يحمل توقيع كل الأعضاء بالتفاهم ومن بينهم تركيا، مما يعني أن "هناك صدى مزدوجاً بين ما يقوله أو يصرح به أردوغان، وما هو في الواقع"، فتركيا لا تعارض العمل على مساندة أوكرانيا أو أن يتم تطوير شراكات مختلفة، إذاً هذا التصريح من باب السياسة، علماً أن الأطلسي يواجه تحديات كبرى في الشرق الأوسط، بعدما استنكر هجوم (حماس) وبقي حذراً تجاه إسرائيل".
حول خطة روسيا للتوصل إلى السلام مع أوكرانيا اعتبر أنه من الواجب التذكير بأن هناك دولة معتدية هي روسيا، وأخرى محتلة هي أوكرانيا، وأن الأولى وقعت على المعاهدات الدولية التي تضمن أمن واستقرار حدود الأخيرة، وإذا كانت موسكو تحول المعاهدات الدولية على هواها فلا يمكن اعتبارها شريكاً يؤتمن، وإذا كان مفهوم المفاوضات أن تفرض شروطها بأخذ ما تريده وإنهاء الأمر عند هذا الحد فهذه ليست مفاوضات بل فرض شروط استسلام.
انضمام أوكرانيا إلى الحلف
أستاذ التاريخ العسكري اعتبر أن انضمام أوكرانيا إلى حلف الأطلسي لن يكون قريباً، مشيراً إلى أن العبارة التي تم تداولها خلال القمة أن أوكرانيا "دخلت في طريق لا رجوع عنه"، لا تعني انضمام أوكرانيا إلى الحلف، إذ يرى أن هذا مفاده أنه في يوم ما أوكرانيا ستصبح عضواً في حلف شمال الأطلسي، لكن الإجابة عن السؤال الأساس الذي تنتظره أوكرانيا، أي متى تحديداً تصبح عضواً؟ يبقى من دون إجابة، إذ ليس هناك جدول زمني لانضمامها.
ويضيف "ما يجب معرفته في هذا السياق هو أن الحلفاء مجتمعين هم الذين يعطون موافقتهم لتوجيه دعوة إلى بلد ما للانضمام إلى الحلف. وحتى يومنا هذا هذا الولايات المتحدة تعارض كذلك ألمانيا، وجزء من الدول الأوروبية على رغم أنها مؤيدة لكنها تعد أنه لا يمكن المباشرة بهذه العملية بسبب النزاع الدائر".
ويختتم لاسكونجارياس بالقول إن عدم التطرق إلى السياق بأي عبارة، وعدم نقش العبارة في الرخام يضمن شيئاً واحداً هو أن بوتين يمكنه الاستمرار.