قد يستغرب المشاهد اختيار الكاتبة سمية الشمالي والمخرج عوض عوض هذا العنوان "رسالة الى آن فرانك" لمسرحية تدور أحداثها في فلسطين وتستحضر مشاهد من المأساة اليومية التي يعيشها الفلسطينيون تحت الاحتلال الإسرائيلي الغاشم. آن فرانك فتاة ألمانية يهودية فرت من فرنكفورت إبان موجة الاضطهاد النازي لليهود، إلى أمستردام وأمضت عامين بين 1942 و1944 متوارية عن أنظار النازيين، في مبنى سري، مع أسرتها وأصدقاء، حتى تم اكتشافهم من خلال رسالة بعثها شخص مجهول إلى السلطة النازية. اقتيدوا جميعاً إلى المخيمات النازية وكان على آن أن تلقى موتها بعد عام من أسرها، وكان لها من العمر 16 سنة. خلال عامَيْ الاختباء، كتبت الفتاة مذكرات تروي فيها يوماً تلو يوم، أحوال الخوف والرعب والاضطهاد، ببراءة وصدق. اكتُشفت المذكرات ونُشرت عام 1947 وأحدثت ضجة وراجت عالمياً وتُرجمت إلى أكثر من سبعين لغة. لكنّ الرسالة الموجهة بحسب العنوان الى آن فرنك إنما كتبتها فتاة فلسطينية في السجن الإسرائيلي. هنا يكمن رمز العنوان.
في المسرحية (مسرح مونو، بيروت) التي يمكن القول أيضاً إنها مسرحية الممثلة الكبيرة رولا حمادة التي أطلت في شخصية امرأة مقدسية، لا تحضر آن فرانك إلاّ من خلال الرسالة التي كتبتها إليها، ابنتها وعد المأسورة في سجن الاحتلال وعنوانها، وقد ظلت مغفلة ولم تتم قراءتها ولا معرفة مضمونها، على الرغم من غرابة عنوانها. ماذا يعني أن ترسل فتاة فلسطينية مأسورة رسالة إلى الفتاة اليهودية التي وقعت ضحية النازيين؟ تركت الكاتبة والمخرج بالتالي المشاهد يتخيل ماذا تحوي الرسالة التي أقدمت الأم حنان على تمزيقها في الختام لتقهر الفتاة اليهودية التي تُدعى آن أيضاً، والتي شكلت مع الأم "ثنائياً" (ديو) مسرحياً أو تمثيلياً.
في بيتها الذي هدمه الإسرائيليون للمرة الثالثة، تحاول حنان صاحبة لقب "كايدة" الذي كانت توقّع به رسومها الكاريكاتورية، إعادة بناء الجدران والغرف بحجارة يبلغ عددها 1948 وهو رمز الاحتلال أو النكبة كما نسميها نحن العرب، فتفاجئها فتاة يهودية في السادسة عشرة (عمر آن فرانك لدى موتها)، تائهة في الليل، لا مأوى لها (رمزاً إلى اليهود الغربيين أو الأشكيناز الذين وفدوا إلى فلسطين)، فتستقبلها وتطعمها ثم لا تلبث أن تدخل معها في حوار، تكشف فيه الفتاة عن وجهها الإسرائيلي المتعصب وانتمائها إلى صفوف الجزارين. ولا يلبث الحوار أن ينقلب إلى صراع إنساني وسياسي وعقائدي. امرأة فلسطينية فقدت ولديها خالد ومجد وزوجها الصحافي أبو خالد تحت التعذيب القاسي في السجون، أما هي فقصّ الإسرائيليون أظافرها في المرة الأولى، عقابا لهاً على ما ترسمه من كاريكاتورات في الصحافة، تهتك السلطة وتسخر من رموزها، وفي المرة الثانية عطبوا رجليها في التحقيق المرير وجعلوها مقعدة على كرسي نقال. إنها الضحية الفلسطينية في أقصى تجليها: أرملة وأم ثكلى مقعدة بلا بيت ولا عائلة. أما الفتاة اليهودية اللاجئة إلى فلسطين فتمثل نقيضها، فهي ابنة الاحتلال والقتلة أو النازيين الجدد، تدافع عن الجزارين وتتغنى بحلم إسرائيل المغتصِبة.
مشهدية حيّة
بدت الشخصيتان أو الممثلتان بالأحرى رولا حمادة ومدى حرب هما عماد اللعبة المسرحية القائمة بين الضحية التي تثور على كونها ضحية وترفض أن تكونها، وبين الجزار الذي يصر على كونه جزاراً ولو جسدته فتاة في السادسة عشرة، تحمل اسم آن وتصر على قراءة الرسالة التي كتبتها الفتاة الفلسطينية وعد الأسيرة إلى آن فرانك التي تجمع بينهما صفة الضحية. كأنّ الفتاة الإسرائيلية تعلم أن في الرسالة ما يؤكد أن اليهود الذين اضطهدهم النازيون انقلبوا بعد احتلالهم فلسطين إلى نازيين جدد، وليست كتابة الرسالة إلى آن فرانك إلاّ من أجل جعلها شاهدة على نازية الإسرائيليين. وكم نجحت الممثلة الكبيرة رولا حمادة في تجسيد شخصية حنان، بل في رسم مسارها كامرأة فلسطينية ومنحها ملامحها الخارجية والداخلية، علاوة على اللهجة التي هي جزء من الهوية. تنتقل رولا من صورة المرأة المحجبة إلى صورة المرأة المناضلة التي تعيد بناء بيتها المتهدم والتي تجد في وجه الفتاة الإسرائلية الزائرة، صورة الآخر المغتصب والظالم. لا تكمل الواحدة الأخرى في هذا التركيب الثنائي، فالإسرائيلية ليست مرآة الفلسطينية، والعكس. إنهما تتصادمان حتى في أوج لعبهما المسرحي، وتكون الإسرائيلية بمثابة من يتلقى ما ترويه الفلسطينية من معاناة وبؤس ونضال وحماسة وتعلّق بالأرض. وقد بدت رولا كأنها هي من يلتقط إيقاع العرض المسرحي المتنامي حتى يلمس لحظاته القصوى في مشاهد برعت في تجسيدها وليس في تمثيلها فقط، ومنها على سبيل المثل: مشهد التحقيق الرهيب معها وكيف سحبوا أظافرها وعلقوها، ومشهد الاغتصاب والتعذيب الذي شلّ رجليها، ومشهد الاعتداء على ابنها الذي عاشته بجسدها وكأنه اعتداء عليها وبلغت فيه ذروة عيش هذه اللحظة المأسوية، أو حتى مشهد الأمومة الذي تخيلت نفسها فيه تلاعب ابنها... وبين المشهد والمشهد مضت رولا والممثلة الشابة الموهوبة مدى حرب في اللعب على العلاقة الثنائية التي كانت تتخللها لحظات كوميدية عابرة، طالعة من عمق المعاناة مما منح العمل بعضاً من صفات التراجي – كوميديا. وتبادلت الممثلتان بعض أدوار الشخصيات التي تروي حنان عنها.
ومثلما نجح المخرج كثيراً في توظيف الكرسي المتنقل الذي تجلس عليه حنان بعد شلل رجليها، وجعله عنصراً أساسياً في بناء بعض اللوحات وإيقاع اللعبة واقعياً ورمزياً، نجح كثيراً أيضاً في توظيف سينوغرافيا الغرفة والباب تحديداً والمفتاح الذي يحمل دلالات عدة. غرفة حقيقية وافتراضية في وقت واحد، تنقلب من كونها بيتاً إلى كونها وطناً، ثم سجناً لا سيما عندما تتمكن الفتاة الإسرائيلية من إقفال الباب على حنان. وكانت حنان تخترق الجدران المتوهمة، فتدخل البيت لتواجه فيه الفتاة ثم تجد نفسها خارجه والباب المقفل يحول دون دخولها.
لم يخل النص والعرض (على عادة بعض القصائد الفلسطينية المناضلة) من كليشيهات وطنية تجذب الجمهور وتحمسه وتجعله ينفعل مع العرض، لكن كلام حنان عن المجازر، لا سيما مجزرة كفرياسين الرهيبة مثلاً كان مؤثراً، وكذلك تعدادها أسماء الشهداء الفتيان الذين سقطوا على أرض وطنهم. ولم تنس ذكر العرب المتقاعسين والغرب اللامبالي إزاء القضية...
"رسالة إلى آن فرانك" عرض مسرحي جميل ومؤثر وحقيقي، اعتمد البساطة في الديكور، لكنه اتكأ على حضور الممثلتين ولا سيما الممثلة الكبيرة رولا حمادة التي تواصل صعودها بجرأة وحماسة وشغف. أتاح لنا العرض فعلاً اكتشاف مخرج شاب هو عوض عوض الذي يخوض الإخراج بقوة ووعي، بعيداً من أي ادعاء أو تصنع.