Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خريف الأمم المتحدة وشتاء العالم المنقسم

تركزت الأضواء على الاتفاق النووي والسلوك الإيراني "المزعزع للاستقرار"

النووي الإيراني في واجهة الاهتمام الدولي بعد الهجوم على منشآت أرامكو (رويترز)

عام 1930، كتب ألبرت أينشتاين إلى سيغموند فرويد يقترح عليه القيام بحملة لمنع الحروب. كان ردّ فرويد إن "هذه مهمة مستحيلة، لأن غريزة الموت لدى الشعوب تدفعها للذهاب إلى الحرب". وليس هذا بالطبع سوى ردّ جزئي سيكولوجي لتفسير أسباب الحروب، وربما القفز من فوقها. أمّا الرد الشامل، فإنه على الأرض في التاريخ والحاضر والمستقبل. وأبسط ما فيه هو وضوح التناقض بين ما يقوله قادة العالم عن السلام من على منبر الأمم المتحدة وما يفعلونه لإدارة الأزمات والصراعات والذهاب إلى الحروب بقوة العصبيات والمصالح القومية والحسابات الشخصية أحياناً.

ففي خريف نيويورك موعد لموسم عالمي في الدورة العادية السنوية للجمعية العمومية للأمم المتحدة. وهو عملياً موسم مزدوج: واحد للخطابة من فوق ما يوصف بأنه أعلى منبر دولي. وآخر للقاءات في كواليس المنظمة الدولية والفنادق. الأول يطرح فيه كل مسؤول هموم بلاده ويهاجم خصومه عبر نصّ إنشائي مملوء بالعبارات الفخمة الداعية إلى التسامح والسلام، من دون أن يتوقع حلولاً لما يطرحه بالطبع، كأنه يخاطب شعبه في الداخل. والثاني تدار فيه محادثات ومفاوضات ووساطات بأسلوب هادئ يختلف جذرياً عما يقال من فوق المنبر. والكل يراهن على الثاني للتوصل إلى صفقة ما.

في هذا الموسم تركزت الأضواء على الاتفاق النووي والسلوك الإيراني "المزعزع للاستقرار"، وخصوصاً بعد الاعتداء الخطير على منشآت النفط في السعودية. وكان البارز، على الرغم من الفعل العنيف والكلام العنيف، تحرك مسؤول خفيف بين واحد سخيف وآخر ضعيف محكوم من مخيف، لتجنب حرب لن تقع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكانت الظاهرة اللافتة أن السويدية المراهقة، غريتا تونبرغ، التي صارت رمزاّ لتحريك ملايين الشبان في عواصم العالم ضد الاحتباس الحراري، خاطبت القادة في الأمم المتحدة بالقول "نحن في بداية انقراض جماعي وأنتم تتحدثون عن المال والقصص الخيالية للنمو الاقتصادي والأمل، فكيف تجرؤون؟".

وهم بالطبع يمارسون جرأة التسلط والأكاذيب تحت عنوان "الحقائق البديلة" متجاوزين "جرأة الأمل"، التي كتب عنها باراك أوباما وقادته إلى البيت الأبيض كأول رئيس أسود في تاريخ أميركا. لكن القضايا الأخرى لم تختفِ، بل جرى التطرق إليها في الخطب: من فلسطين إلى سوريا واليمن وليبيا ومياه النيل والطموح النووي لتركيا، وكل ما يخطر على بال المسؤولين الذين أخذوا معهم وفوداً فضفاضة لا دور لها وكاميرات لنقل تحركاتهم إلى بلدانهم، لأن ما يقولونه في الجمعية العمومية لا يسمعه إلا القليل، ولا يشار إليه إلا نادراً في الإعلام الأميركي. وكالعادة تبقى الدعوات إلى إصلاح الأمم المتحدة صرخة في بريّة العالم.

في القرن الرابع قبل الميلاد، جاء ديوجين من البحر الميت إلى أثينا. وصف نفسه بأنه "كوزمو بوليتي"، أي مواطن عالمي، وكان الأول في العالم. أما المصباح الذي كان يحمله في النهار، فإنه للبحث عن رجل آخر. وفي العقود الماضية كان رؤساء أميركا وقادة دول أخرى يتبارون في مديح العولمة والتوجه نحو "المواطنين العالميين".

هذه السنة جاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب ليقول "إن المستقبل لا ينتمي للعولمة بل هو للوطنيين". أراد تعميم شعار "أميركا أولاً" بدعوة كل الدول إلى "التطلع إلى الداخل وحماية مصالحها". وليس من المفاجآت أن يحذّر الأمين العام أنطونيو غوتيريش من "انقسام العالم إلى معسكرين"، ولا كان مستشار الأمن القومي البروفسور بريجنسكي أيام الرئيس كارتر يرجم بالغيب، عندما قال "إن أميركا تراوح دائماً بين المثالية المفرطة والواقعية غير الحساسة". إذ هي مع ترمب في الواقعية غير الحساسة على أساس أن عقيدته هي "أن العالم ليس مجتمعاً دولياً بل ميدان تنافس وصراع على المصالح".

والسؤال هو: ماذا تستطيع الأمم المتحدة فعله حين يرتدّ العالم إلى صراعات المصالح والقوميات والإثنيات والأديان؟ كان الأمين العام الراحل داغ همرشولد يقول إن "مهمة الأمم المتحدة ليست إيصال العالم إلى الجنة بل إنقاذه من الجحيم". وهو اعتبر "أن وجود الأمم المتحدة يتوقف على الكبار، لكن نجاحها يتوقف على الصغار". فخلال الحرب الباردة كان مجلس الأمن مشلولاً بالصراع بين الجبارين الأميركي والسوفييتي. واليوم يبدو المجلس مشلولاً بالخلافات العميقة وصدام المصالح بين أميركا ومعها بريطانيا وفرنسا وبين روسيا والصين. فأي مشروع قرار لإدانة حتى جريمة ضد الإنسانية ترتكبها دولة لها دولة كبرى تحميها، يسقط بالفيتو. ألم يقل جون بولتون، الذي كان مندوباً لأميركا في المنظمة الدولية، ثم مستشاراً للأمن القومي أقاله ترمب، إن "القانون الدولي خدعة أكاديمية"، وأنه "لو اختفت طبقتان من مبنى المنظمة الدولية لما خسر العالم شيئاً؟".

ليس سراً أن الألعاب الحقيقية تدور وتدار خارج الأمم المتحدة. والمتروك لها هو من مهام الجمعيات الخيرية، إلى جانب قوات حفظ السلام وإرسال موفدين إلى مناطق الأزمات والحروب. والموفدون يتغيرون والأزمات ثابتة. وما أبعد الخطب في خريف نيويورك من العواصف في شتاء العالم.

 

اقرأ المزيد

المزيد من آراء