Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عالم سُترتهُ صفراء!

تنقلب الأحوال لكن لا تتغير، فالقوة المهيمنة بمعنى ما هي نفس القوة وبنفس الطريقة تمارس سلطتها على العالم

مشهد من المظاهرات التي يطلقها ما يعرفوابـ أصحاب السترات الصفر أسبوعيا في العاصمة الفرنسية باريس ( غيتي)

1-

كنتُ صبيا قبل أربعين حولا لما عرفتُ ثورة أيار/مايو 1968م التي اجتاحت باريس كثورة طلاب، وعمت القاهرة ثم مدينتي بنغازي...وغيرهما.

"كم هو العالم صغير لقد عَلِقَتْ الحربُ الكبرى الثانية في حلوقنا بعد أن دمرت بيوتنا" قال أبي من شاهد شغفي بمتابعة ما يحدث عبر راديو ترانزستور كان اشتراهُ لي.

لم يعش ليشاهد عبر الموبايل أن التغييرات تحقق انتشارها على الشبكات الاجتماعية، وأن العالم ضاق حتى لم يعد يُحتمل أن يقف عند شارة المرور الصفراء في حال محلك سر.. 

ورغم أنه عقب الحرب الكبرى الثانية كان شعار الغرب أنظر خلفك بغضب ،فإن هذا الغضب اجتاح العالم ما دخل في حقبة التحرر الوطني ولم يخرج، وقفز في الفضاء القفزة التي حتى الساعة جعلت عالمنا على كف عفريت، لقد أنهى الغرب حربه بقنبلة صفراء ولم يحقق السلام.

عالم انتهي بحرب كبرى ونووية، وبدأ عالم من الرفاهة وحرق الكربون في الغرب، وفي غيره يدفع ثمن هذه الرفاهة وذلك الاحتراق، وكل هذا ممكن استرجاعه الآن بكف اليد/ الموبايل. لقد عاش هذا الغرب المرفه في حرب باردة عقب الحرب الكبرى الثانية، وفي كل حروبه وفترات استراحته هناك بشر في العالم اللاغربي يوفرون الخامات والأيدي العاملة حتى استنزاف هذا المنجم. 

وفي كل هذه الأحوال تنقلب الأحوال لكن لا تتغير، فالقوة المهيمنة بمعنى ما هي نفس القوة وبنفس الطريقة تمارس سلطتها على العالم، فالرأسمالية الغربية تواجه أزمات لكنها المركز المحرك للعوالم قاطبة، وكما تنين ما يلتهمه من بشر يحوله لنار لطاقة تمدد حياته.

وبعد أن كانت دول العالم الرأسمالي  تتطاحن في حروب تنافسية على ملكية الأرض فيما بينها، جعلت خلال النصف الثاني من قرنها العشرين الحروب بالوكالة. ونجحت في تصدير أزماتها إلى العالم اللا غربي، ومنها المسألة اليهودية ما وصلت ذروتها في الحرب الثانية، لقد حلت المسألة بخلق دولة كما منفى لمواطنين غربيين موصومين بالديانة اليهودية. 

هكذا في حقبة الحرب المُبردة كان تصدير الأزمات كفيل بجلب الحلول، كما هناك العالم اللا غربي ما يوفر الاحتياجات، وبهذا وفي هذه اللحظة الاستثنائية للسلام في الغرب تحققت طفرة في التكنولوجيا والعلوم مصحوبة باستنزاف للطبيعة التي أنهك الكربون جهازها التنفسي.

هذه تقريبا حقبة ما بعد القنبلة الصفراء حيث تم تحسين للأوضاع لكن لم يحدث أي تغيير جذري للمسار.

بالتحديد نجحت إلى حد ما آسيا في ولوج بوابة هذا المسار لكن الكرة الأرضية تدفع الثمن باهظا، وبه أفريقيا الخضراء أمست صفراء ،والشرق الأوسط المزود الرئيس بالكربون كان مكب النفايات/الحروب.

2-

إن عام 2000م ليس نهاية قرن فحسب* لأن العقدين الأولين من القرن الواحد والعشرين بمثابة دفع فاتورة القرن العشرين، فالأزمة الاقتصادية 2008 جلطة في القلب لم تتعافى منها الرأسمالية بعد، ولم يبدأ العقد الثاني من الألفية الثالثة إلا والشرق الأوسط قد اندلعت نيرانه بالربيع العربي ما لم يحدث في تاريخ المنطقة، كثورة شعبية دون قيادة ولا برنامج بل وبشرت بانتهاء دور النخب المعتاد، ثم دشنت أن التغييرات تحقق انتشارها على الشبكات الاجتماعية.

وبعد إن (القيامة الآن): حروب أهلية مضطردة في دول الربيع العربي، إرهاب دولي يتساقط كنار من سجيل يجتاح الكرة، وداعش الماركة المسجلة لذا الإرهاب تَبْعَثُ دولة الخلافة الإسلامية من قبرها، ومن كل فج تنبثق هجرة وُصِمَتْ باللا شرعية...، وحيث العالم لم يعد العالم التجاء الغرب لحصون القرون الوسطى ومن (دولة اليهود) استعان بجدران الحدود. ولأن العالم يتقلب ولا يتغير كما يبدو انقلب السحر على الساحر، الغرب المصدر للأزمات ارتدت عليه صادراته فالتنين ما ينفث النيران اشتعل جوفه :

محاولات انفصالية في كتالونيا واسكتلندا. 

بريكست: خروج بريطانيا عن أوروبا . 

هجرة لا شرعية هودجها القوارب البالية تقطع الفيافي والبحار مذكرة بحقب ما قبل التاريخ، فجأة تندلع باتجاه قارة أوربا من قارتي آسيا وأفريقيا.

نهوض للشعبوية الأوربية فشبح موسوليني يجتاح القارة، وينجح في الولايات المتحدة في الاستحواذ على منصب الرئيس ما يطرح الترمبية كنهج وأسلوب. 

من وسط معمعة أوروبا يطلع إرهاب من بين أبنائها المجنسين المهمشين. 

العداء للأخر لاعتباره يهدد المعاش والأمن فالاستقرار والهوية.

أزمات أقتصادية متتالية ضاربة وعمليات إنقاذ يعتبر دافعو الضرائب أن مسببها اليورو، 

وغير ذلك.  

3-

المفكر الفرنسي إدغار موران يشخص الحالة الفرنسية بأن " السترات الصفراء تشير إلى وجود أزمة إيمان في : الدولة، المؤسسات، الأحزاب، الديمقراطية، وفيما تسميه الأحزاب بالنظام الذي يشكل الكل جزء منه". لكن كل المتابعين يتذكرون أن انتخاب ماكرون بنسبة كبيرة من الأصوات جاء من ما يسميه موران بـ"أزمة إيمان بالنظام"، وماكرون الخارج المنظومة القائمة –على الأقل للأحزاب- حصل تقريبا على أصوات قطاع لا بأس به من أصحاب السترة الصفراء، الذين وكأنهم استيقظوا فجأة بأنهم أدلوا بأصواتهم في الصندوق الخطاء.

أما ماكرون فلم يخذلهم ولم يغير جلده، وهو كمرشح كان منتقدا للنظام الرأسمالي في طبعته الفرنسية البالية، وما عرف بالنيو ليبرالية نموذجه الناجح في أمريكا إن لم يكن برنامجه الصريح فهو ما على الطاولة. 

بهذا وغيره رأيت أنه يتخذ من ديغول كاريزما الشخصية المستقلة الحازمة التي تلعب دور تغيير مصير فرنسا، التي أري أن ستراتها الصفراء علامة على الوقوف عند إشارة المرور الصفراء نحو التغيير، ما لم يحدث ولن يحدث الآن، ما يعني أن فرنسا – كما الغرب- تؤجل فاتورة فتتراكم الديون الواجبة الدفع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عام 2000م جاء الرئيس كلينتون يسعى بالخبر اليقين، أن ثمة صفرية خطرة تهدد العالم الرقمي ليلة نهاية الألفية الثانية، لا أذكر أنه حدث شيء، غير أنها كما بشارة بيكيت صاحب غودو: لا شيء يحدث... لا أحد يجيء.     

المزيد من آراء