Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العمارة العربية "سفيرة الهندسة والحجر" لدى الغرب

أبدع المسلمون الأوائل في بناء نماذج غنية بالتنوع الفني والفكري والإنساني انتقلت إلى أوروبا

البصمة العربية في قصر الحمراء بالأندلس لا تزال تخطف القلوب والعقول (نيويورك تايمز)

ملخص

احتفظت بيوت العرب قبل الإسلام بنظامين أحدهما البيت العربي التقليدي وتميز بوجود ساحة في وسط البيت تصطف حولها الغرف مثل منزل "فلافيوس سيوس" وزي المنذر بن الحارث الملك الغساني، الذي بني عام 578 ميلادية والموجود قرب قرية الهيات في ريف دمشق.

هل العمارة مجرد بناء سكني سواء كان لأغراض الحياة الاعتيادية كحال المنازل التي اتخذت صوراً مختلفة عبر التاريخ الإنساني الطويل، أم من أجل العبادة وإقامة الشعائر الدينية، أم أن الغرض تعدى إلى أهداف أخرى تجاوزت هذين الأمرين؟

لعل أفضل من قدم جواباً فلسفياً على علامة الاستفهام المتقدمة الفيلسوف العربي أبو علم الاجتماع عبدالرحمن بن خلدون، وعنده أن البداوة ترتبط في نسقه الفكري بالبداية وأن العمران يرتبط بالتعمير.

والعمران عند ابن خلدون لا يكون إلا منفحتاً على الحس البدوي أي إنه ضرب من الأنساق الهندسية المنفتحة على الطبيعة كما يبشر بذلك بعض معاصرينا، وهو عمران يستدام معه الاستقرار والحفاظ على البيئة أو عمران حضاري يستغلق على الطبيعة.

وكانت العمارة العربية إذاً خطوة شاهدة على مسيرة إنسانية انتقل فيها العرب من مرحلة إلى مرحلة، حتى أن الجاهلية عرفت أنواعاً من هذه العمارة على بساطتها، ولاحقاً مرت بصور وصنوف متباينة امتلأت بعدد من الطرز المعمارية المختلفة تطورت عبر الأزمان، واكتسبت دلالات تشير إلى ساكنيها لا إشارات سطحية، بل توضح أبعاداً معرفية وقيمية وأخلاقية وروحية عن شعوب وممالك وحقب تأثرت بمن حولها وأثرت فيهم تالياً. وما بين هذه وتلك كان الفن والاجتماع والفلسفة والاقتصاد شهوداً غير مرئيين لحضارة مجيدة، تجلت ضمن دوائر عربية – عربية أول الأمر ومن ثم فاح أريجها حول العالم، خصوصاً ذاك القديم الذي عرف بأوروبا قبل أكثر من ألف عام .

ما قصة العمارة العربية ومن أين بدأت وكيف مضى بها مسار التطور ولماذا كانت سفيرة للعرب في حواضن أجنبية غريبة عنها؟ وهل حملت ضمن ما حملت معها روحانية الشرق وأديانه فخلفت تأثيراً واضحاً في العمارة الرومانية والبيزنطية والفارسية وبلاد ما بين النهرين والصينية والهندية مع انتشار الإسلام في جميع أنحاء العالم؟

فلافيوس سيوس وبدايات العمارة العربية

هل عرفت منطقة شبه الجزيرة العربية وما حولها صورة من صور العمارة قبل ظهور الإسلام والقيام بالفتوحات الإسلامية شرقاً وغرباً؟ المؤكد أن ذلك كذلك قولاً وفعلاً، إذ كانت البيوت قبل الإسلام مبنية بنظامين أحدهما هو المعروف بالبيت العربي التقليدي الذي يتميز بوجود ساحة في وسط البيت تصطف حولها الغرف، ومن أمثلة هذا البيت قبل الإسلام منزل "فلافيوس سيوس" وزير المنذر بن الحارث الملك الغساني والذي بني عام 578 ميلادية والموجود قرب قرية الهيات في ريف دمشق.

أما النمط الآخر فهو الخالي من الباحات ويكون عبارة عن غرف متجاورة ومدخله يكون عادة المجلس، ومن أمثلته منزل السيدة خديجة بنت خويلد زوجة النبي محمد في مكة، والأمثلة الأخرى لهذا النظام منازل قرية الفاو عاصمة مملكة كندة ومنازل تدمر.

وامتلأت منطقة الخليج العربي بنماذج مختلفة من العمارة العربية في صورتها الأولى، فعلى سبيل المثال نرى الأسوار التي تحيط بالقرى والمدن الصغيرة كنوع من الحماية لها من الأعداء تارة ولتوفير الخصوصية تارة أخرى، ومن أمثلتها أسوار مدينة براقش وأسوار تيماء وأسوار ثاج.

وعطفاً على الأسوار، عرفت العمارة العربية في ذلك الوقت المبكر فكرة الحصون ومن أمثلتها حصن الغرب في اليمن.

 

 

والثابت تاريخياً وعبر الاكتشافات الأثرية، وجود عدد من المستوطنات من عصور ما قبل التاريخ إلى العصر البرونزي أظهرت نمط الحياة هناك، ومن المستوطنات المكتشفة "سار" في البحرين و"هيلي" في الإمارات و"بات" في سلطنة عمان.

ولعل الذين لهم دالة قوية على الشعر العربي يمكنهم أن يجدوا أكثر من إشارة إلى وجود عمارة عربية ذات مكانة في تلك البقعة من الأرض، فنجد على سبيل المثال في عصر الدولة الأموية يهجو الشاعر الفرزدق منافسه جرير بقوله (إن الذي سمك السماء بنى لنا... بيتاً دعائمه أعز وأطول).

والشاهد أن نماذج عمارة الجاهلية لا يمكن بحال من الأحوال أن تضارع ما عرفته بعد الإسلام من نماذج زاهية وحاضرة، جمعت في روحها بين ما هو مدني وما هو ديني بدءاً من القرن السابع الميلادي إلى الساعة، وعليه نتساءل "هل كانت هناك ملامح معينة أو خصائص بذاتها ميزت العمارة العربية منذ ذلك الوقت وإلى حاضرات أيامنا؟"

خصائص فريدة للعمارة العربية

وعلى رغم التثاقف الواسع الذي عاشته العمارة العربية والذي جرت به المقادير من خلال دخول عوالم وعواصم غير عربية وبعضها لا علاقة له بالشرق الفنان من الأصل، فإنه يمكننا القول إنها استطاعت الحفاظ على هويتها على مر العصور، حتى وإن خضعت لبعض التجديدات بسبب التطورات المتلاحقة في مجال العمارة.

إلا أنه وفي كل الأحوال ظلت هناك بصمات رئيسة لم تتغير، مثلت خصائص جوهرية في العمارة العربية ذات الملمح والملمس الإسلامي ولا شك... فماذا عن ذلك؟

البساطة وعدم التكلف، بمعنى أن هذا النوع من أنواع العمارة اتخذ مع عظمته طابعاً مميزاً من الزهد، ذلك أنه امتنع عن المبالغة في التزيين والزخرفة فلا مال إلى البخل ولم يعمد إلى الإسراف والتبذير، واهتم بالروح الساكنة في ثنايا وحنايا تلك النماذج المعمارية.

كرامة الجندر، ولعله من قبيل المفاجأة أن تكشف لنا العمارة الإسلامية عن صورة خاصة من صور الجندر الإيجابي إن جاز التعبير، ذلك أنه اهتم بمراعاة كرامة كل من المرأة والرجل في البناء، وذلك على العكس من العمارة الغربية التي اتبعت نمطاً واحداً في التشييد، ولهذا السبب نجد نماذج الشرفات والمشربيات والحرملك، بهدف صيانة كرامة المرأة.

 

 

البيئية والشمولية، وهنا نجد أنفسنا أمام مفاهيم ربما بدأنا نستمع إليها أخيراً، فالبيئية على سبيل المثال تهتم بألا يحدث البناء على مساحة أكثر مما يحتاج إليه المرء، ولا أن يستهلك من الموارد الطبيعية ما يخلف من ورائه أثراً سلبياً في الطبيعة، فيما تمثلت الشمولية في أن تلك العمارة اهتمت بجميع المنافع التي يحتاج إليها الإنسان في حياته اليومية، فقال أحدهم ذات مرة "لنا دار ودوار ودوارة ودردارة" بمعنى دار نسكنه، ودوار لحلالنا، ودوارة تسقي أراضينا ودردارة تطحن حبوبنا.

شرعية وجمالية، وتبدو الكلمات هنا غريبة لكن واقع الحال يشير إلى أن تلك العمارة اهتمت بروح الشريعة، بمعنى ارتكازها على القاعدة الشرعية "لا ضرر ولا ضرار" فلا يجور أحدهما على الآخر لمنفعة مسكن ولا يقصر أحدهما في جعل العمارة ستراً له ولأهله.

وفي الوقت عينه واتساقاً مع الجماليات الروحية، اهتم فن العمارة العربي والإسلامي بالجانب الجمالي فكانت المباني تتزين بما يتناسب وقواعد الشريعة، ومن آيات ذلك تجنب المعماريين الإسلاميين رسم الكائنات على جدران المساجد ودور القضاء، غير أنهم ربما تساهلوا قليلاً في الرسم على جدران القصور.

عناصر تألفت منها العمارة العربية

والثابت أنه في سبيل فهم شبه كاف عن العمارة العربية عبر تاريخها الطويل ربما يلزمنا أن نتوقف مع فكرة العناصر التي تألفت منها تلك العمارة، خصوصاً أن الحديث عنها يكثر في الآونة الحالية ويختلف من حوله الباحثون، ومع ذلك تبقى هناك أركان أساس لا يمكن تجاهلها... فما قصة ذلك؟

المواد الأولية، إذ اختلفت المواد الإنشائية التي استخدمها العرب في إقامة مبانيهم باختلاف البلدان التي قاموا بفتحها وباختلاف مقاصدهم من إنشائها، فكان الأجر أول ما استعملوا في إنشائها ولسرعان ما استخدموا الحجارة في إقامة ما هو مهم منها كقصر العزيزية، وقصر القبة في صقلية، وجامع السلطان حسن كامل في القاهرة، وكانوا في الأندلس يستعملون في إنشاء مبانيهم غالباً نوعاً من الوحدات المكونة من مزيد من المواد مثل "الكلس أي الزلط والرمل والصلصال والحصباء" التي لا تلبث أن تصبح طبقة صلبة كحجارة النقش.

المآذن إعلام العصر، ومن أهم العناصر التي نجدها في العمارة العربية الإسلامية نموذج المآذن التي كانت وسيلة الإعلام والإعلان عن الصلاة في تلك الأوقات المبكرة، واللافت أن أشكال تلك المآذن اختلفت باختلاف البلدان التي وحدت فيها العمارة العربية منذ وقت مبكر، فهي مخروطية الشكل في بلاد فارس، ومربعة في بلاد الأندلس وأفريقيا، وأسطوانية ذات مطفأة في أعلاها في تركيا ومتنوعة الشكل في كل طبقة منها في مصر.

 

 

ولعله من نافلة القول إن مصر بلد الألف مئذنة تتجلى فيها بعض عناصر العمارة العربية بصورة فائقة الوضوح، إذ نرى نماذج متعددة تتسق وكل حقبة زمنية عاشتها قاهرة المعز، وبخاصة مئذنة قايتباي في القاهرة والتي تعد من عجائب العمارة العربية، ولا شيء أدل على دقة العرب وذوقهم الفني من قدرتهم على تحويل البروج البسيطة، ويتجلى الفرق الكبير بين ذوق العرب الفني وذوق الترك عند مقابلة تلك المآذن العربية بالمآذن التركية على الخصوص.

الأعمدة والتيجان وأزمنة الانثقاف، ولعله من باب المؤكد كما أشرنا في مقدمة هذه القراءة القول إن العرب كانت لديهم أريحية واسعة في بدايات مجد حضارتهم، ولم يعرفوا الانغلاق أو العزلة، ولهذا تعاطوا بصورة إيجابية وخلاقة مع ما وجدوه من نماذج حضارية للعمارة عند شعوب عرف الإسلام طريقاً إليها.

وعلى سبيل المثال لا الحصر وجد العرب في جميع البلاد التي فتحوها عدداً كبيراً من المباني الإغريقية والرومانية والبيزنطية المتداعية أو المهجورة وانتفعوا بأعمدتها، كما تشهد بذلك مبانيهم الأولى التي تضم عدداً غير قليل من الأعمدة الغربية المصدر.

ومن المثير كذلك أنه حين استنفد العرب ما وجدوه وجدوا أنفسهم مضطرين بحكم الطبيعة إلى إنشاء ما احتاجوا إليه منها بأنفسهم، بل وطبعوا عليه طابعهم الخاص الذي كانوا يعرفون كيف يطبعونه على جميع آثارهم كالأعمدة وتيجان الأعمدة التي لم تشتق من أي طراز آخر.

البعد الثقافي في العمارة العربية

وبالغوص عميقاً في قلب العمارة العربية يتكشف لنا يوماً تلو الآخر أننا لسنا أمام قصة أبنية مصمتة، بل كيانات تكاد تنطق بألسنة بناتها وثقافاتهم وأحوالهم العيشية عبر نحو ألفي عام.

ولعله من قبيل تلك الأبعاد الثقافية عدد من الملامح الرئيسة، نختار منها ما يلي على سبيل المثال لا الحصر...

الخط درب اللغة العربية، فمن أهم سمات العمارة الإسلامية استخدام الخط، إذ كان الخط العربي يعد من أرقى صور الفن في العالمين العربي والإسلامي.

 

 

وجد الخط العربي ليزين كل شيء بدءاً من الجدران والمداخل إلى المنسوجات والسيراميك، وتعد اللغة العربية المستخدمة في الخط الإسلامي مقدسة خصوصاً أنها لغة القرآن الكريم، وغالباً ما كان يتم تزيين تلك المباني بأنماط وتصميمات معقدة، مما يزيد من تأثيرها البصري.

عالم المقرنصات العجيب، وطور المهندسون المعماريون الإسلاميون عدداً من التقنيات المبتكرة للسماح لهم بإنشاء التصاميم والأنماط المعقدة التي تعد سمة مميزة للعمارة الإسلامية. وإحدى هذه التقنيات هو استخدام المقرنصات وهي التي تغطي المجالات المقعرة والتقاء السطوح الحادة الأطراف في الأركان بين السقف والجدران وأسفل الشرفات.

وكانت نماذج فن المقرنصات ضرباً من ضروب الثقافة العربية، وتعبيراً عن جانب من جوانب الحضارة الإسلامية، خصوصاً أنها وجدت بنوع خاص في المساجد ودور العبادة.

القباب وتساؤلات اللامتناهي، فمن بين الملامح الثقافية المثيرة لتساؤلات الفلاسفة في العمارة العربية والإسلامية يأتي نموذج القباب والأقبية المقوسة.

وهنا يقول الباحثون إن العمارة العربية والإسلامية أنشأت القباب كرمز للسماء الواسعة والشاسعة ولخلق علاقة روحانية بين الأرضيين والسمائيين، وأن القبة تمثل دعوة ارتقاء للإنسان نحو الصفاء الداخلي، فهي تشكل أركان الكون الواسع المترامي الأطراف، والإنسان أسفلها عبارة عن كون صغير مندرج في كون أكبر يصل من خلالها بالسمو والارتفاع كي يعيش المؤمن جو العبادة عملياً داخل المسجد محاطاً بالإيحاء والارتقاء.

الاهتمام بالإيكولوجيا الخلاقة، إذ عرفت العمارة العربية الأهمية الفائقة الوصف للحدائق والأشجار وكل ما له علاقة باللون الأخضر، وعليه أوجد القائمون عليها مساحات خضراء في كل مبنى مهما صغر حجمه، أو قصر تعاظم شأنه.

ووجدت حدائق "شارباغ" إذ يتم تقسيم الأرض إلى أربعة مربعات متساوية، وغالباً ما كان يتم ترتيب الأرباع هذه حول نافورة مائية مركزية وهي مصممة لتمثل أنهار الجنة الأربعة في التقاليد الإسلامية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتتميز هذه الحدائق باستخدامها للتناسق والهندسة والمساحات الخضراء المورقة، وهي شهادة على التقدير العرب والإسلامي للجمال من جهة والعمل على الانسجام من منطلق إيكولوجي يحدث توازنات طبيعية في البيئة من جانب آخر.

والشاهد أن الحديث يطول عن البعد الثقافي في العمارة العربية والإسلامية، والتي هي ليست أقل من رائعة، وفي عصر تحدده التجارة العالمية والسفر، تجاوز تأثيرها الحدود الوطنية وتسرب إلى نسيج المباني والآثار والصور الفنية عبر القارات.

إن أسلوبها الفني المميز المتجذر في الثقافة بغنى ترك علامة عالمية، وحتى في العصر الحديث فإن التأثير الدائم لمفاهيم العمارة الإسلامية في التصميم المعاصر واضح. إنها شهادة على الغرث الدائم لهذا الشكل الفني الرائع إذ لا يزال تأثيره قوياً اليوم كما كان عليه الحال منذ قرون... هل من أمثلة على هذا التثاقف المعماري العربي مع دول وشعوب أخرى؟ وهل من بينها دولة ما في القارة الأوروبية تركت العمارة العربية ضمن أشياء كثيرة تركتها، بصمة لا يمكن أن يمحيها تعاقب الزمن ولا مر القرون؟

الأندلس عمارة العرب "شاهد أمين"

ولعل الحديث عن العمارة العربية في الأندلس يحتاج إلى قراءات مطولة قائمة بذاتها، والحضارة العربية الإسلامية في الأندلس لا تحتاج إلى شاهد، ومن هنا لا يبدو من المفاجئ أن تشتهر تلك المنطقة بصورة ملحوظة بهندستها المعمارية الفريدة من نوعها، والمنتشرة في جميع أرجاء إسبانيا والبرتغال الحديثة.

وجلب عرب ومسلمو "المورو" القادمون من شمال غربي أفريقيا معهم نماذج متباينة من أساليب البناء المتأثر بالعالمين الإسلامي والروماني، وكانت النتيجة مزيجاً فريداً من الأقواس والقباب والأعمدة والأنماط الهندسية المعقدة، وإن كان الاهتمام الأول ببناء القصور والمساجد ودور العبادة التي تلتزم بالإسلام.

وأحد أفضل الأمثلة التي يمكن للمرء أن يتوقف أمامها في محاولة قراءة تأثير تجليات العمارة العربية في الأندلس، يأتي "قصر الحمراء" وهو حصن يعود إلى القرن الرابع عشر ومعروف بكونه أحد آخر المعاقل الرئيسة التي تسيطر عليها القوات الإسلامية. ويقع في غرناطة وهي بدورها مدينة معروفة بهندستها المعمارية العربية فائقة الجمال.

 

 

ويعد قصر الحمراء شهادة على المهارات الهندسية المعقدة للمغاربة العرب وإبداعهم وفهمهم العميق لمفاهيم الرياضة والهندسة، ولا تزال واحدة من مناطق الجذب السياحي الأكثر زيارة في إسبانيا حتى يومنا هذا، وأحد مواقع التراث العالمي لـ"اليونيسكو".

وتتجلى في قصر الحمراء معالم العمارة العربية المغاربية عبر تفاصيلها الرائعة وزخارفها المنمقة التي تتكون من كل شيء، بدءاً من الخط العربي والأشكال الهندسية المعقدة والزخارف الزهرية إلى الأقواس على صورة حدوة حصان. ونلاحظ هنا أن طراز المعمار العربي المغاربي منع تصوير الحيوانات والبشر والنباتات واختاروا بدلاً من ذلك تصوير الأنماط والأشكال بتفاصيل معقدة، وهو ما يمكن رؤيته في الجزء الداخلي من قصر الحمراء لدى زيارته.

وعلى رغم الحقائق التاريخية - المؤلمة – التي تتمثل في استعادة الحكام المسيحيين الإسبان بحلول القرن الثالث عشر إسبانيا، فيما عرف بعصر الاسترداد، وسعي الأندلس إلى الاستقلال عن سيطرة الخلافة فإن الآثار المعمارية العربية المغاربية في الأندلس ظلت باقية منذ ذلك التاريخ وحتى الساعة، شهادة مؤكدة على حضور فكري وثقافي وديني وإيماني وروحي واجتماعي، وهو ما يقطع بأن العمارة العربية والإسلامية تجاوزت الأغراض الحياتية وباتت تمثل رمزاً لما هو أبعد من ذلك بكثير.

على أن علامة الاستفهام الحري بنا أن نطرحها في هذه القراءة "هل انسحبت بصمات العمارة العربية والإسلامية على الأندلس فقط وسط القارة الأوروبية، أم أن هناك من شاركها في التأثر ولا تزال الشواهد حاضرة في حاضرات أيامنا؟"

أوروبا واقتباس فنون العمارة العربية

ولعله من الظلم الأدبي القول إن إسبانيا فحسب هي من تركت العمارة العربية أثراً واضحاً في دروبها وطرقها عبر مئات السنين، ذلك أن روح هذه العمارة ترسخت عميقاً في عموم القارة، وهو ما يقر به الأستاذ في كلية الهندسة المعمارية والتصميم في جامعة فرجينيا للتكنولوجيا البروفيسور "آرون بيتسكي"، الناقد والمؤلف لأكثر من عشرة كتب عن الفن والهندسة المعمارية والتصميم.

ويحدثنا "بيتسكي" عن الطرق العديدة التي تطورت بها الهندسة المعمارية في أوروبا باعتبارها مجموعة متغيرة باستمرار من العناصر المستعارة وللمرء أن يضيف المسروقة، ليس فقط من الرومان والإغريق ومن الآثار والمستوطنات في العصر الحجري الحديث، ولكن أيضاً من مصادر مختلفة من العالم العربي وعمارته، والأثر واضح من عند العمارة القوطية إلى قباب كنيسة القديس بولس فإن كثيراً مما نعتبره أمراً مسلماً به كأمر أساس في تقاليد الهندسة المعمارية الغربية يعتمد على التصميم العربي وعناصر البناء والمبادئ والأنواع.

هل هناك آراء أخرى تؤكد هذه الحقيقة بخلاف ما قاله "بيتسكي"؟

المؤكد أن الكاتبة والمستعربة البريطانية "ديانا دارك" تعد ذات صوت عال وحقيقي موثوق فيه في هذا السياق، وهناك كثير من القراءات اللافتة في كتابها المعنون "السرقة من المسلمين... كيف شكلت العمارة الإسلامية أوروبا"، المنشور عام 2020 عن دار نشر هيرست.

 

 

وفي مؤلفها هذا لا تتحدث "دارك" عن فرضيات بل تستدعي من بطون التاريخ حقائق تصل من خلالها إلى القول إن العمارة العربية الإسلامية أوجدت حراكاً معمارياً أوروبياً لا يصد ولا يرد، وتتناول ما تصفه بـ"التركيبة الإبداعية والتوليف" إذ انتشرت في أوروبا عبر ثمانية قرون بعض الابتكارات الهيكلية والزخارف الزخرفية، وكذلك المخططات التخطيطية التي طورت في سوريا والعراق وبلاد فارس القديمة، ووصلت إلى قلب القارة القديمة في العصور الوسطى من خلال حركة التجارة والمنشورات العلمية.

ومما لا يمكن إنكاره أن عدداً من الكنائس الكبرى في إسبانيا اليوم كانت مساجد، ومنها مسجد قرطبة الذي تغيرت هويته عام 1236.

إن تصميم هذا المسجد (الكنيسة حالياً) يحمل في طياته رسالة إنسانية بل رسائل، ذلك أنه يركز على فكرة المجتمع الواحد، والجالس أبناؤه جنباً إلى جنب، بدلاً من تراتبية الصفوف الطويلة في مواجهة المحتفل المركزي أو الهيكل.

وكان نظام المعمار الغربي دعوة للتفكير في بناء العلاقات أي كنظام شامل وليس كعلاقات سرية بين الغرف، وهناك نماذج متعددة غير نموذج مسجد قرطبة نجدها في أوروبا، منها دير كنيسة وستمنستر والذي يحتاج إلى حديث آخر.

هل من خلاصة؟

المقطوع به أن هذا الحديث لا بد له من قراءة مكملة عن العقول المعمارية الهندسية العربية في المديين الزمنيين القديم والحديث.

وفي العصور القديمة يلزمنا الحديث عن عمر الوادي وعبدالله بن محرز وعن موسى بن شاكر والماهاني والجوهري ويحي بن منصور.

ولعله من أجمل ما في العمارة العربية أنها تكشف لنا رحابة إبستمولوجية بعيدة كل البعد من العصبية والطائفية، ففي تاريخ كبار المهندسين العرب نقرأ أسماء من النصارى العرب مثل يوحنا القس وكان من كبار علماء الهندسة المعمارية، وممن يقرأ عليه كتاب "إقليدس" وغيره من كتب الهندسة، وكان من المترجمين عن اليونانية.

 

 

وفي مصر نجد اسماً من الأقباط له باع وذراع طولى في عالم العمارة مثل "الفرغاني" وسعيد بن كاتب، وكان من المهندسين النصارى بمصر في القرن الثالث عشر وهو باني مسجد ابن طولون الشهير بالقاهرة في زمن الحاكم أحمد بن طولون.

ومن مفارقات العمارة العربية أنها لم تتوقف عند القدامى فحسب بل طفت على السطح في العقود الأخيرة أسماء أبهرت العالم بنماذج معمارية عربية عصرانية، ومن هؤلاء المصمم اللبناني برنار خوري والأردني الشهير المعماري راسم بدران والعراقي رفعت الجادرجي وأسطورة العمارة زها حديد، ناهيك بمهندس عمارة الفقراء في مصر حسن فتحي الرائد في مجال العمارة العربية التقليدية والذي غالباً ما كان يستخدم التصميم المعماري والنوبي والمواد المحلية.

وأخيراً من شبه المقطوع به أن هناك كثيراً من الأسماء التي لا بد للباحث أن يقف أمامها في هذا المضمار، مما يعني أن الحضارة العربية المعمارية ولادة وقادرة على الإبهار مرة جديدة.

المزيد من تحقيقات ومطولات