ملخص
أكد مسؤولون حكوميون في الجزائر مراراً أن الاتفاقات التجارية التي وقعتها مع بروكسل تسببت في إبقاء الاقتصاد الوطني في خانة التبعية والاستهلاك المتواصل لكل ما هو مستورد من الخارج.
أثارت اتهامات الاتحاد الأوروبي للجزائر بفرض قيود على صادراتها انزعاجاً لدى الأخيرة أظهر بصورة غير مباشرة هامش الحرية الذي تريد بروكسل فرضه على شريكتها في الضفة الأخرى من جنوب المتوسط لدى تنفيذ خططها للتنمية الاقتصادية والصناعية.
وعبر الاتحاد الأوروبي عن "خيبة أمل" إزاء التحول الذي اتخذه مسار التجارة مع الجزائر، متجاهلاً نداءات الحكومة التي طلبت مراراً وتكراراً إعادة النظر في اتفاقية الشراكة الملزمة للطرفين، بسبب "الاختلال الصارخ" لمصلحة بروكسل.
وترغب المفوضية الأوروبية حسب بيان لها في إجراءات لتسوية الخلافات مع الجزائر وبدء حوار بناء بهدف رفع القيود في قطاعات عدة من المنتجات الزراعية إلى السيارات. وموضوع الاحتجاج الأوروبي يتمثل في منع مواد من استيرادها وفرض شرط استخدام قطع مصنعة محلية على منتجي السيارات الأوروبية في حال تصديرها للجزائر. وتزعم بروكسل أن التدابير الجزائرية تضر أيضاً بالمستهلكين بسبب حصر خيار المنتجات المتاح من دون مسوغ.
وترى في القيود المفروضة انتهاكاً لالتزامات الجزائر بموجب اتفاقية الشراكة بين الطرفين التي وقعت في عام 2002 والتي دخلت حيز التنفيذ في عام 2005.
البحث عن تسوية
وتبحث المفوضية الأوروبية عن تسوية لمشكلتها مع الجزائر من طريق الحوار كخيار مفتوح قبل التوجه إلى إنشاء لجنة تحكيم كآلية لتسوية النزاعات.
لكن بالنسبة إلى الجزائر تطالب منذ سنوات بمراجعة اتفاق الشراكة بسبب عدم تقديمه أي قيمة مضافة لاقتصادها، على عكس الجانب الأوروبي وشركاته المستفيدة منه من خلال تفكيك التعرفة الجمركية لفائدة السلع الأوروبية المصدرة إلى الجزائر، مما تسبب في تكبيد خزانة الدولة خسائر بمليارات الدولارات.
ويؤكد مسؤولون حكوميون في الجزائر في مناسبات عدة أن الاتفاقات التجارية التي وقعتها مع بروكسل تسببت في إبقاء الاقتصاد الوطني في خانة التبعية والاستهلاك المتواصل لكل ما هو مستورد من الخارج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكانت الشروط المتبادلة ضمن شراكة "رابح رابح" تنص على ترخيص الجزائر باستيراد السلع الأوروبية مع تقديم تسهيلات جمركية وجبائية، في مقابل نقل التكنولوجيا وتسهيل حركة تنقل المواطنين واستثمار الأوروبيين رؤوس أموالهم في الجزائر، وهو أمر لم يتحقق بعد نحو عقدين من دخول الاتفاقية حيز التنفيذ.
خسائر الخزانة الحكومية
ويقدر محللون اقتصاديون خسائر الخزانة الحكومية بـ30 مليار دولار سنوياً، أما الأسواق الجزائرية فقد تم إغراقها بمنتجات فاقت قيمتها 200 مليار دولار مستفيدة من الإعفاءات الممنوحة لها.
وبلغة الأرقام استحوذ التكتل الأوروبي على نحو 50.6 في المئة من معاملاته التجارية الدولية مع الجزائر عام 2023، لكن القيمة الإجمالية لصادراته إلى الجزائر تراجعت بصورة كبيرة، منخفضة من 22.3 مليار يورو في عام 2015 إلى 14.9 مليار يورو في عام 2023، بحسب أرقام رسمية أعلنتها المفوضية الأوروبية.
وتعكس بيانات واردات الجزائر الفجوة الواسعة في الميزان التجاري بعد استيراد ما يساوي 283 مليار دولار من السلع من الاتحاد الأوروبي بين 2005 و2017، مقابل صادراتها إليه بـ12 مليار دولار فحسب، غالبيتها مشتقات نفطية، خلال الفترة ذاتها.
وهنا مكمن الخلاف، إذ اعترف بعض كبار مفوضي الاتحاد الأوروبي، بمن فيهم جوزيب بوريل، المسؤول عن الشؤون الخارجية، بوجود "خلل" في العلاقات التجارية الجزائرية الأوروبية، قبل أن يستدرك خلال آخر زيارة له للجزائر أن التكتل مستعد لبحث المطالب الجزائرية في هذا الشأن.
أكثر تحرراً
ويقرأ المحلل السياسي الجزائري جيلالي كرايس في بيان الاتحاد الأوروبي الأخير انزعاجاً من خيارات الجزائر الرسمية، معتبراً في تصريحات لـ"اندبندنت عربية" أن بلاده "لا تريد أن تضع بيضها كله في سلة واحدة، بخاصة من الناحية الاقتصادية التي ما هي إلا نوع من التكامل مع المكانة السياسية".
وقال كرايس إن "الجزائر أصبحت أكثر تحرراً في مواقفها وفي حضورها الدولي، ولذلك عليها أن تنوع قائمة شركائها الاقتصاديين، في وقت تسعى إلى إعادة النظر في اتفاق الشراكة الذي أبرم في عهد النظام السابق وهو لا يخدم الاقتصاد الجزائري ويجعل منها مجرد سوق استهلاكية. كذلك فإن تعديل هذا الاتفاق يستوجب مفاوضات جديدة وتحديد الأولويات من جديد. وفي ظل التحولات التي عرفها العالم وعرفتها الجزائر وقائمة الشركاء الجدد، بخاصة الصين روسيا وحتى الحضور الأميركي، يعني أن الجزائر اليوم إن دخلت أي مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي ستكون أكثر تحرراً وأكثر قدرة على حماية مصالحها وفرض اتفاق جديد في ظل منطق (رابح رابح) الذي أصبحت تتعامل الجزائر به مع مختلف شركائها".
وضمن هذا المنظور تطمح الجزائر إلى حماية صناعاتها الناشئة والتحكم في ميزانها التجاري وخلق بيئة مناسبة لظهور نسيج صناعي محلي تنافسي، إلى جانب تنويع الشراكات الاقتصادية بالانفتاح أكثر على أسواق أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، والتأكيد بقدرتها على التحرر من الاعتماد على الأوروبيين.
ويختزل الأكاديمي والأستاذ في جامعة المدية بالجزائر الدكتور حكيم بوغرارة "أسباب الخلافات بين الجزائر وبروكسل في إخلال الاتحاد بالالتزامات التي تضمنها اتفاق الشراكة، بخاصة نقل التكنولوجيا وتشجيع الاستثمار المنتج لتحقيق نوع من التوازن في المبادلات التجارية".
لوبي يخدم المصالح الأوروبية
وعرج بوغرارة في تصريح خاص على الظروف التي ميزت توقيع الوثيقة في عام 2002 ودخولها حيز التنفيذ في 2005، إذ كان يوجد لوبي في الجزائر يخدم المصالح الأوروبية لم يراقب الوثيقة بصورة صارمة، مما مكن الأوروبيين من الاستفادة من امتيازات وغض الطرف عن نقل التكنولوجيا الحديثة مثلما اتفق عليه. ووفق بوغرارة فقد أسهمت هذه العوامل في جعل المبادلات التجارية لمصلحة الاتحاد الأوروبي، لا سيما في مجالات خارج المحروقات مع الاستفادة من الطاقة الجزائرية بطريقة سهلة وقد خلقت تفاوتاً اقتصادياً بين الجانبين وخسائر قدرتها الجمارك الجزائرية بالملايين سنوياً.
الأزمة الاقتصادية وحالة التضخم وارتفاع أسعار الطاقة والحرب الأوكرانية والضغوط الأميركية، كلها أسباب دفعت بالأوروبيين إلى محاولة استفزاز الجزائر والضغط عليها، وأضاف بوغرارة مستنداً إلى رأي قانونيين قالوا إن "بروكسل هي من تقف وراء تعطيل تجسيد اتفاق الشراكة بما يخدم الجانبين، ولما تغيرت الأوضاع في الجزائر وذهب النظام السابق الذي كان يخدم أوروبا انقلبت الأمور وجعلت الجزائر في موقع قوة من أجل الحفاظ على مصالحها".