ملخص
ما خطة الخطوط الحمراء التي تحسب عدد السعرات الحرارية لسكان غزة؟ ولماذا يعد القوي في غزة أفضل من الضغيف للحصول على الطعام؟ وما علاقة السعرات الحرارية بتهمة الإبادة الجماعية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية؟ هذه الأسئلة تجدون إجاباتها في التقرير المعمق التالي.
تجاهل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صور آلاف الأطفال الذين يقفون أمام أماكن توزيع الطعام في طابور طويل وبشكل مكتظ جداً، ويحملون الطناجر والأوعية البلاستيكية من أجل الحصول على وجبة توزع بالحصة المحددة، وأكد بكل وضوح أن لا مجاعة في غزة.
تبرير التهمة
ويبدو أن نتنياهو الذكي في الرياضيات لم يشاهد مقطع فيديو الأم التي أنجبت طفلها وعجزت عن إرضاعه بسبب جوعها وعدم توفر حليب الأطفال، كما أنه لم يراجع مع فريقه المقاطع التي تخرج من غزة وتتحدث عن القصة المخفية للجوع، إذ أكد رئيس الوزراء أنه وفريقه يعملون باجتهاد لإدخال 3200 سعرة حرارية للشخص الواحد في القطاع كل يوم.
وأفشى نتنياهو للعلن أن لديه حاسبة سعرات حرارية تعمل على منافذ غزة، ويمكنه التحكم بحجم ومقدار كمية الغذاء لكل شخص في القطاع، حتى أنه يستطيع أن يعد "الكالوري" لكل فرد كبير أو صغير.
وفي محاولة منه لتبرير التهمة الموجهة لإسرائيل في محكمة العدل الدولية بأنها ترتكب جريمة الإبادة الجماعية وتعاقب سكان غزة بالجوع، قال نتنياهو "ندخل نصف مليون طن من الغذاء والدواء إلى غزة يومياً". وأضاف "جميع التقارير التي تتحدث عن الجوع ووقف تدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة غير دقيقة، هناك كثير من الطعام، هناك 3200 سعرة حرارية للشخص الواحد، وهذا أعلى تقريباً بنحو ألف مرة من المستوى المطلوب، لكن المشكلة في القطاع تكمن في آلية توزيع حصص الطعام".
وفي تبرير نتنياهو بأن إسرائيل تسمح بإدخال عدد كبير من السعرات الحرارية للأفراد في غزة، يعتقد أن تل أبيب ما زالت ملتزمة باتفاق جنيف، وبالتالي سقطت عنها تهم الإبادة الجماعية.
السعرات الحرارية تعريف مختصر للجوع
وفقاً لاتفاق جنيف، فإنه يحظر تجويع السكان كوسيلة للحرب، ويمنع مهاجمة أو تدمير المنتجات الغذائية والمناطق الزراعية ومياه الشرب ومرافق الري، وفي عام 1998 صنفت المحكمة الجنائية الدولية استخدام التجويع كوسيلة للحرب ويعد جريمة يعاقب عليها القانون الدولي، لكن على رغم ذلك القانون الواضح إلا أن هناك تفسيرات قانونية عدة للجوع، وظلت إحدى نقاط الخلاف الرئيسة هي كيفية إثبات أن نقص الغذاء والماء نتيجة حتمية للحرب، وكيفية إثبات أن تصرفات أحد أطراف الحرب المسببة للجوع تعد دليلاً على النية بأنه يريد استخدام الغذاء كوسيلة حرب، حتى لو لم يعلن ذلك صراحة.
في حالة إسرائيل وغزة، تعتبر الأولى أن لها الحق في شن "حرب اقتصادية" على أعدائها، ويؤكد وزير دفاعها يوآف غالانت أن الحصار والحرب على غزة يهدفان إلى حرمان العدو الحقيقي، وهو حركة "حماس" من وسيلة البقاء، لكن في تلك الحالة فإنها تقيد دخول الغذاء بصورة شاملة بشكل يصنف جميع سكان القطاع على أنهم أعداء. وتورط غالانت عندما قال في بداية الحرب، "لن يكون هناك طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء ممنوع، نحن نقاتل حيوانات بشرية، وسنتصرف وفقاً لذلك".
ما قامت به إسرائيل يخالف اتفاق الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، الذي جاء فيه تعريف واضح للجوع، وهو "الإحساس المؤلم الناجم عن نقص التغذية وعدم كفاية السعرات الحرارية التي يستهلكها الشخص، ويصبح الجوع مزمناً عندما لا يستهلك الشخص سعرات حرارية كافية بشكل منتظم ليعيش حياة طبيعية بما يؤثر في حياته المستقبلية وقدرة جسمه وعقله على الاشتغال، وصولاً إلى موته جوعاً".
وفقاً لهذا التعريف عمل نتنياهو على تحييد تهمة الإبادة الجماعية واستخدام التجويع كسلاح في حرب غزة، وأكد أن نصيب الفرد في غزة 3200 سعرة حرارية وأن عدد "الكالوري" هذا أكبر من المستوى المطلوب.
المعايير الدولية مختلفة عن الواقع في غزة
وفق معايير منظمة الصحة العالمية، فإن الفرد الواحد في العالم يجب أن يحصل في اليوم على 2100 سعرة حرارية ليشعر بالشبع، أما بحسب منظمة الأغذية والزراعة "فاو" فإن الفرد يجب أن يتناول ما متوسطه 1600 سعرة حرارية في اليوم لييقى بعيداً من المجاعة، ولكن هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية ذكرت أن الرجل يجب أن يحصل على 2800 سعرة حرارية في اليوم، والمرأة 2000 سعرة.
في جميع الحالات فإن إسرائيل تؤكد أنها تدخل إلى كل فرد في غزة أكثر من جميع المعايير الدولية الثلاثة المعتمدة في العالم، ولذلك تؤكد أن لا مجاعة في القطاع تدفع إلى محاسبة تل أبيب على تهم ارتكاب جرائم إبادة جماعية، لكن كيف بحسب نتنياهو عدد "الكالوري" لكل فرد في غزة، وهل صحيح حصة الفرد من الحمية الغذائية، وما رأي المنظمات الدولية العاملة؟
خطة الخطوط الحمراء
لدى إسرائيل خطة "الخطوط الحمراء"، وهي دراسة أعدتها وزارتا الصحة والدفاع في تل أبيب عام 2007، بهدف احتساب استهلاك الغذاء العادي لسكان قطاع غزة وتحديداً حساب السعرات الحرارية اللازمة لبقاء الفرد على قيد الحياة، وجرى اعتماد تلك الخطة من الحكومة، وتقديمها للمحكمة العليا الإسرائيلية لإثبات أنها لا تنتهك القانون الدولي ولا تحرم الفلسطينيين من الأشياء التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمد إعاقة إمدادات الإغاثة.
وبحسب "الخطوط الحمراء" فإنه يتوجب على إسرائيل مراقبة دخول الغذاء إلى غزة وتمرير الحد الأدنى منه بما يمنع فقط حدوث مجاعة وحساب السعرات الحرارية اللازمة لبقاء سكان غزة على قيد الحياة وليس أكثر من ذلك.
وقدرت الخطة عدد السعرات الحرارية اللازمة يومياً للفرد في غزة بنحو 2279 سعرة حرارية، وخلص المؤلفون الإسرائيليون لـ"الخطوط الحمراء" إلى تلك النتيجة بعد إحصاء عدد سكان القطاع وأعمارهم، والإنتاج من الخضراوات والفواكه، وحتى عدد الدجاج الذي تربيه النساء في منازلهن.
وفي تفاصيل "الخطوط الحمراء" فإنه يتوجب إدخال 206 شاحنات طعام يومياً لغزة، قد تنقص إلى 68.6 شاحنة في حال كان هناك إنتاج زراعي محلي، وقد تقلص إلى 101 شاحنة في حال فرض عقوبات على القطاع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وطبقت إسرائيل "الخطوط الحمراء" منذ عام 2006، أي عند سيطرة "حماس" على سدة الحكم في غزة، ومنذ ذلك الحين وهي تتحكم في عدد السعرات الحرارية التي تدخل إلى القطاع، ولكنها قبل الحرب الحالية سمحت في توسيع عدد "الكالوري"، إذ وافقت على إمداد غزة بنحو 500 شاحنة يومياً، ولكن مع بدء القتال شددت الالتزام بهذه الخطة بما لا يدعها تتورط فعلياً في تهمة استخدام التجويع كوسيلة للحرب.
ويقول مقرر الأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء مايكل فخري إن "إسرائيل تسعى إلى معاقبة الفلسطينيين بالجوع، ما يعيشه سكان غزة أمر غير مسبوق في التاريخ ويمثل إبادة جماعية لا يمكن التملص منها بعدد السعرات الحرارية". ويضيف أن "تجويع سكان غزة ليس وليد الحرب، إنه مخطط يعود لأكثر من 17 سنة، عندما فرض على القطاع أطول حصار في التاريخ المعاصر، ما تطبقه إسرائيل في غزة من حساب للسعرات الحرارية هو دليل واضح على تعقيد وحجم وسرعة الأزمة التي لم يسبق لها مثيل".
نصيب الفرد من السعرات الحرارية
وبغض النظر عن حساب السعرات الحرارية، هل يحصل الفرد في غزة فعلاً على 3200 سعرة حرارية، في الحقيقة تدخل إسرائيل شاحنات محملة بالغذاء يومياً إلى غزة، سواء كان على شكل مساعدات إنسانية أم بضائع تجارية، قد يكون نصيب الفرد منها فعلاً 3200 كالوري. لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن يحصل جميع أفراد غزة على السعرات الحرارية نفسها، وهذا يعني أن هناك احتمالات المجاعة.
ووفقاً لتحليل بيانات معابر غزة الذي أجرته منظمة الأمم المتحدة للغذاء والزراعة (فاو)، فإنه منذ الـ21 من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 حتى الثالث من مارس (آذار) الماضي، سمحت إسرائيل بدخول ألف سعرة حرارية للشخص الواحد في غزة يومياً، مقارنة مع 1600 بحسب معايير المنظمة.
ولم ترصد "فاو" توزيعاً عادلاً للسعرات الحرارية بحسب المناطق، إذ ذكرت أن الفرد الواحد في شمال غزة يحصل على معدل 250 سعرة حرارية يومياً، في مقابل 750 سعرة حرارية في رفح جنوباً، ونحو 1500 سعرة حرارية في دير البلح في الوسط.
وبحسب "فاو" ليس كل الأشخاص قادرين على تناول حصتهم من السعرات الحرارية، إذ هناك 21 في المئة من السكان يعانون أزمة غذائية حادة، و53 في المئة يعانون سوء تغذية حاداً، و26 في المئة يعانون نقصاً كاملاً في الغذاء إلى درجة الموت جوعاً.
ويقول الباحث في الأمن الغذائي مصطفى قوته إن "الجوع ليس مجرد بطون فارغة لا تجد طعاماً يملؤها، إنه حالة أكثر تعقيداً من ذلك بكثير، وربما تصل إلى درجة حرب من أجل البقاء أو الموت". ويضيف أن "ثمة عوامل عدة تتداخل لتسبب الجوع، أهمها التفاوت في القوة الذي يحدد من يأكل ومن يجوع. في غزة القوي هو الذي يملك السلاح، يأكل وينهب من المساعدات فوق حاجته، بينما أطلقت إسرائيل نيرانها على الجوعى أثناء محاولتهم الحصول على وجبة".
رأي المنظمات الدولية
من وجهة نظر المنظمات الدولية العاملة في قطاع غزة يبدو الأمر مختلفاً، إذ ترى منظمة "أوكسفام" أن الأفراد يضطرون إلى العيش على 245 سعرة حرارية في اليوم، وليس كما يدعي نتنياهو.
ويقول المدير التنفيذي للمنظمة أميتاب بيهار الذي يزور غزة، "في شمال القطاع يعيشون على أقل من علبة فول، أو ما متوسطه 245 سعرة حرارية يومياً، في وقت يستمر الجيش في خنق وصول المساعدات إلى القطاع المحاصر". ويضيف بيهار أن "إجمالي المساعدات الغذائية المسموح بدخولها لسكان غزة، تصل في المتوسط إلى 41 في المئة فقط من السعرات الحرارية اليومية التي يحتاج إليها الفرد، إسرائيل تتخذ خياراً متعمداً بتجويع المدنيين".
أما مدير برنامج الأغذية العالمي في الأراضي الفلسطينية ماثيو هولينغورث فيقول "لم أر أحد في غزة يأكل 3200 سعرة حرارية، حتى عمال الإغاثة الذين ينقلون الغذاء بأنفسهم لا يستهلكون هذا العدد من الكالوري". ويضيف أن "إسرائيل تستخدم سياسة تقطير دخول المساعدات، إذ تتحكم فعلياً في كمية المؤن والسعرات الحرارية، هذا شيء مجنون ويضعها في معضلة قانونية وأمام احتمالية ارتكاب جرائم حرب".
ويوضح هولينغورث أنه "يجب إحداث نهر من المساعدات الإنسانية إذا أراد العالم ضمان ألا يرى أشكال الجوع الأكثر حدة في غزة"، لافتاً إلى أن برنامج الأغذية العالمي لم يعد قادراً على الوصول إلى مستودعه الرئيس جنوب غزة.