ملخص
ثمة من يقول إن مثل هذا النشاط يتسق مع ما نشهده من تحركات تشير إلى ظهور طبقة سياسية عسكرية جديدة في البلدان الناطقة بالفرنسية في أفريقيا، تسعى إلى السيادة الحقيقية والتخلص من نير وتسلط عدد من الدول الغربية في القارة.
عادت موسكو لسابق نشاطها وجولاتها في آسيا وأفريقيا لمواجهة خصومها الغربيين ممن يواصلون تحديهم لروسيا منذ بداية الأزمة الأوكرانية عام 2014. فبعد زيارة الرئيس فلاديمير بوتين للصين التي استهل بها نشاطه السياسي الخارجي بعد مراسم تنصيبه رئيساً لروسيا لفترة ولاية خامسة، وعودته لزيارة بيلاروس التي تبعها بزيارة مماثلة لأوزبكستان في آسيا الوسطى، ينطلق عميد الدبلوماسية الروسية سيرغي لافروف في جولة واسعة يزور خلالها عدداً من بلدان القارة الأفريقية على رأس وفد رفيع المستوى بهدف تعزيز سياسات بلاده ومواقفها تجاه "مؤتمر السلام" الذي دعت أوكرانيا إلى عقده في سويسرا منتصف الشهر الجاري، بدعم واضح وصريح من الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي.
اختراق دبلوماسي للقارة السمراء
كتبت وكالة "تاس" تقول إن الجولة التي يقوم بها عميد الدبلوماسية الروسية في عدد من البلدان الأفريقية الناطقة بالفرنسية تعدّ "اختراقاً وإنجازاً حقيقياً للدبلوماسية الروسية يلبي أهداف وتطلعات الشعوب الأفريقية". ونقلت الوكالة الروسية عن رئيس تحرير وكالة الأنباء النيجيرية عبدالرحمن شيجو ما قاله حول أن "الأفارقة يريدون بصورة متزايدة تعزيز سيادتهم والابتعاد من علاقات الاضطهاد والتحول نحو الشراكة ذات المنفعة المتبادلة".
وأضاف شيجو أن هذا "الهجوم الدبلوماسي" يتناسب مع منطق قمتي "روسيا – أفريقيا" اللتين عقدتا في سوتشي وسانت بطرسبورغ، حيث أعلنت روسيا عن رغبتها في تعزيز وجودها في أفريقيا، إلى جانب أنه يتوافق مع رغبات دول "بريكس" في التحرر من "أحادية النظام العالمي".
وثمة من يقول إن مثل هذا النشاط يتسق مع ما نشهده من تحركات تشير إلى ظهور طبقة سياسية عسكرية جديدة في البلدان الناطقة بالفرنسية في أفريقيا، تسعى إلى السيادة الحقيقية والتخلص من نير وتسلط عدد من الدول الغربية في القارة، في وقت يتوافق ذلك مع الصحوة الروسية وما اتخذته موسكو من قرار العودة إلى أفريقيا لاستئناف ما سبق وارتبطت به مع بلدان القارة السمراء من تعاون وشراكة دبلوماسية واقتصادية وأمنية في النصف الثاني من القرن الـ20.
وكان لافروف استهل جولته الأفريقية التي تعتبر السادسة في سلسلة جولاته بالقارة خلال العامين الماضيين، بزيارة غينيا حيث ناقش قضايا الشراكة طويلة الأجل، إلى جانب قضايا التعاون المشترك. وقالت المصادر الروسية إن موسكو أعربت عن استعدادها لمواصلة توريد المنتجات الزراعية والأسمدة والطاقة وغيرها من السلع إلى أفريقيا، على ضوء ما قاله الرئيس بوتين حول الاهتمام الكبير الذي تعيره بلاده لزيادة وتعميق العلاقات مع أفريقيا، ومن المقرر أن تشمل جولة لافروف الأفريقية بعد زيارته لغينيا والكونغو كلاً من بوركينا فاسو وتشاد.
شروط الصين الثلاثة والمبادئ الخمسة
وها هي الصين تكشف عما يمكن أن يكون نتاجاً للزيارة التي قام بها الرئيس بوتين إلى بكين في مايو (أيار) الماضي. وحول موقف بلادها من المشاركة في المؤتمر المزمع عقده في سويسرا منتصف الشهر الجاري، أعلنت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ شروطاً ثلاثة لمشاركة الصين، وهي "ضرورة اعتراف الجانبين الروسي والأوكراني بمؤتمر السلام وضمان مشاركة كل الأطراف على قدم المساواة، إلى جانب مناقشة جميع مشاريع السلام بصورة عادلة".
وشددت المتحدثة الصينية على ضرورة مشاركة روسيا في هذا المؤتمر على قدم المساواة مع أوكرانيا، إلى جانب مناقشة كل مبادرات السلام التي سبق وجرى الإعلان عنها، ومن ضمنها المبادرة الصينية ذات النقاط الـ12، ومن بينها "الالتزام الصارم بالقانون الدولي واحترام سيادة كل الدول واستقلالها ووحدة أراضيها، فضلاً عن ضرورة التخلي عن عقلية الحرب الباردة والحيلولة دون ضمان أمن دولة ما على حساب الآخرين ورفض المعايير المزدوجة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكانت ماو نينغ كشفت عن أنه سيكون من "الصعب على الصين المشاركة" في هذا المؤتمر بسبب الفجوة "بين جدول أعمال الاجتماع ومطالب الصين والتوقعات العامة للمجتمع الدولي"، في وقت تحدث فولوديمير زيلينسكي خلال مشاركته في "حوار شانغريلا" بسنغافورة، عما وصفه بـ"محاولات الصين لمنع مشاركة البلدان الأخرى في قمة السلام".
وقال زيلينسكي إن 106 دول أكدت مشاركتها في القمة، وإن لم يشِر إلى أن كثيراً من هذه البلدان أعلنت خفض مستوى المشاركة فيما رفضت بلدان أخرى كثيرة. وأضاف الرئيس الأوكراني الذي ترفض روسيا الاعتراف بشرعيته بعد انتهاء ولايته الدستورية في الـ20 من مايو الماضي، أن المؤتمر سيناقش ثلاث نقاط من "صيغة السلام الأوكرانية"، الأمن النووي والغذائي وتبادل أسرى الحرب على قاعدة "الجميع مقابل الجميع" وعودة الأطفال الأوكرانيين الذين تم نقلهم إلى روسيا.
الاعتراف بالأمر الواقع
وسارعت موسكو منذ بداية ظهور فكرة عقد هذا المؤتمر، وما قبله من تجمعات تشاورية على غرار ما جرى في كوبنهاغن وجدة والرياض، إلى انتقاد هذه الفكرة ورفضها أية فعاليات أو اجتماعات لا تشارك فيها، مما عاد المتحدث الرسمي باسم بوتين، دميتري بيسكوف ليؤكده بقوله إن "موسكو تعتبر المؤتمر غير مجدٍ على الإطلاق لجهة إيجاد بعض الطرق لحل النزاع حول أوكرانيا"، وأضاف أنه "من السخافة بمكان مناقشة مثل هذه القضايا من دون مشاركة روسيا".
وتابع بيسكوف أن "رفض بعض الدول حضور المؤتمر المقبل في شأن أوكرانيا يرجع إلى إحجامها عن إضاعة الوقت. أما بالنسبة إلى عدم مشاركة عدد من الدول فهذا موقف مفهوم تماماً، فالدول لا ترغب في المشاركة بحدث لا يوجد فيه تحديد للأهداف. هذه هواية لا جدوى من ورائها. الدول لا تريد إضاعة الوقت".
وكان بوتين سبق وأشار في أكثر من مناسبة إلى موقف روسيا من محادثات السلام مع أوكرانيا، مؤكداً سياسات بلاده التي أوجزها في عدد من الشروط، من أبرزها "الاعتراف بالأمر الواقع والأوضاع الراهنة على الأرض"، بما يعني عدم استعداد موسكو للانسحاب، ليس فقط من أراضي المقاطعات والجمهوريات "الأوكرانية" الأربع، بل أيضاً من شبه جزيرة القرم، إلى جانب ضرورة مراعاة ما أعلنته موسكو في مذكرتيها اللتين سبق وبعثت بهما إلى كل من حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي في نهاية عام 2021، بما تضمنتهما من طلب مراعاة الأمن المتبادل وعدم نشر أسلحة نووية في الأراضي الأوكرانية وتراجع كييف عن طلب الانضمام الى عضوية الـ"ناتو".
وكان الزعيمان بوتين وشي جينبينغ سبق وأعلنا في ختام محادثاتهما في بكين في مايو الماضي عن خمسة مبادئ تحكم علاقات البلدين على الصعيد الثنائي، وتحدد مواقفهما تجاه ما وصفاه بـ"إصلاح الحوكمة العالمية بصورة مشتركة في الاتجاه الصحيح". وتنص هذه المبادئ على "تعهد الصين وروسيا على أساس الاحترام المتبادل بدعم بعضهما بعضاً بقوة في القضايا المتعلقة بالمصالح الأساسية للجانبين، فضلاً عن التزامهما المنفعة المتبادلة لتشكيل هيكل جديد للتعاون بين البلدين، وبالصداقة التي تعود إلى قرون، ونقل شعلة هذه الصداقة من جيل إلى جيل"، إضافة إلى "تعهد البلدين في إطار روح التعاون الاستراتيجي، بتوجيه إصلاح الحوكمة العالمية بصورة مشتركة في الاتجاه الصحيح وتعزيز التسوية السياسية للنزاعات من أجل الحقيقة والعدالة"، مما يعكس أقصى درجات التحالف.
في هذا الصدد أعلنت الصين عن فكرة عقد مؤتمر للسلام بمشاركة روسيا سارعت وزارة الخارجية الأوكرانية بإعلان رفضها له، إذ أعربت عن اعتقادها بأن شروط التسوية السلمية للصراع "يجب أن تحددها كييف حصراً". وقالت إن "أوكرانيا التي تدور حرب على أراضيها، هي من ينبغي أن تحدد ما يجب أن يكون عليه السلام. والأساس العادل الوحيد لتحقيق هذا السلام هو صيغة السلام الأوكرانية للرئيس فولوديمير زيلينسكي".
رفض بلدان الفضاء السوفياتي
وكانت صحيفة "أزفيستيا" كشفت عن أن زيلينسكي الذي وصفته بأنه "منتهي الصلاحية" بعد انتهاء فترة رئاسته في الـ20 من مايو الماضي، اتصل بقادة بلدان رابطة الـ"كومنولث" (بلدان الاتحاد السوفياتي السابق) وبـ"أصدقائه الغربيين" يدعوهم إلى المشاركة في المؤتمر المزمع عقده في منتجع بورغنستوك السويسري في الـ15 والـ16 من يونيو (حزيران) الجاري، لكنهم جميعاً أعلنوا رفضهم حضوره.
ونقلت الصحيفة عن المحلل السياسي يوري سفيتوف ما قاله حول أن الجميع رفضوا المشاركة بما يعني "إعلاء التقدير السليم" لأنه من غير المجدي مناقشة الوضع في أوكرانيا من دون روسيا، مضيفاً أن "قادة بلدان رابطة الكومنولث (الدول المستقلة) يدركون برصانة أن من غير المجدي إجبار روسيا والرئيس فلاديمير بوتين على الامتثال لقرارات بعض المنتديات والتي اتخذت من دون روسيا. كما أن عدداً من قادة العالم يفهمون عدم جدوى المؤتمر المرتقب عقده في سويسرا، وهناك بلداناً لا تريد تعليمات الغرب ولن تتبعها".
تدمير "الحياد السويسري"
وفي وقت يواصل لافروف والوفد المرافق له جولته في البلدان الأفريقية الناطقة بالفرنسية استئنافاً لما بدأته موسكو في قمتيها اللتين عقدتهما في سوتشي وسانت بطرسبورغ، نشرت الصحف الروسية بيان "حزب الشعب" السويسري، وهو الأكبر في البرلمان السويسري الذي يطالب فيه سلطات البلاد بدعوة روسيا إلى المشاركة في المؤتمر، مشيراً إلى "ضرورة ألا تتحول هذه القمة إلى مؤتمر أحادي الجانب في شأن الدعاية والأسلحة".
ولفت البيان إلى خطورة استمالة سويسرا للصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا ومعها البلدان الغربية، بما قد ينذر بعواقب وخيمة. وتطرق كذلك إلى أن قيادة البلاد تحتاج إلى العودة لمبادئ الحياد السويسري، وحمّل نائب الرئيس الأعلى للمجلس الاتحادي السويسري مسؤولية التصعيد المحتمل للنزاع بعد القمة، مما قد يدمر وضعية هذا الحياد.
وخلص البيان إلى أن المجلس الاتحادي يجب عليه أن يفعل كل ما هو ممكن من أجل دعوة الجانب الروسي إلى المشاركة في المؤتمر. وفي هذا الصدد نشرت وكالة "بلومبيرغ" ما يفيد بأن مشروع الوثيقة الختامية لمؤتمر السلام المقبل، ينص على أن المشاركين في المؤتمر يخططون لإشراك روسيا في المفاوضات المستقبلية، بما يعني احتمال عقد "قمة سلام" ثانية تشارك فيها موسكو بعد إطلاعها على ما أقره "المؤتمرون" في القمة الأولى، وهو ما ترفضه روسيا "جملة وتفصيلاً"، مما اعتبره "حزب الشعب" السويسري "نتيجة لدعم الاتحاد السويسري المتسرع لأحد أطراف النزاع".