نهاية أسبوع حافلة بالأفلام والعروض والنقاشات والندوات واللقاءات عاشتها قرية الجونة السياحية على إيقاع مهرجانها السنوي (١٩ - ٢٧ أيلول/ سبتمبر) الذي يدخل هذا العام عامه الثالث. أعمال سينمائية من أنحاء العالم وبكلّ اللغات نتاج ثقافات مختلفة تتعايش على شاشات هذه التظاهرة لإنجاحها وإيصالها إلى بر الأمان، على رغم التحديات الواضحة التي ستواجههم في السنوات المقبلة، وفي مقدمها القدرة على الاستمرار والتكيف مع المناخ السياسي والعثور على شرعية جماهيرية في بيئة تغلب عليها النخبوبة.
"نحو النجوم"
عرض "نحو النجوم" للمخرج الأميركي جيمس غراي في الافتتاح قال الكثير عن طموح المهرجان: الذهاب بعيداً، ولكن ليس من دون طرح بعض التساؤلات الوجودية. سبق للفيلم أن عُرض في مسابقة الدورة الأخيرة من مهرجان البندقية، وافتتحت عروضه التجارية في بعض البلدان العربية بالتزامن مع عرضه الأول في الجونة. هذا عمل يحمل توقيع مخرج كبير، مخيب للبعض وجبّار للأكثرية، علماً إنني أميل إلى الرأي الأول. سبق لغراي أن مدّنا بتحف سينمائية، أفلام كبيرة مثل "الليل لنا" و"عاشقان" و"مدينة ذ الضائعة"، ولكن محاولته الجديدة التي تأخذ من الفضاء مسرحاً لها، يمكن وصفها بالخطوة الناقصة، وكأن غراي من شدة طموحه قرر إلقاء نفسه في الفراغ. هناك لائحة طويلة من السينمائيين تاهوا في الفضاء يُمكن إدراج غراي فيها.
يسرد "نحو النجوم" رحلة رائد فضاء (يضطلع بدوره براد بيت) إلى أقاصي النظام الشمسي، بحثاً عن والده (تومي لي جونز). الأخير كان قد سبقه إليه قبل سنوات، إلا أنه لم يعد منه. يأخذ الرائد المهمة على عاتقه معتبراً نفسه المخلّص، فهو مدفوع بحجّة شخصية. إحدى مشاكل الفيلم الأساسية (وهذه المشكلة ليست حكراً على فيلم غراي فحسب بل تعاني منها كلّ أفلام علم الخيال)، هي المصطلحات التقنية التي لا نفهم منها الكثير، والفيلم مشبّع بها، حد شعورنا في النهاية بالجهل التام. غراي أراد فيلماً وجودياً، ولكن غرق في الجدية والإطالة وفكّ الأحجية، ولكن يا للغرابة، مع كلّ شرح يزداد الفيلم غموضاً. الفضاء ليس مفهوماً غريباً على السينما الأميركية، فغزوه كان هاجس جيل كامل، وتيمة سينمائية مستهلكة بأشكال عدة ونتائج لا تصب دائماً في خانة واحدة. إلا أن مقاربة غراي للفضاء تأتي في إطار البحث عن الذات والبحث عن الذات الضائع من خلال الأب. النجوم ليست سوى ديكور سينمائي جميل. لم يحتج غراي يوماً إلى إمكانات كبيرة ليبهرنا: البساطة التعبيرية لطالما كانت حليفه في صنع ذلك الإبهار. ولعل الغريب في الأمر أن الفضاء الشاسع الذي أمامه لا يساعده في أن يكون أكثر حرية واستخداماً للحرية. عرفناه أكثر ابتكاراً وحريةً داخل شقّة ضيقة في مدينة نيويورك. ما إن وُضع الفضاء اللامتناهي في تصرفه حتى ضاع منه شيء أساسي. صحيح أن البعض يحتاج إلى قيود ليبدع.
"بارازيت" الكوري
عمل آخر لمخرج كبير يشق طريقه إلى المهرجان "بارازيت" للكوري الجنوبي بونغ جون هو الذي فاز بـ"السعفة الذهب" في مهرجان كانّ السينمائي الأخير. هذا عمل أغوى الجمهور والنقّاد، وبات متوافراً للتحميل عبر مواقع القرصنة، ولكن كان المهرجان برمجه قبل تسريبه غير الشرعي، علماً أن مشاهدته على شاشة حقيقية هي المكان الأصح لمشاهدته. لبونغ جون (49 سنة) سبعة أفلام، "ذكريات قاتل" (2003) و"أم" (2009) من بين أكثرها شهرةً، وهو أحد رواد الموجة الكورية الجديدة. "بارازيت" خليط من أنواع سينمائية يسير إلى نهايته بخطى واثقة وأكيدة، ولا يتوانى عن تفجير لحظات عبث وتشويق. كلّ شيء في الفيلم يدور على أسرة كي تك. أفرادها يعانون البطالة، إضافة إلى هوسهم بنمط عيش الجار الغني (عائلة بارك). ذات يوم، يبدأ ابن كي تك في إعطاء دروس خصوصية بالإنجليزية لهذه العائلة الثرية. ستكون هذه مقدّمة لسلسلة مواقف تشير إلى خروج الأشياء عن طورها المعتاد، ولا أحد سيتمكن من توقيف سير الأمور. الهم الاجتماعي هو السمة التي تغلب على فيلم مشغول بصعوبة العيش والصراع الطبقي. لكن لا يوجد أي اتهام سياسي مباشر. بسوداوية حيناً وعبثية محببة حيناً آخر، يقول الفيلم إن لا حلّ للفقراء سوى سرقة مَن يملكون المال ويتحكمون بمصائرهم. إلا أنه من غير العادل اختصار الفيلم بهذا الاستنتاج. يبلغ الفيلم مرتبة الكوميديا الاجتماعية السوداء، هدفه تفكيك شامل وخطير للمجتمع الكوري المعاصر.
"خائن" بيللوكيو
التفكيك هو أيضاً ما يقدم عليه المخرج الإيطالي المعلم ماركو بيللوكيو في "الخائن"، الذي كثر تحمّسوا لمشاهدته في الجونة، كونه وصل إليهم مصحوباً بأصداء طيبة، وهي غالباً ما يشجّع الناس على التوجّه إلى الصالات. بيللوكيو من السينمائيين المعاصرين الذين وثّقوا تاريخ إيطاليا الحديث. لطالما انشغل بتفاصيل بلاده طولاً وعرضاً، وإن كانت أحياناً مجرد خلفية لحكايات فردية. في "الخائن" يتطرق إلى المافيا الإيطالية، ليعود عبرها إلى فصل دموي عنيف من سجلّ الصراع مع هذا التنظيم. الحوادث التي يرويها موثقة، وكانت مادة لعدد من الأفلام، آخرها "تصوير المافيا" لكيم لونغينوتّو. إلا أن بيللوكيو يضع عليها بصمته الخاصة. الفيلم يتيحه بلوغ ذروة فنّه في عمل شديد البراعة على المستويات التقنية كافة. ذروة لم يبلغها قط في أيٍّ من أفلامه منذ "انتصار" عام 2009. "الخائن" يوفّر رحلة مدهشة إلى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، تحديداً إلى ما عُرف وقتها بـ"حرب المافيا الثانية"، حرب دارت بين مختلف فصائل المافيا الصقلية (الكورليونيون ضد الباليرميين)، وخلّفت مئات القتلى والجرحى وصنعت مآسي. مَن اطلع على تفاصيل تلك الحرب يعرف جيداً القاضي جيوفانّي فالكوني الذي خاض معركة غير مسبوقة ضد المافيا. إلا أن الأخيرة كانت أقوى منه، فتمّ اغتياله في مايو (أيّار) 1992. الحكاية تنطلق من توماسو بوشيتّا، العضو في الـ"كوزا نوسترا"، المافيوزي الذي يتوب ويقرر فضح ممارسات التنظيم الذي خدمه على مدار سنوات. ينطلق بيللوكيو من ثالوث "جريمة، عدالة، توبة"، الذي يصنع خصوصية إيطاليا العميقة، بيد أن روعة الفيلم تتأتى من محاولته تبنّي أحد الأشكال السينمائية التي كانت سائدة في السبعينيات داخل السينما الإيطالية: التفخيم الباروكي.