Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 أبطال عبير إسبر يتساقطون بحرية... الأب والأم ودمشق المآسي

التحولات السورية في رواية تراجيدية واقعية وسيكولوجية

غلاف الرواية (اندبندنت عربية)

 مَن يقرأ رواية الكاتبة والمخرجة السوريّة عبير إسبر "سقوط حرّ" الصادرة حديثا عن دار هاشيت- نوفل، يدرك تماماً أنّ السقوط الحر الذي يقترحه العنوان والمستوحى من رواية الكاتب الفرنسي البير كامو "سقوط حر" chute libre إنّما هو سقوط على أصعدة عدة. فهناك سقوط والد الراوية الذي يفتتح السرد، وهناك سقوط الأمّ التي تخلت وهجرت، وهناك سقوط دمشق في براثن القتلة والمتنازعين، وهناك أخيراً سقوط الراوية سقوطها العاطفي والأخلاقي والاقتصادي والجغرافي. سقوط على صعد كثيرة يطوره السرد ويبلوره لتتحول الراوية إلى كتلة أزمات وعقد وليتحول الفضاء السردي إلى انعكاس واضح للتهافت البشري.

لا يمكن الحديث في هذه الرواية عن أبطال حقيقيين. فالراوية ياسمينا خليل داغر التي يجب أن تكون البطلة عموماً، هي امرأة أربعينية ولدت لوالدين مطلقين وعاشت حياتها مع والد تعلمت أن تحبه ثم عادت لتشعر نحوه بالنفور، بينما لم تتعرف بشكل كاف إلى والدتها التي هجرتها وهي في العاشرة من عمرها لتسافر مع قريب أوروبي لها. ياسمينا امرأة لم تتعلم في حياتها سوى حرفة الهرب. هربت من الحب، من المسؤوليّات، من العمل، من التماسك في حياتها، حتّى أنّها هربت من دمشق مدينتها التي تعشق. هربت من كلّ شيء وفي طريقها إلى الهرب أسقطت معها حبيباً وشت به إلى الاستخبارات وتركته أسير السجون والتعذيب. فتقول ياسمينا عن نفسها هي المدركة حقيقة حالتها تمام الإدراك: "فللصغيرة ياسمينا قبيلة رجال تحبها، وعندما يربيك الرجال، يعلمونك أن تقلد الريح، وتغادر الشجر، وأن تلبس الرحيل كأنه جلد ثانٍ، وأن تتخفف من الذكريات، فتودعها عارية من النوستالجيا في أدراج الأصدقاء،"... (ص 50)

شخصية لا منتمية

ياسمينا امرأة تعاني من السقوط من مختلف نواحيه. فهي أولاً لا تنتمي جغرافياً. تتنقّل بين المدن ولا تجد لنفسها بيتاً، والبيت الوحيد الذي ورثته عن والديها في دمشق تحاول بيعه لتعيش بالمال الذي ستدره عليها صفقة بيعه. تتنقل ياسمينا السورية بين دمشق وبيروت ودبي ومونتريال وتعجز عن الشعور بالأمان والانتماء. فلا تكف عن الهرب والتهافت والسقوط إلى أن تسقط سقطتها الأخيرة التي يدوي صداها في السطر الأخير. لتتحول هذه المرأة إلى مثال سقوط جيل بكامله عايش مراحل تاريخية في سورية وتأثر بها وبات يعاني أزمات نفسية وعاطفية بسببها.

وتسقط البطلة أيضاً على الصعيد الأخلاقي. فهي المرأة الأربعينية التي تفتتح سردها بقتلها والدها تتجلى امرأة قادرة على ارتكاب أية جريمة بهدف النجاة ونيل ما تريده. تخون ياسمينا حبيبها وتشي به للسلطات وتتركه ليتعفن في غياهب السجون السورية، ليس مرة واحدة فقط إنما مرتين. كما أنها تتلاعب بالمحيطين بها، فتغري الخادمة الفيليبّينيّة البسيطة التي تعمل في أوتيل في دبي ثم تتركها لتواجه مصيرها بمفردها. تخلع ياسمينا عن نفسها القيم الأخلاقيّة والإنسانية كلها وتسقط في وحول الخيانة والطمع والجشع.

أما ذروة السقوط الذي يبلغه هذا النص فهو سقوط الراوية السيكولوجي في السطر الأخير. سقوط تراجيدي حضر له السرد وفرضه على القارئ الذي كان يشعر بأن الأمور تسير من سيّء إلى أسوأ منذ البداية. وكأن النهاية المحتمة منذ السطر الأول لم تكن لتتغير ولم تكن ياسمينا لتجد منها مفرّاً. ليتحول السقوط إلى مصير محتم وقدر مكتوب على الشخصيات كلها.

سقطات أسلوبية

يلاحظ القارئ عند توقفه عند نص إسبر أن السرد غير متماسك تماماً. فالقصة شيقة ومثيرة كما أن البداية تحفز على إكمال القراءة بنهم، إنما القصة تتهافت هي الأخرى في مرحلة من السرد وتتوقف الكاتبة عن منح قارئها معلومات جديدة عن شخصياتها. يتوقف السرد أحياناً ليعيد سرد أمور يعرفها القارئ من صفحات سابقة بتكرار غير ضروري وغير مفيد، ويتوقف في أحيان أخرى عندما توغل الكاتبة في وصف دمشق وسورية مثلا أو بيروت وذلك بشاعرية جميلة إنما مفرطة ومن دون أية علاقة بتطور الأحداث. فيجد القارئ نفسه أمام صفحات توقف فيها السرد على الرغم من أن القصّة ثرية وتحتمل الخوض فيها لصفحات طويلة. وقد يكون هذا التوقف عند وصف المدن ودمشق بالتحديد ضرباً من ضروب الحنين إلى جمال هذه المدن المندثر، فجاءت الشاعرية مبررة أحياناً وغير مبررة في أحيان أخرى.

خطأ آخر وقعت فيه الكاتبة هو عدم إمساكها الكامل بشخصياتها. فعلى الرغم من أن بطلتها تشبهها إلى حد معين وبخاصة في الخطوط العريضة من تنقلها الجغرافي وسمات مهنتها، إلا أن الشخصيات الأخرى هشة ولم يتمكن السرد من استيعابها. فبقيت شخصيات الأب والحبيب والأقرباء ضبابية، وحدها الأم شكلت شخصية متماسكة بعض الشيء بفرديتها وقدرتها الفذة على التحرر. لم تطور الكاتبة الشخصيات الذكورية على الرغم من أن بطلتها تدعي طوال السرد أنّ الرجال هم الذين ربوها وأن طباعها هي من طباعهم، ومزاجها من مزاجهم.

ولا بدًّ من الإشارة إلى فخ وقعت فيه الكاتبة ودار النشر سهواً وعن غير قصد طبعاً. فقد ورد في بداية الرواية أن والد الكاتبة توفي يوم الأربعاء في 13 من آب عام 2012 (ص 8) بينما الواقع يشير إلى أن الثالث عشر من آب العام 2012 يقع يوم إثنين وليس يوم أربعاء. وهو خطأ كان لا بدّ من التنبّه إليه.

وعلى الرغم من هذه الهفوات التي وقعت فيها الرواية، لا بد من أن يلتفت القارئ إلى استعمال أسلوبي جميل تميز به السرد، فقد تبدل استعمال الضمائر في سياق النص، أوّلاً بين استعمال ضمائر الغائب لتناول الشخصيّات، ثمّ التوجّه إليها بصيغة المخاطب في مواضع أخرى، وهو أمر حصل تكراراً ومنح النص حركة سرديّة وتأرجحاً جذّاباً وملفتاً، ففي موضع ما من السرد كانت ياسمينا تتحدّث عن والدها بصيغة الغائب ثمّ انتقلت إلى ذكرياته واستعملت صيغة المخاطب للاسترجاع: "فمَن كان خليل حقاً، هل كنتَ عاشقاً فقط يا أبي الصغير؟ في بداية الستّينيّات، وصلت إلى الشام، انكسرت نظرات عينيك، هاجمك الخجل،..." (ص 32)

"سقوط حر" رواية عبير إسبر الحديثة رمت قارئها في وسط شوارع دمشق أواخر القرن العشرين وصولاً إلى يومنا هذا، وجعلته يشهد التغييرات السياسيّة والاجتماعيّة البارزة من تلك الحقبة، فانتقل القارئ مع الشخصيّات من دمشق أيّام حافظ الأسد إلى دمشق أيّام بشّار الأسد والأحداث التي تلتها، فرمته الرواية في أزقّة دمشق وتركته ليسقط فريسة أشجارها وبيوتها واستخباراتها و"ياسمينها" سقوطاً حرّاً.

المزيد من ثقافة