بدت تصريحات ومواقف الرئيس الأميركي دونالد ترمب متضاربة ومضطربة حيال إيران خلال الفترة الماضية، وبخاصة في اليومين الأخيرين، بل ومربكة للكثيرين داخل الولايات المتحدة وخارجها، ما أثار تخوفاً من ألا تسفر هذه الاستراتيجية المتأرجحة مع مرور الوقت عن موقف حازم ومؤثر، مثلما فعلت استراتيجية ترمب تجاه كوريا الشمالية، التي كانت على الدوام مثل إيران "دولةً مارقة" بالنسبة للولايات المتحدة، إذ ظلت سياسة ترمب تراوح مكانها ولم تردع بيونغ يانغ حتى الآن أو تحولها عن أهدافها. كما أن هذه السياسة تهدد بتداعيات سلبية وبتآكل النفوذ الأميركي على الساحة السياسة الدولية إذا تواصلت دونما تغيير.
صراعان متناقضان
تشير تقارير أميركية عدة إلى أنه خلال الآونة الأخيرة، اعتمل صراعان متناقضان داخل ترمب، يتعلقان بسياسة إدارته الخارجية، فمن ناحية تتزايد رغبته القوية في تجنّب أي حرب جديدة في الشرق الأوسط، بينما تغالبه من ناحية أخرى نزعة محتدمة في ألا يظهر ضعيفاً على مسرح السياسة الدولية.
وعقب ساعات من الهجمات على منشآت النفط السعودية، أطلق ترمب تصريحات وسلسلة تغريدات ولدتها رغبته في التأكيد على لعب دور الرجل القوي، وأن الولايات المتحدة مستعدة ومتأهبة، وتملك أقوى جيش في العالم، مستعد لخوض أي نزال أكثر من أي جيش آخر. وأشعل الرئيس الأميركي توقعات حول العالم بأن أميركا ستؤدب إيران بشن ضربة انتقامية، وبأنه لن يقف مكتوف الأيدي هذه المرة أمام استفزازات طهران التي فاقت الحدود وتجاوزت الخطوط الحمراء، بالتالي لن يكرر موقفه السابق بإلغاء ضربة عسكرية ضد إيران.
وتعزّزَ هذا الاعتقاد حين بدا الرئيس الأميركي قائداً صلباً داخل البيت الأبيض، فخاطب الصحافيين وإلى جواره ولي عهد البحرين الأمير سلمان بن حمد آل خليفة قائلاً إنه لا يريد الحرب مع أي طرف، لكنه قد يضطر إلى ذلك أحياناً.
تغريدات متعارضة
وأتت تصريحات ترمب عقب تغريدات على موقع "تويتر" قال فيها، إن "هناك سبب يدعونا إلى الاعتقاد بأننا نعرف الجاني ونحن مستعدون، ولكننا ننتظر التحقق من المملكة عن المسؤول عن الهجمات"، وحينما سأله أحد الصحافيين عما إذا كانت إيران تقف خلف الهجوم، قال "يبدو الأمر كذلك"، لكنه عاد بعد لحظات ليوبخ صحافياً آخر لأنه طالبه بتوضيح هذا التصريح، فأنكر أنه قال ذلك.
الاضطراب بشأن نوايا ترمب الحقيقية في وقت تتصاعد التوترات مع إيران، عززتها تغريدة أخرى منه بأن الولايات المتحدة أصبحت الدولة الأولى المُصدرة للطاقة في العالم، وبأن أميركا لا تحتاج إلى نفط وغاز الشرق الأوسط ولا يوجد سوى عدد قليل من ناقلاتها هناك، إلا أنه أكد أن الولايات المتحدة ستساعد حلفاءها.
مزاجية ترمب
هذه التغريدة ولّدت انطباعاً متنامياً بأن السياسة الخارجية الأميركية أصبحت تتوقف على الحالة المزاجية اللحظية للرئيس، الأمر الذي تعكسه تغريداته المتناقضة بين لحظة وأخرى، ما أثار مخاوف في واشنطن بأن السياسة الخارجية الأميركية لم تعد ثابتة ومستقرة وواضحة المعالم، وقد تستغل الدول المعادية لواشنطن ذلك.
على سبيل المثال، ادعى ترمب بأن التقارير التي تحدثت عن موافقته على لقاء الرئيس الإيراني حسن روحاني من دون شروط، ملفقة وغير صحيحة، لكن وزير الخزانة ستيفن مينوتشن قال الخميس الماضي في مؤتمر صحافي عقده مع وزير الخارجية مايك بومبيو من داخل البيت الأبيض أن ترمب قال إنه سيجتمع مع روحاني من دون شروط.
انعكاسات سلبية
لو كان ترمب راغباً في إخافة النظام الإيراني عبر التهديد بشن ضربات انتقامية لما تحدث عن لقاءات مع الرئيس الإيراني في وقت تؤكد طهران أن روحاني لن يلتقي ترمب من دون رفع العقوبات الأميركية المفروضة على بلاده بالكامل، لأن ذلك أعطى على الأرجح إشارات سلبية إلى أن موقف الرئيس الأميركي أضعف من أن يواجه النظام الإيراني في ميادين القتال.
ولو تأكد بشكل نهائي- كما يقول مسؤولون أميركيون في تصريحاتهم لوكالات الأنباء- أن إيران استخدمت صواريخ كروز في شن هجمات السبت الماضي ضد المنشآت النفطية السعودية، فإن ذلك يعني أن النظام الإيراني استخلص واقتنع أن ترمب غير راغب في أن يُرفق تصريحاته الساخنة ضد طهران بعمل عسكري. وذلك ثبت فعلياً بعد إسقاط إيران طائرة درون أميركية في يوليو (تموز) الماضي، بالتوازي مع رحيل جون بولتون مستشار الأمن القومي، ما يعني بشكل كبير أن واشنطن لن ترد على الاستفزازات الإيرانية مهما كانت.
"المغامرات الطائشة"
ومن شأن هذه الخُلاصة أن تضع الأساس لسيناريوهات تقليدية تكون فيها إشارات سوء الفهم هي القاعدة لمغامرات إيرانية طائشة في قلب منطقة حساسة يعتمد عليها الاقتصاد العالمي، الذي بدأ يعاني من ملامح ركود.
ولا شك في أن ارتفاع أسعار النفط العالمية المتولد عن الأزمة الحالية سيسهم بشكل مؤثر في إضعاف الاقتصاد العالمي والتأثير سلباً في الاقتصاد الأميركي الذي يتباهى ترمب دوماً بأنه شهد تقدماً رائعاً خلال سنوات حكمه الثلاث الماضية، بالتالي سيهدد تراجع الاقتصاد الأميركي خلال الشهور التي تسبق موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المقررة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، فرص ترمب نفسه للفوز بدورة رئاسية ثانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إيران وكوريا الشمالية
يسود اعتقاد واسع في واشنطن أن مواقف ترمب السابقة والمستمرة تجاه كوريا الشمالية وزعيمها كيم جونغ أون، تشبه طريقة تعاطيه مع الأزمة الإيرانية، فالسياسات والمواقف المتضاربة التي شهدتها الأزمة مع بيونغ يانغ قبل أشهر، مرت بتوترات وتهديدات عقب التجارب الصاروخية الكورية الشمالية، إذ شهدت تغريدات قوية من ترمب وأخرى ليّنة حملت إشارات دبلوماسية أعقبتها لقاءات قمة في سنغافورة وكوريا. لكن كل هذا الصخب الذي رافق التوترات والإعلان عن اختراقات وحلول للأزمة، لم يسفر عن شيء ملموس حتى الآن، بخاصة بعدما تبين أن كوريا الشمالية تواصل نهجها الذي اتبعته قبل الأزمة بإجرائها تجارب صاروخية، كما كانت تفعل قبل لقاءات ترمب - كيم.
وما يخشاه كثيرون في العاصمة الأميركية، هو أن تُسفر سياسة ترمب المتأرجحة حيال إيران عن النتيجة ذاتها، وتنتهي سياسة التهديد والوعيد بعدم إحداث تقدم مؤثر على أرض الواقع في الملفات التي تطرحها الإدارة الأميركية.
الحاجة لمواقف متسقة
من دون مواقف أميركية صلبة ومتسقة وسياسة خارجية ثابتة، ستعاني الولايات المتحدة وترمب نفسه من تداعيات سلبية قد يدفع هو نفسه ثمنها خلال معاركه الانتخابية التي اقترب موعدها، حيث يُرجَح أن يسلك خصومه الديمقراطيون كل السبل للفوز بهذه المعركة الانتخابية الحاسمة.
والسؤال الآن هو، هل يقف الرئيس ترمب إلى جانب وزير خارجيته مايك بومبيو الذي اكتسب وزناً سياسياً أكبر بعد رحيل بولتون، وقال إن طهران تقف خلف 100 هجوم ضد السعودية بينما يتظاهر روحاني ووزير خارجيته ظريف بسعيهم الدبلوماسي للأزمة؟
اشتكى ترمب من أن مساعديه في البيت الأبيض حاولوا جره إلى حرب ضد إيران تتناقض مع تعهداته السابقة بعدم الانزلاق في أي حرب جديدة بالشرق الأوسط، ولكن إذا ثبت بشكل قاطع أن إيران ووكلاءها كانوا وراء الهجمات، فستُثار تساؤلات عدة حول دوافع إيران وكيفية احتسابها للرد على سياسات ترمب، وبخاصة سياسة "الضغوط القصوى" التي اتبعها ضدها، والتي تحاول طهران أن تخرج منها منتصرة وبأقل خسائر ممكنة.
سيكون على ترمب أن يثبت نجاح سياسته حيال إيران، بدءاً من انسحابه من الاتفاق النووي، مروراً باعتماده سياسة العقوبات الاقتصادية، وانتهاءً بسياسته المضطربة في الرد على التصعيد الخطير بتهديد الإمدادات العالمية للنفط والتسبب في اهتزاز الاقتصاد العالمي والأميركي.