Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"جمهورية الأدب العربي" كتاب أميركي يفرض نظرة جديدة

الإسلام أسهم في نهضة حركة التنوير الأوروبي

ساهم الفكر الإسلامي في حركة التنوير الأوروبية (موقع هيستوري ورلدزسوم.كوم)

كان لا بد من صدور كتاب "جمهورية الأدب العربي: الإسلام وعصر التنوير الأوروبي" وخصوصاً بالإنكليزية وعن جامعة هارفرد الأميركية، فهو يساهم مساهمة فاعلة في حل الإشكال التاريخي، الذي نشأ منذ العصور الوسطى بين الحضارة الإسلامية والحضارة الأوروبية، ونمّ عن سوء فهم، حال دون استيعاب الفكر الأوروبي السائد في حقبة ما قبل النهضة والتنوير للفكر الإسلامي. ويبدو صدوره الآن في هذه المرحلة الموسومة أوروبياً، بما يسمى "الإسلاموفوبيا"، أو الخوف من الإسلام، خير رد على الحملات المغرضة التي قامت، وما برحت تقوم، جهلاً وظلماً، ضد الفكر الإسلامي، وكان منطلقها أحداث الحادي عشر من سبتمبر(أيلول)2001. هذا الكتاب الذي وضعه الباحث الأكاديمي  الأميركي ألكسندر بفيلاكوا يقدم خدمة كبيرة، لا إلى الحضارة العربية والإسلامية فحسب، بل أيضاً إلى الحضارة الأوروبية و الحوار الإسلامي - الأوروبي، ويلقي أضواء ساطعة على زوايا، لطالما كانت مجهولة في صلب العلاقة بين حركة التنوير الأوروبي والإسلام، فكراً وديناً. وعلى خلاف ما يسود الاعتقاد العام والشائع، يكشف هذا الباحث بجرأة ومعرفة، أن الحقبة الممتدة ما بين منتصف القرن السابع عشر، ومنتصف القرن الثامن عشر، عرفت حالاً من التواصل الحقيقي بين الفكر الأوروبي والثقافة الإسلامية، وقد أسهمت حال التواصل هذه في بلورة جوهر الفكر الإسلامي الديني، وفي تصحيح النظرة الإوروبية السائدة إليه، وهي نظرة لم تخلُ من العنَت والكبرياء والتجاهل.

في هذه الحقبة، باشر المفكرون والمؤرخون الأوروبيون الذين ينتمون إلى مدرسة "الإسلامولوجيا"، أو العلوم الإسلامية والأدب العربي، والذين كانوا يعتمدون اللغة اللاتينية واللغات الأوروبية الأخرى والرائجة حينذاك، أداة تعبير، في نقد الأفكار المنحازة والمغرضة والمنحرفة عن الصواب التي كانت تواجه الدين الإسلامي، وفي مواجهة المواقف السلبية الجاهزة إزاء الإسلام والعالم العربي، مرسخين نظرات جديدة، موضوعية وحيادية، تكشف حقيقة الإسلام وتقدم صورة جلية عن عقيدته وثقافته. وقد  أدى بعض الباحثين الأوروبين في هذا الصدد، دوراً ريادياً في إعادة قراءة الفكر الإسلامي والحضارة العربية، وكان منهم من زار العالم العربي، مشرقاً ومغرباً، وعاين الحقائق والوقائع عن كثب. ولعل التعرف إلى الإسلام في أرضه وعبر أهله يتيح المجال أمام الباحث للاختبار والمعاينة. وفي مقدم هؤلاء الباحثين العالم إدوارد بوكوك وهو من مواليد عام 1604(توفي في 1691)، وقد زار مدينة حلب السورية، وأقام وعمل فيها خمس سنوات. وعندما عاد إلى إنكلترا صار أول أستاذ للغة العربية في جامعة أوكسفورد. حقق بوكوك «لامية العَجَم» للطغرائي وترجمها إلى اللاتينية مع تعليقات شافية، استعان فيها بشرح الصفدي المسمى «الغيث المنسجم في شرح لامية العَجَم»، فراح يدرس الكلمات لغوياً وفيلولوجياً، وبيّن معانيها، وكذلك من حيث الاشتقاق بين صلاتها بالكلمات العبرية والكلدانية والسريانية المناظرة لها. أما كتابه الذي ظهر في عام 1650 بعنوان عربي هو «لُمَع من أخبار العرب»، فكان أول كتاب يطبع في أوكسفورد بالحروف العربية. والكتاب يبدأ بنشر صفحات من كتاب «تاريخ مختصر الدول» لأبي الفرج غريفوريوس المعروف بابن العبري (المتوفى عام 1289)، وهي الصفحات التي قدم بها ابن العبري عرضه للتاريخ الإسلامي، وتحتوي على بعض المعلومات المأخوذة من كتاب «طبقات الأمم» لصاعد الأندلسي، والمتعلقة بتاريخ العرب في الجاهلية، وكذلك على ثبت بالحوادث الرئيسة في حياة النبي. وقدمت هذه المعلومات إلى الأوروبيين معرفة واسعة بالعرب في الجاهلية، وبتاريخ الفرق الإسلامية.

ومن الباحثين أيضاً سيمون أوكلي، (مواليد إكستير 1678)، وقد درس في كلية الملكة في جامعة كمبريدج، وبعد تخرجه عيّن أستاذاً لكرسي آدامز للغة العربية. ألف أوكلي كتاباً بعنوان "تاريخ المسلمين" وضمّنه فصلاً في "كلمات قصار لعلي بن أبي طالب"  اقتبسها من كتاب سمّاه "ربيع الأخبار" وترجمها إلى الإنكليزية، و قدم لهذا الفصل بمقدمة انتقد فيها بعض المظاهر السائدة في المجتمع البريطاني آنذاك، من قبيل الانغماس في المظاهر المعيشة والأمور الكمالية كموضة الزي والأثاث وغيرهما، وأشاد بالشرق و بخاصة العرب لعنايتهم بالكلام، والحكم والأمثال التي تعكس عمق تجربتهم. ووضع أيضاً كتاباً عن الفتوح الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل. وإلى الإثنين يضاف المؤرخ والعالم الفرنسي يوسيب ريندو، الذي وضع كتاباً عن التاريخ الإسلامي وفيه أشاد ببطولة صلاح الدين الأيوبي والجسارة التي أبداها في معاركه مع ملك إنكلترا ريتشارد قلب الأسد، وكان موقفه هذا غاية في الجرأة. وفي هذا السياق يجب ذكر المستشرق والباحث الألماني يوحنا يعقوب ريسكي، الذي كان جريئاً في مواقفه أيضاً، ووضع كتباً في اللغة العربية والتاريخ الإسلامي، وعرف عنه رأيه بأن أحد الفاتحين المسلمين، وهو طغرل مؤسس الأمبراطورية السلجوقية،استطاع أن يتفوق على الإسكندر الأكبر المقدوني في قدراته العسكرية وخططه الحربية.

 

ويتوقف المؤلف بفيلاكوا عند بداية حركة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية، وهذه قضية مهمة كتب الكثير في ميدانها. ويرى أن أول ترجمة كاملة إلى اللغات الأوروبية ظهرت في مدينة بادوا الإيطالية، وقد أنجزها عام 1698 المستشرق لودوفيكو ماراتشي، ثم تلتها ترجمة أخرى في ثلاثينات القرن الثامن عشر وقد أنجزها جورج سيل. وطبعاً راحت الترجمات تتوالى من ثم، وقد كان لهذه الترجمات كبير أثر في الثقافة الأوروبية، وأقبل على قراءتها مفكرون كبار وعلماء وأدباء، ومنهم على سبيل المثل المفكر التنويري الفرنسي الكبير فولتير والمفكر الأميركي توماس جيفرسون وسواهما. إلى أن المؤلف لا يتجاهل كتاب المستشرق الفرنسي الشهير بارتلمي ديربيلو وعنوانه "المكتبة الشرقية"، الذي صدر عام 1697، وهو يعد محطة مهمة في مسار التأليف الاستشراقي في هذه المرحلة التي انتشر فيها الوعي الغربي، لتكوين مكتبة مرجعية من الدراسات والقراءات والتحليلات لتفسير الظاهرة الإسلامية. وقد بذل ديربيلو الذي اشتهر بمعرفة اللغات الشرقية كالعربية والفارسية والتركية، جهداً كبيراً حتى ألف قاموساً للغات الشرقية، وراح يدرس التاريخ والشريعة والفنون في الشرق. وظل كتابه "المكتبة" من المراجع الرئيسة السائدة في أوروبا، حتى أوائل القرن التاسع عشر. وعلى رغم أهمية هذا الكتاب الذي يوصف بأنه دائرة المعارف الإسلامية الأولى، وقد سعى فيه مؤلفه إلى إزالة الأفكار الخاطئة المتراكمة عند المسيحيين حول الإسلام، إلا أنه لم يخلُ من التصنيف المسيحي التاريخي المغرض الذي أخطأ في فهم الرسالة الإسلامية.

من جهة أخرى، يكشف بفيلاكوا كيف أن ترجمات معاني القرآن، فتحت السبيل إلى المؤلفات العربية لتدخل أشهر المكتبات الأوروبية. وينقل عن الباحث البريطاني ديمتري ليفتين وصفه كيف راحت مكتبات أوروبا تغتني بالآثار العربية، من مطبوعات ومخطوطات، وقد أقبل عليها القراء من باحثين ومثقفين ينهلون منها الأفكار الحقيقية عن الإسلام، بعيداً من "سموم" الخصوم المعروفين.

إن كتاب "جمهورية الأدب العربي: الإسلام وعصر التنوير الأوروبي"، عمل مستنير يقدم الجهود الأوروبية التي بذلت ما بين منتصف القرن السابع عشر، ومنتصف القرن الثامن عشر، لفهم الإسلام والثقافة العربية من خلال الترجمة والتصنيف والتحليل. وقد أدت هذه الجهود الأوروبية الجديدة والموضوعية إلى توسيع دائرة البحث في العلوم الإسلامية، وإلى ترسيخ مدرسة عقلانية تتآخى مع الإسلام وتقاربه بروح علمية وموضوعية. بل إن هذا الكتاب الذي يستحق أن يترجم إلى العربية، يلقي ضوءاً على ناحية شبه مجهولة عربياً وأوروبياً، تتمثل في الدور الذي أداه الفكر الإسلامي في نهضة حركة التنوير الأوروبي، وترسيخ منطلقات الحوار الحضاري بين الشرق والغرب.

المزيد من كتب