ملخص
استقبل السودانيون رمضان هذا العام، وبلادهم على شفا المجاعة، بخاصة في المناطق التي تشهد جولات القتال بين طرفي الصراع، مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية في الولايات الآمنة نسبياً في الشمال والشرق، وفقدان كثير من العاملين في القطاعين العام والخاص وظائفهم بسبب الحرب التي قاربت مدة انطلاق شرارتها على السنة.
لم يمنع نزوح السودانيين إلى دول الجوار الأفريقي هرباً من الحرب الدائرة بين الجيش وقوات "الدعم السريع" منذ منتصف أبريل (نيسان) الماضي، من ممارسة طقوس رمضان التي اعتادوا عليها في بلدهم، بخاصة من ناحية تجمعهم في الساحات والشوارع لتناول مائدة الإفطار الجماعي التي تأتي من المنازل القريبة لهذا التجمع طوال أيام الشهر.
وتنتشر هذه العادة الاجتماعية بصورة كبيرة في القرى والأحياء الشعبية بالمدن والعاصمة الخرطوم، ويطلق عليها اسم "الضرا" وهو المكان الذي يجتمع فيه الناس حول موائد الإفطار الجماعية، ويؤدون فيه صلاة المغرب في جماعة، وغالباً ما يكون التجمع في الشوارع التي تقع في مفترق طرق عدة أو الساحات المكشوفة، حتى تتسنى لهم دعوة المارة وعابري الطريق الذين أدركهم وقت الإفطار خارج منازلهم إلى تناوله مع تلك التجمعات.
وبما أن رمضان هذا العام جاء مختلفاً عن أعوامه السابقة بالنسبة لآلاف السودانيين الذين اضطروا إلى النزوح من مناطق الصراع الملتهبة في ولايات الخرطوم والجزيرة وكردفان ودارفور وسنار إلى داخل البلاد وخارجها، لكن التغلب على الظروف القاهرة من أجل ممارسة العادات الاجتماعية الموروثة منذ القدم، سمة اشتهر بها المجتمع السوداني أينما حل. ففي الإسكندرية التي لجأ إليها عدد كبير من النازحين السودانيين، حرصت "دار السودان العام" التابعة للجالية السودانية على تنظيم إفطار جماعي كل يوم جمعة خلال هذا الشهر، فضلاً عن تجمع أسر نازحة من التي تربطها علاقات قربى وصداقة، في المتنزهات والساحات والمنازل لتناول الإفطار الذي يشتمل على الأكلات السودانية الشعبية مثل العصيدة والقراصة وإلى جانبها أصناف أخرى من الأطعمة المختلفة، لتكون فرصة للمؤانسة والتلاقي والحوار الاجتماعي مما يخفف من آلام الغربة عن الوطن في ظل المحنة التي تعيشها غالبية السودانيين بسبب هذه الحرب.
تقاليد راسخة
ويقول رئيس الجالية السودانية في الإسكندرية محمد ابراهيم النور إن "دار السودان العام في الإسكندرية اعتادت إقامة إفطار رمضان لأبناء الجالية سنوياً، لكن لأن هذا العام كان مختلفاً عن الأعوام السابقة نظراً إلى وجود عدد كبير من النازحين السودانيين بالإسكندرية رأينا أن يكون هناك إفطار جماعي كل يوم جمعة طوال هذا الشهر يحضره عدد من أبناء الجالية القدامى والنازحين على أن يُتبّع فيه النهج القائم في السودان بإحضار المائدة من المنازل التي في الغالب تشتمل على الأكلات والمشروبات الشعبية المتعارف عليها في رمضان، وتلي الإفطار جلسات مؤانسة وبرامج ثقافية ودينية واجتماعية". وأضاف، "بلا شك أن شهر رمضان بالنسبة إلى السودانيين في مصر على وجه العموم، والإسكندرية خصوصاً، يمثل تجمعاً يشبه إلى حد ما التجمعات الرمضانية التي يعيشها أهاليهم في السودان، وإن اختلفت تلك التجمعات في أنها لا تقام في الشوارع كما هي الحال في شوارع الخرطوم، إلا أنها تحيي تقاليد سودانية راسخة في وجدان الشعب السوداني الذي تتلاحم طوائفه وجماعاته وإن كانت بالخارج". ولفت النور إلى أن "عادة الإفطار الجماعي للسودانيين خلال رمضان هي المظهر الذي يعتز به كل السودانيين ويحافظون عليه بصورة دائمة حتى على نطاق التجمعات المحدودة خارج البلاد".
مؤانسة وتلاقي
من جهة أخرى، قال منتصر تاج الدين وهو أحد النازحين من الحرب، "أشعر بسعادة متناهية وأنا أتناول إفطار رمضان هذا اليوم مع مجموعة من أبناء بلدي الذين ألتقيهم للمرة الأولى، وهذه ميزة الإفطار الجماعي الذي ينتشر في كل أنحاء البلاد، حيث تكون كل الساحات والطرقات، بخاصة في القرى والمدن الصغيرة ممتلئة بموائد رمضان التي تأتي من المنازل القريبة من هذه التجمعات لإطعام المارة والفقراء".
وأضاف أنه "في الحقيقة هذه المرة الأولى التي أحضر فيها رمضان خارج بلادي بسبب الحرب اللعينة التي حرمتنا من متعة تجهيزات هذا الشهر وطقوسه الجميلة، خصوصاً من ناحية المؤانسة مع الأهل والأصدقاء، ففي منطقتنا كل الناس تحرص على الإفطار خارج المنزل وتمتد جلسة الإفطار لما بعد صلاة التراويح، ثم يغادر كل واحد منا إلى منزله للجلوس مع أسرته ما تبقى من زمن قبل السحور".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فاعلية المرأة
وتقوم المرأة السودانية بدور مهم ومؤثر في هذا الإفطار الرمضاني الجماعي، إذ تتحمل كثيراً من المجهود الذي يبدأ قبل حلول رمضان ويستمر خلال هذا الشهر، فهي تجهز ما تحتاج إليه من أغراض في منزلها استعداداً لهذه الولائم، وترتب منزلها بصورة دائمة حتى يستقبل الضيوف. وتحرص على تقديم أنواع متميزة من الأطعمة السودانية المشهورة وأهمها "العصيدة" التي من الضروري أن تكون موجودة بصورة دائمة على مائدة الإفطار، فضلاً عن الأكلات السودانية الأخرى. وتقول عائشة جبارة التي نزحت إلى الإسكندرية برفقة زوجها وأبنائها الثلاثة بعد الحرب بشهر، "على رغم أن الجو هنا معتدل ولا يشعر الصائم بجوع أو عطش، لكن افتقدنا أجواء رمضان في السودان على رغم اشتداد حرارة الشمس وغيرها من المعاناة المعيشية، فهناك توجد الألفة والتكافل الاجتماعي فالأهل والجيران يتفقدون بعضهم ولا يتركون شخصاً أو أسرة محتاجة إلا ويقدمون لها المساعدة المادية والعينية، وحالياً على رغم بعدنا من بلدنا نحضر إفطاراً جماعياً مع عدد من الأسر التي تجمعنا بها صلات قربى ومعرفة كما في السودان، سواء في إحدى الشقق ذات المساحة الكبيرة أو في أحد المتنزهات، وغالبية الموائد تكون من الأكلات الشعبية المعتادة في هذا الشهر".
نزوح ومجاعة
ويشكل الإفطار الجماعي لدى السودانيين عادة اجتماعية فيها كثير من قيم التعاون، ويبدو ذلك جلياً في القرى والأحياء الشعبية في المدن والعاصمة الخرطوم، وعلى طول الطرق التي تربطها بأقاليم السودان المختلفة حيث تنتشر تجمعات الإفطار الرمضاني.
واستقبل السودانيون رمضان هذا العام، وبلادهم على شفا المجاعة، بخاصة في المناطق التي تشهد جولات القتال بين طرفي الصراع، مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية في الولايات الآمنة نسبياً في الشمال والشرق، وفقدان كثير من العاملين في القطاعين العام والخاص وظائفهم بسبب الحرب التي قارب اندلاعها على العام.
وكان برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة قال إن 18 مليون سوداني في أنحاء البلاد يواجهون حالياً مستويات حادة من الجوع، وطالب طرفي النزاع بتقديم ضمانات فورية لإيصال المساعدات إلى المحتاجين بصورة آمنة، واصفاً عبور وكالات الإغاثة خطوط المواجهة في مناطق النزاع بالسودان بأنه شبه مستحيل.
وزاد عدد السودانيين الذين يواجهون مستويات استثنائية من الجوع، وهي مرحلة ما قبل المجاعة، إلى ما يقارب 5 ملايين، وفقاً للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي.
وأسفرت حرب السودان وفق تقارير أممية ومحلية، عن سقوط أكثر من 14 ألف قتيل في عموم البلاد، ونزوح نحو 8 ملايين شخص داخل البلاد، بينما لجأ أكثر من 1.7 مليون منهم إلى دول الجوار، وصُنفت أزمة النزوح في السودان بأنها الأكبر في العالم بحسب تقديرات الأمم المتحدة.