ملخص
يناقش الحضور بحرية مطلقة في باب الموسيقى وينسى الجميع بأنهم في مؤسسة دينية، وغير بعيد في البلد نفسه، لا يزال البعض من الدعاة المتطرفين يعتبرون الموسيقى حراماً
كان الإسلام الجزائري الأمازيغي الذي مارسه أجدادنا الأوائل في تجلياته الاجتماعية والثقافية، عامراً دائماً بقيم المحبة والتسامح والبساطة والشفافية والتعاون والتكاتف.
وخلال زيارتي الأخيرة إلى مدينة بشار في الجنوب الغربي الجزائري، والتي تقع على بعد 1000 كلومتر جنوب غربي الجزائر العاصمة لتقديم محاضرة حول تجربتي الروائية والفكرية بعنوان "40 عاماً من الكتابة والاختلاف"، كان ذلك في المكتبة الرئيسة للمطالعة العمومية.
وبعد الانتهاء من المحاضرة وحفل التوقيع لروايتي "الأصنام - قابيل الذي رقّ قلبه لأخيه هابيل"، دعيت إلى حضور ندوة حول الموسيقي وعازف العود العالمي علاّ، وإلى هنا والأمر عادي جداً أيضاً.
قلت وأنا في السيارة في اتجاه مكان الندوة "هناك مئات بل آلاف الندوات والملتقيات والمحاضرات التي قدمت في بلدان أوروبية وأميركية عن الموسيقي علاّ، ومع كل ندوة هناك شيء جديد يساعدنا في مقاربة هذه الموهبة العالمية المثيرة لفضول المتخصصين والمهتمين بالموسيقى، وعلاّ للذين لا يعرفونه، اسمه الحقيقي عبدالعزيز عبدالله، من مواليد عام 1946 بمدينة بشار، وإليه يعود الفضل في اكتشاف نوع موسيقى "الفوندو" وتطويرها والتي بفضل موهبته الاستثنائية أصبحت معروفة في جميع أركان العالم، وعلاّ هو الطفل الذي قضى جزءاً كبيراً من حياته حافي القدمين يجري فوق الرمال الساخنة، ويصنع من الألواح والأواني المكسورة والأسلاك عوده وأوتاره، وهو ابن عامل منجمي عبر حياته في ظلمة ورطوبة وغبار منجم الفحم بالقنادسة التي تبعد 22 كيلومتراً عن بشار، وهي منجم جهنمي، ومن جحيم هذه الحياة صنع علاّ الفرحة وقاوم الكآبة والتشاؤم الإنسانيين على هذا الكوكب.
وحين وصلت مكان الندوة فوجئت حين وجدت نفسي أخلع حذائي لأدخل إلى القاعة، كما فعل مرافقي، فالندوة تقام في "الدويرة"، وهي عبارة عن صالون تابع للزاوية القندوسية الزيانية ذائعة الصيت الواسع في أفريقيا والمشرق العربي.
وفي هذا الفضاء الديني يوجد ضريح شيخ الزاوية ومؤسسها سيدي محمد بن بوزيان الذي ينام على بعد أمتار من مكان الندوة التي تحتفل بالموسيقي عازف العود علاّ، والتي تنظمها مجموعة من الجامعيين والمثقفين وكتاب المنطقة بمبادرة من الكاتب والناقد الدكتور محمد تحريشي، المثقف النشط والحاضر باستمرار في الفعاليات الأدبية الجزائرية والعربية.
وهل وجود موسيقي عالمي في بيت العبادة في مؤسسة دينية إسلامية أمر مدهش ومحيّر؟ أم هي حال أسقطناها من ثقافتنا؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما في ذلك شك، فاللقاءات والندوات حول موسيقى علاّ كثيرة في العالم وتحتضنها الجامعات ومراكز البحوث ومعاهد الموسيقى والمسارح والـ "أوبرا"، لكن أن تكون الندوة وفي الجزائر وزاوية القنادسة، الزاوية الزيانية، فهذا هو المثير للدهشة وللتفاؤل أيضاً، ففي بلد مثل الجزائر الذي عانى ولا يزال من ضغط الإسلام السياسي حتى الآن، بلد عاش عشرية دموية مات فيها قرابة 200 ألف ضحية بسبب تسييس الدين، ففي مثل هذا البلد تنظم ندوة عن موسيقي معروف بحبه للحياة وللفن في مؤسسة دينية، زاوية القنادسة، فهذه خطوة أولى كبيرة وغير مسبوقة في اتجاه بناء مستقبل جديد يقاوم من أجل السلم والحب والتسامح.
نعم، في رحاب زاوية القنادسة، العقيدة تعيش في سلام مع الموسيقى، ونعم في رحاب زاوية القنادسة، العقيدة تعيش أيضاً في سلام مع الأدب رواية وشعراً.
والموسيقيون والشعراء ليسوا من المغضوب عليهم ولا من المطرودين من مؤسسة الزوايا، بيت الله، وبيت العلم والروحانيات.
فهل نحن في منعطف جديد نحاول فيه استعادة أيام الإسلام الجزائري البسيط البعيد من سياسة التطرف والقريب من الثقافة والمحبة والتسامح واحترام الاختلاف؟
أطرح مثل هذا السؤال وأنا أتابع وقائع الندوة بإحساس غريب، والتي تجري بحضور جمهور كبير، من المواطنين البسطاء الشغوفين بالموسيقي علاّ وبعض المثقفين والكتاب والجامعيين الجالسين على زراب تقليدية بسيطة ملونة، ومتكئين على وسائد بسيطة أيضاً، الواحد بعد الآخر، يقدم المتدخلون أوراقهم التي تدور بشكل عام حول شخصية علاّ الموسيقية، وصينية كؤوس الشاي تدور على الحاضرين يقدمها رجل صحراوي الملامح بابتسامة وكرم نموذجي طافح.
جو من زمن آخر
ويقدم البروفيسور محمد تحريشي مداخلته حول "موسيقى الأعماق، موسيقى الأرواح"، يعرض فيها مكانة علاّ في أوساط علماء الموسيقى الغربيين والعرب، ويعرض الأستاذ عامر يونسي ورقة بعنوان "ظاهرة علاّ" يتحدث فيها عن ارتباط علاّ بالموروث الثقافي المحلي البشاري والأفريقي، قدم من جهته الكاتب والناقد عبدالحفيظ بن جلولي مداخلة فلسفية بعنوان "صمت العود... أغنية الذات" في الاجتهاد الموسيقي وعلاقة ذلك بالتصوف والحدس الفني.
وبعد ذلك وبفخر وإعجاب كان الحاضرون يناقشون وهم يستعيدون حياة علاّ في مدينتهم، ومدى الفراغ الذي تركه في المدينة والبلد بعد أن غادرها ليستقر في فرنسا نهاية الثمانينيات، هذا الموسيقى العالمي الذي أصبحت موسيقاه علاجاً نفسياً Musicothérapie في كثير من المستشفيات والعيادات المتخصصة في الأمراض العصبية في أوروبا وأميركا واليابان.
يطول النقاش ويسخن، ويتدخل شيخ الزاوية بنفسه ليقول كلمته الوازنة في حق الموسيقي العالمي علاّ، وشيخ الزاوية يتحدث عن الموسيقي علاّ باحترام وتقدير.
هذا الزمن الجميل افتقدناه
يناقش الحضور بحرية مطلقة في باب الموسيقى وينسى الجميع بأنهم في مؤسسة دينية، وغير بعيد في البلد نفسه، لا يزال بعض الدعاة المتطرفين يعتبرون الموسيقى حراماً، ولا يخفون ذلك بل يجهرون بذلك على شبكات التواصل الاجتماعي وأسمائهم المكشوفة، وحتى على شاشة بعض قنوات التلفزيون.
إنها المقاومة في أجل صورها، مقاومة من الداخل من أجل الجمال والخير والاختلاف، وأنا أسمع المداخلات والمناقشات بما فيها من حرية وانسجام واحترام للموسيقى وللموسيقي علاّ، لست أدري لماذا، تذكرت مقالة كتبها أحد أشباه الصحافيين في التسعينيات في جريدة محلية تصدر في الغرب الجزائري، وفيها كثير من الكراهية والحقد ضد الموسيقي علاّ، والذي وصفه آنذاك بأنه "خطر كبير على شباب مدينة بشار".
الوضع يتغير والمجتمع يتحرر شيئاً فشيئاً من الأفكار المتعصبة، وبعيداً من وزن المداخلات العلمية المحترمة وشهادات الذين عرفوا علاّ وعاشوا معه أو شكلوا معيته فرقاً موسيقية قبل هجرته، فإن الذي يثير في هذه الندوة أكثر ما يقوله المكان الذي نظمت فيه، رمزية الفضاء في علاقته مع العقيدة والثقافة والمثقفين، فأول درس يقدمه لنا هذا الفضاء هو تلك الصورة عن القيم الإنسانية والسلوك الحضاري المتمثل في التسامح والمحبة بين الناس على اختلاف أفكارهم، والتي تنتجها وتدافع عنها مؤسسة دينية عريقة ممثلة في الزاوية القندوسية الزيانية التي لطالما حاربها الإسلام السياسي المتطرف الذي وصلنا في سبعينيات القرن الماضي، والذي لم يتوقف يوماً عن اعتبار الموسيقى من الأمور المحرمة، والاحتفال حرام أيضاً، وكل ما هو جميل هو مسكن للشيطان.
إن الروحانيات هي أسمنت المجتمع، وفي هذا الصالون نفسه، صالون "الدويرة" للزاوية القندوسية الزيانية، أقيمت ندوة أخرى حول رواية "الطرحان" للكاتب والجامعي عبدالله كروم والتي كانت قد حصلت على جائزة "آسيا جبار" عام 2022، وفي هذا اللقاء تأكد مرة أخرى أن هذا الفضاء الديني لا يعادي لا الموسيقى ولا الأدب الروائي.
إن الشعر كما الموسيقى العالية هما السبيلان المفضلان للمتصوفة لإدراك المراتب العليا في عشق السماء، وفي مثل هذا الزمن التكنولوجي المتوحش، حيث اختلاط القيم الفاسد منها بالصالح الجميل، وفي ظل هذا التلوث الروحي الذي حوّل الإنسان إلى آلة استهلاكية يومية، كلما فتحت أبواب مؤسسة دينية مثل الزاوية القندوسية الزيانية أبوابها للمثقفين المتنورين والفنانين الموهوبين للمناقشة الحرة وتطارح الآراء بكل احترام وهدوء وأخلاق واختلاف حول شؤون الثقافة والإبداع والرياضة والصحة، نكون قد بدأنا مرحلة استعادة إسلامنا الجزائري الشمال أفريقي بكل ما يحمله من شفافية، ورأسمال كبير من الحب والتسامح.
بعد الندوة والمناقشة حول الموسيقى أقام الجميع صلاة المغرب في القاعة نفسها، وحين نجد فناناً كالموسيقي العالمي علاّ محتفلاً به في بيت الله، الزاوية، فاعلم بأن جدار الخوف قد سقط، وأن الأرواح قد تطهرت من تسييس العقيدة، وأن صلاة صادقة عامرة بالتقوى والمحبة رفعت إلى السماء.