ملخص
ينتصر الشاعر للمكان باعتباره موضوعةً تستحق التأمل وبالتالي الاشتغال عليها إبداعياً
بعد أعمال شعرية صدرت باللغة الفرنسية تباعاً منذ التسعينيات في باريس ومونبيليه وديجون، يعود الشاعر والمترجم التونسي معزّ ماجد إلى الكتابة باللغة العربية، ليفاجئَ قراءه بعمل جديد، عنوانه "مدائن الماء"، (دار نقوش عربية – تونس)، بالشراكة مع "سلسلة الشعر العالمي" بتقديم من الشاعر التونسي أشرف القرقني. وباستثناء النصوص الثلاثة الأولى التي استهل بها ماجد عمله الجديد، والمكتوبة أصلا باللغة الفرنسية (ترجمها محمد الغزي وجمال جلاصي)، فالنصوص التسعة الأخرى مكتوبة باللغة العربية.
ينحاز الشاعر التونسي في مجموعته الشعرية الحديثة إلى الكتابة بعيداً عن الذاتية، وينتصر للمكان باعتباره موضوعةً تستحق التأمل، بالتالي الاشتغال عليها إبداعياً وفق منهج يجعلنا نسمع أصوات المكان، بدل صوت الشاعر. وهو بهذا المنحى يبدو واحداً من شعراء النبرة الخافتة في مشهدنا الأدبي الراهن. فما من بطولة مشهدية أو لغوية أو إيقاعية في "مدائن الماء".
لقد اعتاد معظم الشعراء العرب، منذ عصر ما قبل الإسلام إلى أيامنا، على تصدّر نصوصهم، عبر الحضور الطاغي للذات، إما في خطاب من التضخّم والامتلاء، أو عبر خطاب فجائعي يقوم على التشكّي والمغالاة في نقل الهموم الذاتية. ومعزّ ماجد في عمله الجديد يقطع مع الاتجاهين، بل إنه ينتقد في أحد نصوصه الشعراء الذين "كلّما ثملوا ينتحبون".
إننا بالموازاة مع الشعر، نواجه نصوصاً تنتمي إلى أدب الرحلة. لذلك يلجأ الشاعر إلى تقنيات السينما ليضعنا من حين لآخر أمام إطار ينقل تفاصيل مرئية من الحياة اليومية في البلدان التي زارها. لا يوجه الشاعر الكاميرا إليه، بل يلتقط باستمرار لقطات مقرّبة لوجوه أخرى، ويستنطق عبرها الأمكنة التي تنتمي إليها. ويبدو الشاعر مولعاً بالتركيز على تفاصيل الوجوه التي لا يكتفي بالنظر إليها فحسب، بل يحاول باستمرار قراءتها. إنه يرصّ في نص واحد موسيقياً أعمى مع نادل أعرج وشاعر ينتحب و"بائع لوز مقشّر ذهبت أسنانه"، و"سكارى يتقيؤون موتاً وشيكاً/ على فراش بالٍ"، مع "كهل مطعون في خاصرته/ يموت بين الكراتين الفارغة". وهو يحاول بهذه المشاهد نقل قسوة الحياة في المدينة، ولا يكتفي بهذا النقل، بل يبحث عن جذوره، عبر قراءة تاريخ الأسلاف وما تحوّل إليه أخلافهم.
في نص "48 ساعة في مومباي" يتجلى أيضاً افتتان الشاعر بالوصف المشهدي، حيث يتابع جلبة ساحة كولابا، ويرصد قطة تستعد للولادة، وبجانبها طفل يلهو، و"أمه تضرب على الدفّ/ من أجل عشر روبيات وابتسامة"، وإسكافي متجول وبائع قماش عربي يخرج من محلّه ليطرد الأم وطفلها. وفي نص "الذوق السليم"، وهو اسم لحانة تقع في نهج ابن خلدون بالعاصمة التونسية، يصف ليل المدينة التي "تبتلع موتها/ ثم تمضي".
قراءة في الجغرافيا والتاريخ
يقف الشاعر عند تغيّر الأمكنة ومصير الوجوه، وعند انحدار العمر، وتبدّل الأحوال وقسوة المصائر، ثم يتساءل: "تتغير أزمنة/ أيام تتغير/ تتغير وجوه/ وقلوب أيضاً/ من ذا يعرف/ ما يحوّل المطر/ إلى دموع؟".
لم يفت معز ماجد وهو يقف في "فوانتا فاكيرس"، البلدة التي ولد فيها فريديريكو غارسيا لوركا، أن يستحضر روح الشاعر الإسباني ليخاطبه بحسّ تعاطفي، ويذكره بلحظة إطلاق الرصاصة القاتلة: "هل اخضرت الأعشاب رعباً/ وهي تشرب روحك المسكوبة/ قرباناً لوحوش ضارية؟". ثم يعود لممارسة مهمته الأثيرة، عبر وصف المكان ومن فيه، مواصلاً مخاطبة لوركا: "نوتات البيانو/ تملأ هواء بلدتك الساكنة/ إلى اليوم/ جدران بيضاء يلثمها ضياء نيسان/ وتضحك حسناء يغازلها عشيقها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وغير بعيد من بلدة الشاعر الإسباني ينقل لنا الشاعر التونسي تفاصيل أخرى من "ساحة الأحزان" في غرناطة، حيث الهواء البارد والجدران الحمراء، و"قصرٌ محنّط يتهافت عليه الزائرون/ عساه يمحو حزن المدينة/ ويشغل الأنظار بزخارف من شرُّدوا في البراري". يستعيد الشاعر التاريخ التراجيدي للمدينة، مشيراً إلى مرحلة السقوط وإلى ما عاشته من انحدار لاحقاً، في الفترة الممتدة بين القرن السادس عشر وبداية القرن التاسع، قبل أن تستعيد عافيتها وتخرج من محنتها. يشير معز أيضاً إلى ما عرفته المدينة من حرائق، سواء تلك الحديثة التي طاولت الغابات، أو القديمة التي طاولت الكتب بعد سقوط الأندلس، حيث أحرقت السلطات الإسبانية في منطقة باب الرملة حوالى مليون كتاب ومخطوطة، في سياق السعي إلى محو كل أثر لحضارة المسلمين والعرب في المنطقة.
أحلام الشاعر
يراهن معز ماجد على الابتكارات البلاغية الهادئة لتشكيل نصوصه، بعيداً من التقعر اللغوي والاشتغالات الذهنية التي ترهق القارئ ولا تفضي به في الغالب إلى أية دلالة. بل إنه أحياناً يتخفف من كلّ بلاغة مستثمراً خصائص قصيدة النثر في زمنها الفرنسي السابق، حين كانت مهمة الشعراء هي نقل المشاهد والمشاعر إلى القارئ بجماليات متخفّفة من ثقل الإرث الأدبي. في هذا السياق يفاجئنا بتوليفات شعرية أخّاذة تشكلّت من مفردات بسيطة ومتداولة: "ماءٌ هادئٌ ينام في مكانٍ ما" "وشاح قلق يرعى طفولته في تجاعيدك"، "ها أنتِ تدخّنين الزمن"، "ها أنتَ اليوم/ شجرةٌ معمّرة/ تقف وحيدة في ساحة المعركة". تحضر هذه التركيبات الشعرية من حين لآخر في كتاب معز ماجد على رغم التقشف البلاغي الذي يسمه. فالشاعر مشغول أيضاً بالدلالة، إنه يريد أن ينقل إلى المتلقي قراءته للأمكنة التي زارها. فهو في نص "48 ساعة في مومباي" ينتقد المفارقات المادية التي تطبع عالم اليوم، عبر وضع مقارنات بين الفقر الذي تعيشه المدينة الهندية والثراء الهائل في ولاية ميسوري بأميركا. وفي نص "صباح هادئ في فوانتا فاكيرس" ينتقد اغتيال المثقفين والمناضلين. بينما في نص "الذوق السليم" يقف عند التحول الاجتماعي الذي عرفته المدينة التونسية، حيث أصبحت القسوة والجفاء والتوجس من الآخر سماتها الطاغية.
كتب معز ماجد عن مدن كثيرة، في بلدان متفرقة: إسطنبول، ميديين، غرناطة، تونس، مومباي، المدينة المنورة، سان فرانسيسكو، تورنتو وغيرها. كتب عنها بعين المتأمل، وبروح نقدية. لكن النقد الذي مارسه في "مدائن الماء" يقطع مع التذمر والعدمية. ربما يريد أن يقول لنا عبر كتاباته: "إن العالَم جميل، لكنّ الشاعر يريده أن يكون أجمل"، كأنما يذكّرنا بأفلاطون حين قال: "لا يجب الخلط بين المدينة العظيمة والمدينة العامرة بالسكان".