في وقت تبحث تونس عن حلول عملية لتخرج من أزمتها الاقتصادية والمالية، لا تزال ترتطم البلاد بمجموعة من العراقيل "تفرمل" إقلاعها الاقتصادي الكفيل بحل إشكاليات تنتظر الحلول في مقدمتها حفز الاستثمار وتدشين المشاريع لتوفير فرص عمل لمئات آلاف الشباب العاطل من العمل.
وعلى رغم تسجيل بعض النجاحات الصغيرة في جانب الماكرو الاقتصادي لتخفيف وطأة عجز الميزان التجاري والسيطرة على التضخم وسداد جانب كبير من الديون الخارجية، إلا أن تونس تعاني أزمات اقتصادية هيكلية تحول دون تحقيق الإقلاع الاقتصادي المنشود.
ومع أن جذب الاستثمارات الخارجية المباشرة يمثل أحد الحلول لتنشيط الحركة الاقتصادية، خصوصاً في المناطق الداخلية للبلاد لتوفير آلاف فرص العمل، غير أن نسق تدفقها لا يزال معطلاً ولم يقلع بالقدر الكافي.
فقبل عام 2011 كانت تونس محط أنظار أهم صناع القرار الاستثماري الدولي بتوافد عدد من أصحاب الشركات الكبرى لتدشين مشاريع مهمة فيها، لكن صار الاستثمار الخارجي خلال العقد الأخير معطلاً بصورة لافتة ولم تعد البلاد جاذبة للمستثمرين الأجانب بالصورة المطلوبة.
ومقارنة بتحويلات المغتربين التونسيين (2.2 مليار دولار) والعائدات السياحية (2.1 مليار دولار) وعائدات زيت الزيتون (1230 مليون دولار)، تحتل الاستثمارات الخارجية تقريباً المرتبة الرابعة كأهم مصدر للنقد الأجنبي في البلاد عام 2023.
ولم تستقطب تونس استثمارات خارجية العام الماضي سوى بقيمة 813 مليون دولار، وهو رقم متواضع جداً بالمقارنة مع مخططات الدولة ورغبتها في إعطاء دفع جديد لهذا القطاع الذي بقي "ضحية" عوامل موضوعية داخلية عدة.
أرقام متواضعة
تبرز الإحصاءات الرسمية التي نشرتها وكالة النهوض بالاستثمار الخارجي (حكومية) في شأن حصيلة تدفق الاستثمارات الخارجية المباشرة خلال العام الماضي أن تونس تمكنت نسبياً من استقطاب استثمارات خارجية بقيمة 2522.3 مليون دينار (813.6 مليون دولار) بزيادة بنسبة 23.5 في المئة مقارنة بعام 2022، متجاوزة بذلك الهدف المرسوم لكامل السنة الماضية والمحدد بـ 2500 مليون دينار (806 ملايين دولار).
وأظهرت البيانات أن الاستثمار في البورصة قفز من 7.6 مليون دينار (2.4 مليون دولار) في 2022 إلى 136.8 مليون دينار (44.1 مليون دولار) خلال السنة الماضية.
وتشير هذه المؤشرات إلى أن الساحة المالية في تونس لا تزال متواضعة وضيقة ولم تبلغ درجة كبيرة من التعاملات لتكون ساحة مالية إقليمية قادرة على جذب التعاملات المالية العربية والأوروبية.
وسجلت الاستثمارات الأجنبية المباشرة نمواً بنسبة 7.7 في المئة لتبلغ مع نهاية العام الماضي 2385.8 مليون دينار (769.6 مليون دولار).
وبالنسبة إلى التوزيع القطاعي للاستثمارات الدولية المباشرة، فباستثناء قطاع الطاقة الذي تراجع بنسبة 4.3 في المئة، فإن بقية القطاعات سجلت نمواً إيجابياً لكن قيمته متواضعة.
وفي الوقت نفسه استقطب قطاع الصناعات المعملية استثمارات دولية بقيمة 1480.3 مليون دينار (477.5 مليون دولار) بنهاية العام الماضي مقابل 1300.9 مليون دينار (419.6 مليون دولار) في 2022 بتطور بنسبة 13.8 في المئة.
وفي المقابل قبع القطاع الفلاحي (الزراعي) في المرتبة الأخيرة من حيث قدرته على جذب الاستثمارات الأجنبية بسبب صعوبة الاستثمار الأجنبي في القطاع الفلاحي في تونس نظراً إلى التشريعات الصعبة وتواضع التحفيزات المادية، إذ لم يستطِع القطاع الفلاحي استقطاب سوى 18 مليون دينار (5.8 مليون دولار) السنة الماضية مقابل 9.6 مليون دينار (3 ملايين دولار) في 2022، لكنها تظل متواضعة بسبب ضعف مشاريع الشراكة في القطاع الفلاحي.
تواضع تدشين المشاريع الجديدة
ومن جانب آخر أفادت وكالة النهوض بالاستثمار الخارجي بأن تدفق الاستثمارات الخارجية المباشرة من دون احتساب قطاع الطاقة مكّن من إنجاز 638 عملية استثمارية بقيمة 1916.3 مليون دينار (618 مليون دولار) وفّرت 14746 فرصة عمل.
وتوزعت العمليات الاستثمارية على 118 عملية تخص مشاريع جديدة بقيمة 216 مليون دينار (69.6 مليون دولار) أحدثت 5126 فرصة عمل مباشرة وإحصاء 520 عملية استثمارية تهم مشاريع توسعة بقيمة 1700.2 مليون دينار (548.4 مليون دولار) مكنت من توفير 9620 فرصة عمل.
فرنسا المستثمر الأجنبي الأول
وبخصوص التوزيع الجهوي للاستثمارات الخارجية المباشرة المتدفقة على تونس خلال عام 2023، أظهرت بيانات الوكالة تواصل تسجيل فوارق لافتة بين الأقاليم والمحافظات، إذ تركزت نحو 50 في المئة من الاستثمارات (313.8 مليون دولار) في إقليم تونس الكبرى، تحديداً تونس العاصمة (175.4 مليون دولار) في حين استقطب إقليم الشمال الشرقي 24 في المئة من إجمالي الاستثمارات الدولية (148.3 مليون دولار).
أما بالنسبة إلى التوزيع وفق البلدان، فحافظت فرنسا على مركزها الأول كأول مستثمر أجنبي في تونس باستثمارات بقيمة 197 مليون دولار، تليها قطر في المرتبة الثانية التي وظّفت 94.7 مليون دولار، ثم إيطاليا بـ 84.9 مليون دولار، فألمانيا في المرتبة الرابعة باستثمارات بقيمة 76.7 مليون دولار لتحل الولايات المتحدة الأميركية في المركز الخامس بنحو 17.7 مليون دولار.
أرقام جيدة ولكن
وفي تعليقه على الأرقام والمعطيات المسجلة قال المدير المركزي في وكالة النهوض بالاستثمار الخارجي حاتم السوسي إن "تونس تمكنت من تجاوز الأهداف المرسومة في جذب الاستثمارات الدولية والمحددة بقيمة 2500 مليون دولار"، مستدركاً في تصريحاته إلى "اندبندنت عربية" أن "الرقم جيد، إلا أن تونس بإمكانها تسجيل أفضل من ذلك من منطلق الإمكانات والطاقات الواعدة التي تزخر بها لاستقطاب مزيد من الاستثمارات الخارجية المباشرة".
وحول التوزيع القطاعي للاستثمارات الدولية، أوضح أن "القطاع الصناعي، خصوصاً الصناعات المعملية أخذت المشعل على قطاع الطاقة الذي أصبح يمثل 20 في المئة فحسب، من إجمالي الاستثمارات الدولية المتدفقة على تونس"، مشيراً إلى
وجود نسيج صناعي متطور جداً في البلاد مكّن من إحداث القيمة المضافة وصار يمثل 62 في المئة من إجمالي الاستثمارات الدولية مقابل 30 في المئة قبل 2011.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعند تطرقه إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية في قطاع الطاقة، شرح السوسي أنه "معطل" بسبب تراجع عمليات البحث والاستكشاف وتواضع منح رخص التنقيب وانحصار عملية إسناد الرخص في البرلمان، لكنه أبرز في المقابل أن تونس تراهن جدياً على الطاقات المتجددة، إذ من المنتظر أن يصل إنتاج الكهرباء من الطاقات البديلة إلى 35 في المئة عام 2035 مقابل ثلاثة في المئة حالياً.
واعتبر أن حجم الاستثمارات الأجنبية في الطاقات المتجددة سيرتفع في تونس خلال السنوات المقبلة، كاشفاً عن أن عمليات التوظيف في هذا المجال بلغت نحو 30 مليون دينار (10 ملايين دولار) خلال 2023.
وخلص السوسي إلى أن تونس تعمل على جذب استثمارات دولية خلال عام 2024 بقيمة 2820 مليون دينار (909.6 مليون دولار) لترتفع إلى نحو 3000 مليون دينار (967.7 مليون دولار) خلال 2025.
عدم استقرار التشريعات
يتذمر عدد من صناع القرار في دول عدة من عدم وضوح الرؤية السياسية والاقتصادية في تونس، مما جعلهم يحجمون عن الإقامة فيها والتوجه إلى دول أخرى مثل المغرب ومصر.
ويعتبر المتخصصون في الاستثمار الخارجي أنه بالتوازي مع عدم الاستقرار السياسي فإن هناك عدم استقرار على مستوى التشريعات الاقتصادية، لا سيما عدم الاستقرار الضريبي.
ويعترض كثير من المستثمرين الأجانب والتونسيين على عدم الاستقرار في النصوص القانونية، خصوصاً الضريبية التي تتضمنها قوانين المالية سنوياً، داعين خلال مشاركتهم في الندوات والتظاهرات إلى اعتماد الاستقرار في التشريعات الاقتصادية، مما يعطي رؤية على المدى المتوسط والبعيد للمستثمرين لبرمجة استثماراتهم.
وشددوا على أنه من الضروري في ظل الفترة الحالكة التي تمر بها البلاد أن يعطي المسؤولون الحكوميون رسائل طمأنة للمستثمرين الأجانب والتونسيين بالشروع في إنجاز الإصلاحات الاقتصادية الملحّة.
تراجع لافت
وفي هذا الإطار أكد المتخصص في مجال الاستثمارات الخارجية خليل العبيدي أن نسبة الاستثمار تنخفض من عام إلى آخر مقارنة بالناتج المحلي الخام للبلاد، إذ كانت النسبة عام 2010 بحدود 24 في المئة، بينما وصلت اليوم إلى أقل من 15 في المئة، مشيراً إلى أن الاقتصاد التونسي عقب أزمة "كوفيد-19" لم يستعِد عافيته بصورة جيدة، ويقول "بل ازداد الوضع صعوبة مع اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية التي أسهمت في مزيد من التباطؤ في الاستثمار، إلى جانب نقص التمويلات الخاصة بعد أن أدار صندوق النقد الدولي ظهره إلى تونس".
وتابع العبيدي في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن "الدولة التونسية لها نظرة قصيرة المدى بخصوص الأزمات، إذ لا وجود لحلول واستراتيجيات على المدى المتوسط والبعيد"، قائلاً "الإصلاحات التي تم إقرارها لم تنفذ بالصورة المطلوبة ولم تطبق بطريقة جيدة لا على المستوى المؤسسي ولا حتى على مستوى إجراءات الاستثمار ولا على مستوى التعريف بفرص الاستثمار المتاحة"، وشرح أن "المشكلة ليست تشريعات أو قوانين، بل إن الأزمة تكمن في عدم التطبيق والتنفيذ."
تونس بلد جاذب ولكن...!
وأقر العبيدي بأن تونس وجهة جاذبة للاستثمار من الجانب التاريخي والثقافي والجغرافي نتيجة قربها من الأسواق الكبرى، إلا أن ما يعرقل تطور الاستثمار عدم اتخاذ إجراءات كبرى لتشجع المستثمر الأجنبي أو التونسي.
ولفت إلى أن "غياب الاستقرار السياسي إضافة إلى عدم بعث رسائل طمأنة حالا دون استقطاب الاستثمارات الأجنبية".
إجراءات جديدة لتحسين مناخ الأعمال
سيتم العمل خلال 2024 على تسريع نسق الإصلاحات الرامية إلى تحسين مناخ الأعمال وتعزيز ثقة المستثمرين بموقع تونس في الخريطة العالمية للاستثمار من خلال مواصلة تنفيذ الإجراءات المضمنة بالاستراتيجية الوطنية لتحسين مناخ الأعمال 2023/2025.
وتتعلق الإصلاحات وفق ما كشف عنه الميزان الاقتصادي لسنة 2024 بمراجعة بعض مقتضيات مجلة الشركات التجارية في اتجاه تدشين صنف جديد من الشركات، لا سيما الشركات ذات الصورة المبسطة والعمل على تكوين القضاة في المسائل الاقتصادية وتأسيس قطب خاص بالنزاعات التجارية، إلى جانب تعزيز الدوائر التجارية في المحاكم، فضلاً عن مواصلة رقمنة الخدمات المتعلقة بالإجراءات الديوانية وبرمجة جملة من الإصلاحات تهم الجوانب اللوجستية على غرار إعادة هيكلة الموانئ التجارية والشروع في إدراج المنافسة ضمنها.
تأثير إيجابي في قطاع الاستثمار
وضبطت الحكومة وفق ما تضمنه مشروع الميزان الاقتصادي حزمة جديدة من الإجراءات التي من شأنها دفع الاستثمار الخاص والتي تعكس التزامها توفير مناخ أعمال محفز للمستثمرين المحليين والأجانب واعتبرتها تدابير رئيسة، متوقعة تأثيرها الإيجابي في قطاع الاستثمار في تونس، على أن تطلق الخريطة الرقمية للعقارات المتاحة للاستثمار في اتجاه تطوير المعلومة الاقتصادية للمستثمر.