Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هكذا نجا زعيم القاعدة من "تورا بورا" بعد إحكام الطوق عليه 

 بن لادن... هالة البراءة الخادعة إذ تتستر على فخ "جيفارا" الجهاديين

أفغان يتابعون عمليات القصف الأميركي على تورا بورا التي كان يعتقد أن أسامة بن لادن اختبأ في ممراتها الوعرة 16 ديسمبر 2001 (رويترز)

على الرغم من مرور سنوات من الزمان على مقتل الزعيم المؤسس لتنظيم القاعدة أسامة بن لادن إلا أنه لا يزال يثير الجدل والحيرة، نظير شخصيته المتناقضة، التي خدع الجانب البريء منها أقرب الناس إليه والأبعدين، ليوقع دولاً وجماعات وأشخاصاً في فخ الجانب الدموي لـ"جيفارا الجهاديين" من حيث لا يشعرون أحياناً، وهو الذي غدا ملهماً ومثلاً حتى لمنافسه في العنف زعيم تنظيم داعش أبي بكر البغدادي، لدى خروجه الأخير آخر أبريل (نيسان) الماضي وهو يحاكي بن لادن في إشاراته وتعبيراته ووعيده وسلاحه الرشاش.

لكن هذه السمة التي يسميها رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق تركي الفيصل "الحياد الخادع"، لازمت بن لادن في وقت مبكر من طفولته وحياته الأولى قبل الانخراط في العمل العسكري حسب ما روى لـ"اندبندنت عربية" مقربون من الرجل وما تتبعت من أخباره وشهادات رجال تنظيمه، ولم تكن أمه علياء غانم استثناءً، فلم تستطع أن ترى في ابنها غير "هالة البراءة"، غير مصدقة لكل ما يقر به ويدافع عنه من عنف وقتال وسفك دماء الأبرياء.

وحتى حين تنتاب غانم لحظة واقعية، فإنها لا تزيد على القول " كان ولداً بالغ الطيبة إلى أن التقى ببعض الاشخاص الذين غسلوا دماغه وهو في العشرينيات. يمكن القول إنهم كانوا فرقة، لديهم المال لتمويل قضيتهم. وكنتُ على الدوام أطلب منه الابتعاد عنهم، ولم يكن يقرّ أبداً بما هو فاعل، من شدّة حبّه لي”. وهي تنظر إلى صورة له مكبرة على زاوية من مجلسها الأنيق، يرتدي بزته العسكرية التي اعتاد الظهور بها كرجل حرب في أفغانستان، يعتمر عمامة صغيرة فوق رأسه على طريقة أسلافه اليمنيين، قبل أن يستبدلها بعمامة مضيفيه الأفغان.

أسامة في عين أمه

لكن غانم التي كانت تتحدث إلى صحيفة "الغادريان" لم يوافقها حتى ابناها غير الشقيقين لأسامة وهما حسن وأحمد، إذ قالا للصحيفة في أغسطس (آب) العام الماضي إن والدتهم على الرغم من "مضى 17 عاماً لا تزال تنكر ما حصل مع أسامة، إذ كانت تحبه حباً جمّاً، رافضة إلقاء اللائمة عليه، بل تلوم كل المحيطين به. لا تعرف إلا الطفل الطيب داخله، وهو الجانب الذي نعرفه كلنا. لم تتعرف على جانبه أو صورته كجهادي"، من دون أن تلتفت إلى ما ألحقه من أذى بسمعة العائلة التي اقترنت عند السعوديين بـ"الحرمين" في مكة والمدينة المقدستين لدى المسلمين عامة، بوصف شركة مقاولاتها التي تحمل اسم العائلة نفسها، هي المكلفة من جانب الحكومة السعودية بإقامة الإنشاءات وتقديم الخدمات لزوار المسجدين لعقود عدة، من دون منافسة تذكر من بقية الشركات السعودية.

وبدلاً من الامتيازات المعنوية والمادية والمجد الذي ظلت العائلة تتمتع به من قبل، ظلت محاصرة جراء أفعال ابنها أسامة وولده حمزة أخيراً، ولم تعد حتى الآن إلى وضعها السابق، يوم كان زعيم القاعدة السابق نفسه أحد أقطاب امبراطورية الأسرة، ومشرفاً على المشاريع التي فازت الشركة بها لإقامة توسعة غير مسبوقة في حينه للمسجد النبوي، حيث قبر نبي المسلمين.

ويروى صهره من أهل المدينة المنورة سعد الشريف، كيف كان بن لادن في تلك الأيام رجلاً صالحاً، يثير اهتمام المحيط المدني الذي بدا مهتماً بكل تفاصيل مشروع "توسعة الملك فهد" للمسجد النبوي الذي انطلق عام 1984م وهنالك نال حظه هو الآخر من "سنارة" بن لادن، فاصطاده أولاً بعد سجال ونقاش، بينما كان الهدف الأكبر فيما بدا أخت سعد "سهام"، التي غدت فيما بعد أم خالد زوجة بن لادن، التي رفضت بادئ الأمر الارتباط بأسامة لولا أن ضغط أخيها وفخ زعيم تنظيم القاعدة كان محكماً.

وعن ذلك يقول أخوها " لا أنكر أنني بذلت جهوداً مضنية في سبيل إقناعها، لكن الذي ساعدني على ذلك هو ما كان أسامة يتمتع به من سمعة طيبة يومئذ، والدليل على ذلك أنها حين قررت الموافقة بعد سنة من المحاولات معها، برهنت على أنها لم تر في أسامة غير صورته التي ذكرنا، فتبرعت بمهرها وذهبها كاملاً للجهاد في ذلك الوقت بمجرد أن سُلمت من جانب أسامة، وهو تصرف مثالي في تلك السنوات، كان الجميع يشجع عليه ويحرض".

وغادرت سهام السعودية مع زوجها نحو السودان 1991م حيث أكملت دراساتها العليا، وحصلت على درجة الدكتوراه في تحقيق تفسير أجزاء من القرآن الكريم، لكنها ظلت فيما تقول أسرتها حزينة على ارتهانها بمصير رجل لم يكن هو الذي تحلم به في المدينة المنورة، وظلت تحمّل ما وقع لها معه أخاها سعداً الذي استمات في اقناعها بالزواج من بن لادن، وعادت بعد مقتل زوجها وابنها خالداً إلى اسرتها في السعودية، رفقة زوجتيه الأخريين السعودية خيرية صابر، واليمنية أمل السادة.

قناع "تاجر حضرمي"

وعلى المنوال نفسه نصب بن لادن الفخ لأصغر زوجاته أمل السادة، التي روى ابن عمها الذي تربت معه في بيت واحد وليد السادة، قصة إلقائها في شرك الزواج المثير للجدل حينها في اليمن، إذ كان بعد أن استقر أسامة في أفغانستان مع أكابر رجال التنظيم عام 1999م، أي قبل نحو عامين فقط من تنفيذ عمليات 11 سبتمبر (أيلول).

وقال " قصة زواج بن لادن بابنة عمي التي تربينا معاً في بيت جدنا عبدالفتاح أحياناً تستطيع أن تقول طبيعية، وأحياناً تقول إنها أشبه بالخرافة. فنحن عندما انتقلنا إلى بيتنا الجديد في المدينة، حيث كان أبي "شيخ الحارة"، تعرف عليه رجل يدعى محمد البعني، وبعد حين خطب إليه إحدى بنات عمي، التي تكبر أمل. لكن المفاجأة أن الرجل الصالح الكتوم والحذر، في الوقت الذي كان معنا تربطه علاقة بابن لادن من حيث لا ندري. البعني عندما تزوج بابنة عمي سافر إلى أفغانستان فيما علمنا بعد، فلما رآه بن لادن أعجب بحاله وارتياحه فسأله: لماذا تأخرت عني، وتبدو كأنك سعيداً؟ فأجابه بأنه تزوج من بيت السادة امرأة طيبة، أسعدته كثيراً. سكت بن لادن وانتهى الموضوع عند ذلك الحد، إلا أنه فيما بدا أغوته فكرة الزواج بأخت المرأة التي سمع مديحها من زوجها".

 وكيف استطاع الوصول إلى مراده، يقول السادة إن أسامة عندما استهواه الموضوع لم يكلم البعني مباشرة، وإنما كلم شخصاً آخر اسمه رشاد محمد سعيد، وقال له: شف لي امرأة من بيت السادة! سأله سعيد: وما يدريك أن لدى تلك الأسرة امرأة مناسبة؟ فلم يطل معه الحديث وقال له: أنت فقط ابحث، وما كان سعيد يعلم بالتفاصيل السابقة مع البعني. لم يكن ليرفض لصديقه طلباً فتوجه إلى اليمن في عام 99 من القرن الماضي، ولما سأل عن الأمر، فهم خيوط اللعبة، وفاتحوا أم البنت في بداية الأمر في خطبة أمل، لكنهم لم يكونوا يصرحون باسم الخاطب، فعندما سألتهم هي وعمي وجميع من لهم علاقة بالأمر، كانوا يقولون: "تاجر حضرمي".

ولما بدأ الموضوع يتطور إلى إجراءات زواج حقيقية بعد الموافقة المبدئية، يرددون أن اسمه: أسامة محمد عوض بن لادن. ولم يكن بن لادن في ذلك الوقت شخصاً معروفاً كما هو بعد أحداث 11 سبتمبر، فمرّ الاسم من دون أن يثير شك أحد، خصوصاً البنت التي رضيت بنصيبها وقالت: على بركة الله، بعد ما شاورها والدها، وهي التي لا تملك تلفزة في بيت أسرتها ولا انترنت يومها، وهكذا تم إغراؤها بـ"التاجر الحضرمي" من دون التوقف كثيراً عند من يكون، فتم الموضوع بشكل أشبه بـ"الحيلة" أو الكذبة البيضاء. لكن الزوجة الصغيرة يبدو أنها استأثرت بقلب الرجل الذي يكبرها بنحو 30 عاماً، وأصبحت سعيدة بما تلقاه من اهتمام، حسب رواية ابن عمها.

هالة البراءة الخادعة، جعلت قبل ذلك رفاق طفولة بن لادن ممن كانوا مذهولين من استحالة الحمل الوديع الذي يخجل من ظله إلى رجل الإرهاب الأول في العالم، مثلما يروى الكاتب السعودي الدكتور خالد باطرفي، ابن احدى العائلات الساكنة مدينة جدة غرب السعودية بجوار عائلة بن لادن، حيث التقى المراهقان في مناسبات لعب الكرة وأماكن اللهو المتاحة في المملكة آنذاك.

وتطرق إلى حادثة اعتبرها ذات مغزى، إذ تعارك أسامة ذات يوم مع صديق ثالث بسبب سوء تفاهم حول "الكرة"، فما كان من باطرفي إلا أن تدخل وعالج الموقف بتصرف لا يخلو من قسوة، بينما جاء بن لادن ليُهدئ من التوتر، قائلا لصديقه المناصر "كنت سأعالج الموقف بروية أكثر"، ثم ينتهي المطاف بصاحب الروية إلى المصير المعروف، والمتوتر إلى كتابة المذكرات والمقالات!

وكانت تلك الروية، وهالة الحياد الخادع التي تجعل الناظر إلى زعيم تنظيم القاعدة يستبعد نزوعه إلى العنف أو طيش رجال العصابات والدماء، هي التي ربما جعلته يسيطر على معظم من التقاهم ليضعهم في صفه أو على الأقل ينزع منهم فتيل النقمة عليه.

الطمع في اليمن الجنوبي

وذكر رئيس الاستخبارات السعودي الأمير تركي الفيصل، جانباً من أثر تلك الشخصية على المحطات التي مر بها بن لادن، لدى حديثه إلى العربية، عن جهود بلاده في إقناع الرجل بالعودة مواطناً صالحاً قبل أن تُسقط عنه جنسيتها كما فعلت بابنه حمزة هذا العام.

ووثق أن بن لادن حاول أن يقنع السعوديين بالدخول في معركة أخرى مع بعد أفغانستان لاسقاط الحكم الشيوعي في اليمن الجنوبي (كان حينها منفصلاً عن اليمن الشمالي، وإليه تعود أصول والد أسامة محمد عوض) على غرار أفغانستان، لكن الفيصل الذي عرف ما كان يرمي إليه بن لادن قطع عليه كل آمال الاستمرار في نسق أفغانستان، إذ كانت مهمة وانتهت، غير أن أسامة فيما بدا حتى للفيصل لم يكن يريد العودة مواطناً عادياً يمارس عمله الاعتيادي، وإنما استهواه الزخم الجهادي ولم يفق بعدُ من سكرة نجوميته.

وحين يئس من انطواء حيلته على السعوديين، وجد في الحركة الإسلامية في السودان استجابة سريعة عند حسن الترابي وعمر البشير ورفاقهما ممن كانوا حينها  في طور الهيمنة على مؤسسات الدولة، بعد انقلابهم في ثمانينات  القرن الماضي، فأقنعهم بأنه سيكون مساعداً لهم على استتباب نفوذهم، وخصوصاً في قتال الجنوبيين الطامحين للاستقلال، وإقامة مشاريع البنية التحتية، التي اكتسب بن لادن خبرة الاشراف عليها من امبراطورية عائلته، وهي خبرة استفاد منها كثيراً في شق الطرق في جبال أفغانستان الوعرة وحفر الخنادق، التي أدرك رجاله قيمتها في اللحظات الحرجة، إبان الغزو السوفيتي والأميركي على السواء، كما يوثق خلفه أيمن الظواهري حين تناول معركة "تورا بورا" بالتفصيل، وكيفية النجاة منها بعد إحكام الطوق على مجاميع القاعدة.

السودانيون حين وجدوا أنفسهم محاصرين باستحقاقات دولية عدة، حاولوا توظيف بن لادن يومئذ في المساومة بحسب رواية تطابق عليها سعد الشريف وتركي الفيصل، فيروي الأخير أن "الرئيس عمر البشير أتى في زيارة للسعودية بداية 1996 للحج والعمرة، والتقى أيامها ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، وقال للأمير عبدالله (قبل أن يكون ملكا) نود أن نتعاون معكم، ومن سبل التعاون هذه أننا مستعدون إنا نسلمكم بن لادن، وفي حينها ولي العهد استبشر بذلك وقال أهلا وسهلا يرجع لبلده وإلى آخره..".

هل هو مكر البشير وشهامة الأفغان؟

غير أن البشير حسب رواية الفيصل على قناة العربية، التفت إلى المسؤول السعودي وقال له "على شرط أنكم ما تحاكموه، فالأمير عبدالله في حينها مباشرة قال له ما عندنا أحد فوق القانون، والشريعة تطبق على الجميع، فليأت ويضمن حكم عادل من الشرع... فلم يعد السودانيون يذكرون ذلك".

وليس واضحاً ما إذا كان السودانيون وقعوا هم أيضاً في فخ "هالة البراءة" الخادعة لابن لادن أم لا، إلا أن الوقائع التي روتها مصادر "اندبندنت عربية"، أفادت بأن كلا الطرفين استفاد من الآخر وحاول مخادعته، فبينما كان بن لادن يلتقط أنفاسه ويعيد ترتيب صفوف رجاله وليس فقط لاجئاً في البلاد التي استضافته، كانت الحكومة الإسلامية في السودان على حد قول الشريف تبحث تسليمه ليس مع السعوديين فحسب ولكن أيضاً مع الأميركيين، إلا أن رجال البيت الأبيض أجابوا بأنهم لا يرغبون في التعامل معه، إذ ليست هناك أي قضية منظورة ضده في أميركا!

وإذ يقر الفيصل أن الأميركيين أخطؤوا حينئذ في تقييم الخطر الذي كان يمثله زعيم تنظيم القاعدة، بدا أن سفارة واشنطن في السودان لم تجد في تحركات بن لادن ما يثير الريبة أو يستحق إثارة الرأي العام الأميركي بإخضاعه للمحاكمة في أميركا. هذا على الرغم من معرفة أجهزتها الأمنية بدور الرجل في الحرب ضد السوفيات، إذ كانت الصواريخ التي يسقط بها مقاتلوه الطائرات الروسية مؤمنة من جانب الأميركيين، وفق ما تم الإفصاح عنه بعد كشف النقاب عن كواليس الحرب الأفغانية ودور "المجاهدين العرب" فيها.

ولا يزال تنظيم القاعدة تطالب السودانيين بإعادة أموال زعيمهم التي قالوا إن حكومة البشير نهبتها ورفضت تسليمها لمالكها بعد أن فرّ منها على عجلة من أمره نحو أفغانستان 1996م.

لم تكن حركة طالبان الوليدة أحسن حالاً، فما إن عرض عليها بن لادن أن تستضيفه بعد أن شم رائحة الغدر من السودانيين، حتى استجابوا لذلك. ومع أن بن لادن ساعدهم مع مجموعة من رجاله في فرض السيطرة على معظم أفغانستان وإعلان دولتهم، إلا أنها سريعاً ما تهاوت على خلفية أحداث 11 سبتمبر (أيلول) التي كان طالبان أول ضحاياها، بعد أن رفضوا التخلي عن بن لادن، كما يروي رئيس الاستخبارات السعودي الأسبق، الذي قال إنه حذر زعيم حركة الطالبان الملا عمر عند رفضه تسليم بلاده بن لادن من أن الأخير سيجلب لبلاد عمر المتاعب.

أما بالنسبة للجماهير الإسلامية التي ظل بن لادن يوجه إليها خطاباته المتكررة، فإنها أيضاً استطاع بن لادن إغواءها بشعارات مثل إخراج المشركين من جزيرة العرب، ومزاعم "إحياء شعيرة الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، والثأر للفلسطينيين من الصهاينة المحتلين"، مثلما اعتاد أن يردد هو وخلفه الظواهري، الذي ندد آخر بيان لتنظيمه بمؤتمر البحرين حول صفقة القرن في يونيو (حزيران) الماضي، تحت عنوان "القدس توحد المسلمين"، دعت فيه التنظيم الأمة إلى تحريرها بقوة السلاح.

كيف أخفى بن لادن "عور" عينه؟

ويرى سعد الشريف في مذكراته التي دون عن صهره بن لادن، أنه استطاع أن يخفي عن الجماهير الإسلامية، الحظوظ الشخصية التي ينطلق منها، والزعامة التي يستميت من أجلها، فيما كان الصورة التي يظهر بها أنه زاهد في كل ذلك. حتى إنه صرخ في وجهه ذات مرة عند نقاشه في تفاصيل من هذا القبيل في السودان، واتهمه بأنه "عميل للاستخبارات السعودية"، ليتجه كل منهما إلى طريق مغاير، فيعود الشريف إلى بلاده وبن لادن إلى أفغانستان.

ويروي خلفه أيمن الظواهري، ضمن سلسلة خصصها لتأبين رفيقه، شاهدتها "اندبندنت عربية"، تحت عنوان "أيام مع الإمام" يعني بن لادن، كيف أن  الأخير كان على خلاف ما يظن أكثر الناس "أعوراً"، فلا يرى بعينه اليمنى، وأقر بأن المشاهد الذكي فقط من سيلاحظ ذلك. أما برهانه على ذلك فهو كون زعيمه يضع سلاحه الرشاش على كتفه الأيسر، في صوره القليلة التي ظهر بها وهو يرمي الرصاص، لافتاً إلى أن أسامة لا يفعل ذلك لأنه "أعسر" يوظف يده أو عينه اليسرى عوضاً عن اليمنى، وإنما دافعه إلى ذلك هو فقده بصر عينه اليمنى. من دون أن يوضح أسباب فقده إياه.

وكشف الظواهري لدى حديثه عما يعتبره مناقب إمامه، أن بين ما يحسب له، "قدرته على الجمع بين المتناقضين من الجماعات الإسلامية والأشخاص من كل البلاد والمشارب، فيستخدم كل واحد منهم فيما يصلح له".

وبدأ هذا النهج بشيخه عبدالله عزام الذي تبناه ليصبح نجماً سعودياً وجهادياً، مستفيداً من قدرة بن لادن على جمع الأموال. فما إن شق طريقه في أفغانستان حتى اختلفا على نهج العمل، فاستغل ابن لادن الخلاف البسيط في الاستقلال عن أستاذه الذي اغتيل قبيل نهاية الجهاد الأفغاني، لكن ابن لادن لم ينقطع عن الإشادة به للاستفادة من زخمه الإعلامي بوصفه كما يقول "أحيا الجهاد في هذا العصر، وهي الشعيرة التي لا بواكي لها".

الظواهري: أسامة كان إخوانياً

وفي هذا الصدد يقر الظواهري في السلسلة التي أخرجها بأن بن لادن جاء إلى أفغانستان بادئ الأمر بوصفه ممثلاً عن تنظيم "الإخوان المسلمين الدولي"، قبل أن يخالف تعليماتهم ويطردوه من الجماعة. لكنه مع ذلك أبقى على حبل الود موصولاً بينهم، إذ كان بن لادن دائماً يردد على سبيل المزاح "أنا مطرود من تنظيمي. أنا أصلاً كنت في تنظيم الإخوان ومطرود، فأنا أحد المطرودين من التنظيمات. أنا مفصول" حسب الظواهري.

وفي حين يعتقد أتباع بن لادن أن انتماءه لتنظيم الإخوان المسلمين، تهمة غير بريئة يوجهها أعداؤه إليه، يحكي الظواهري بالصوت والصورة في السلسلة المشار إليها، قصة زعيمه الذي نعته بصديق الجميع، فيما تجتهد التيارات الجهادية في إضفاء هالة من النزاهة المنهجية عليه، ورفض تصنيفه إلا جهادياً سلفياً، ضداً عما يقرره مختصون في تاريخ جماعة الإخوان أمثال السعوديين علي العميم ومشاري الذايدي وعبدالله بن بجاد، الذين يرون تناسل الجماعات الجهادية جميعها بشكل أو آخر من رحم تنظيم جماعة الإخوان المسلمين، التي بدأت مصرية في 1928م قبل أن تصبح دولية تحشد الأتباع في كل المعمورة.

وقال الظواهري "الشيخ أسامة بن لادن كان في جماعة الإخوان المسلمين في جزيرة العرب (السعودية)، ولما بدأ الغزو الروسي لأفغانستان نفر الشيخ إلى باكستان ليتعرف على المجاهدين ويعاونهم، فكانت توجيهات التنظيم التي تعرفونها، بأنك لا تتخطى لاهور، تذهب إلى الجماعة الإسلامية في لاهور، وهناك تترك المعونات والاعانات وهم يوصلونها وأنت ترجع، عندما ذهب الشيخ لم يقتنع بتوجيههم فوجد طريقه إلى بيشاور ومن ثم إلى المجاهدين الذين اندمج معهم وبدأ نشاطه معهم ودخوله إلى أفغانستان".

ويواصل الظواهري شهادته حول هذه الواقعة بإضافة أن "تنظيم الإخوان عندما علم بخطوة الشيخ حذروه قائلين: نحن قلنا لك لا تذهب إلى سوى لاهور، وها أنت ذهبت إلى بيشاور ثم تخطيت ودخلت أفغانستان، وإذا تم أسرك وأنت سعودي في أفغانستان سيعمل الروس مشكلة كبيرة مع الحكومة السعودية، ورتبوا له هكذا قصة مركبة بعضها فوق بعض تنتهي في النهاية أنك لا تجاهد في أفغانستان، جهادك تدفع الأموال في لاهور فقط، الشيخ قال لهم: هذا لا يصلح، قالوا له: إذاً أنت مفصول، قال: خيراً إذاً أنا مفصول". ويعقب زعيم القاعدة الحالي على الرواية التي حكاها بالقول "الشيخ أسامة بعد أن كان مفصولاً من تنظيمه أصبح ملتقى التنظيمات الإسلامية وأصبح رجل له شعبية وقبول بين المسلمين والمجاهدين"، على حد وصفه.

وينفي كثير من الإسلاميين السعوديين، أن يكون لتنظيم الإخوان المسلمين عمل سري حقيقي في السعودية، خلافاً للرواية الرسمية التي تتهمهم بالتغلغل في البلاد، وفرض تفسيرات ضيقة للإسلام في سلوك المجتمع ومناهج التعليم، عبر أذرعهم المحلية التي تعرف سعودياً بـ"الصحوة"، بينما الظواهري يذكر ذلك باعتباره حقيقة عادية معروفة. مثلما يشير إلى ما يعتبره شعبية ظفر بها رفيقه تستحق التنويه، في حين يصور المريدون زعيم التنظيم بن لادن سامياً عن كل حظوظ النفس مثل الاهتمام.

مقاتل يأتيه الإغماء من الهزال؟

ولا تخرج صورة بن لادن "القائد العسكري" التي أراد ترسيخها في الأذهان إثر ظهوره أكثر الأمر ببذلة عسكرية، عن القاعدة العامة لشخصيته الخادعة، فحتى على هذا المستوى كما يقول الفيصل لم يكن بن لادن مقاتلاً بالمعنى الذي أشاعه تنظيمه في الآفاق بل كان يصاب بالإغماء في المعارك. وأضاف " كان يغمى عليه أثناء القتال، وحين يستيقظ، يلقى الهجوم السوفياتي على موقعه قد انحسر".

ولا ينكر رجال بن لادن ضعف قوته البدنية التي جعلت بأسه في المعارك لا يذكر، إذا ما قورن بحنكته ودهائه السياسي وتدبيره الأموال، فهذا الظواهري في معرض حديثه عن معاناة رفيقه التي تحمّلها جراء ما يسمونه الجهاد، يقول "الذين يعرفون الشيخ وعاشروه، يعرفون أن صحته كانت ضعيفة جداً، حتى أنه في معارك جلال آباد كان يأتيه إغماء من الهزال، وكان يغذى بالمحلول الوريدي، فكان الشيخ يعاني صحياً كثيرا".

إلا أن برغماتيته تجعله خلافاً لما يروج أنصاره مثل أي سياسي آخر، يعوض بها ضعفه العسكري إن كان بصفته الشخصية أو التنظيمية، مثلما حدث في معركة "تورا بورا" الشهيرة، حيث جرت محاصرة بن لادن مع نحو 300 من رجاله في رمضان 2001 بعد أحداث 11سبتمبر، وفُرض عليهم طوق جوي وبري، جعل من تصفيتهم أمراً محتوماً بالنسبة إلى المؤشرات والمعطيات في ذلك الوقت، قبل أن يستخدم بن لادن حيلته المعتادة في استمالة أحد الجنرالات الأفغان من رجال يونس خالص السابقين-من الممكن ان علاقة وطيدة كانت تربطه ببن لادن- فيشيع أن العرب يرغبون في التفاوض حول الاستسلام ذات مساء، فيتخذ مهلة الهدنة فرصة للانسحاب وتأمين نفسه وجمع من رفاقه.

ابن الشيخ رجل "تورا بورا" أم بن لادن؟

أما الذي خاض المعركة كلها، وراح ضحيتها فكان حسب شهادة الظواهري رجل يدعى ابن الشيخ الليبي، بوصفه القائد العسكري لـ "تورابورا" وليس بن لادن الذي نسجت حول قيادته لها الأساطير. ويقول إن رفيقه كان مديناً لابن الشيخ كلما تذكره قائلا: "ذاك رجل فدانا بنفسه".

وقال إن ابن الشيخ تمكن من تأمين الانسحاب، وقتال المهاجمين بعتاد لا يذكر مقارنة بتجهيز الطرف الأفغاني في البر والأميركي في الجو، وخرج من "تورا بورا" بأقل الخسائر، إلا أنه بعد الدخول إلى باكستان وقع وكثير من رجاله في الأسر، بعد ذيوع خبرهم بواسطة أحد عملاء الجيش الباكستاني، أو المنافقين كما تسميهم القاعدة. ومن هناك نقل ابن الشيخ إلى غوانتانامو قبل أن يسلم إلى بلاده في عهد القذافي، ويودع السجن. إلا أنه لم يخرج أبداً. ورجح الظواهري أنه قتل بسبب عدم استجابته لمبادرة المراجعات في السجون الليبية التي نشط فيها سيف الإسلام القذافي ونظام والده قبل بضع سنين من اندلاع الثورات العربية في 2011.

بعد انكسار تنظيم القاعدة ومقتل كل رجالاته في السعودية في مواجهات ما بعد 2003 أصيب بن لادن بخيبة أمل كبيرة، إذ باء طموحه بالانتقام من الحكومة السعودية بالفشل، مثلما يروي قائده العسكري علي الفقعسي، ما دفعه إلى البحث عن آلية يعيد بها إحياء تنظيمه وإعادة الزخم إليه، وهو ما وجده في العراق عبر الزرقاوي، ومن ثم تنظيم المغرب الإسلامي الذي أخذ يخطف السواح، ويعقد صفقات تمد القاعدة بأموال هي في أمس الحاجة إليها، بعد فرض الحصار على التبرعات في السعودية عقب 11 سبتمبر.

وفيما كان الصحافي السعودي الراحل جمال خاشقجي، يقدر أن الثورات العربية ستقضي على التطرف وتنهي القاعدة، كشفت الوقائع على الأرض ومراسلات بن لادن التي أفرج عنها الأميركيون بعد مقتله 2011م، أن زعيم القاعدة كان يعول عليها كثيراً في توسيع نفوذ تنظيمه، وإيجاد أرضية للتفاهم ولو من خلف الستار مع الحكام الجدد.

"الدولة" عشق بن لادن الممنوع

بينما كانت تجربته السياسية، تدفعه للاعتقاد بأن رجاله حتى وإن استطاعوا فرض سيطرتهم على بعض البلدان الضعيفة سياسياً مثل اليمن أو شمال مالي أو حتى ليبيا لاحقاً لا يمكنهم الاستمرار في حكمها، بسبب رفض العالم لفكر التنظيم ورؤيته للحياة والحكم.

وقال مجيباً قائد تنظيمه في اليمن ناصر الوحيشي الذي يعرض عليه فكرة احتلال صنعاء في وثائق آبوت آباد "بخصوص قولكم إن أردتم صنعاء يوماً من الدهر فهو اليوم فنحن نريدها لإقامة شرع الله فيها، إذا كان الراجح أننا قادرون على المحافظة عليها، فالعدو الأكبر رغم استنزافه وإضعافه عسكريا واقتصاديا قبل الحادي عشر وبعده، إلا أنه ما زال يمتلك من المعطيات ما يمكنه من إسقاط أي دولة نقيمها رغم عجزه عن المحافظة على استقرار تلك الدول، ولكم عبرة في إسقاط دولة طالبان ... خلاصة القول: رغم ضعف الدولة وقابليتها للسقوط فإن الفرصة لإسقاطها وإقامة حكومة بديلة متاحة لغيرنا لا لنا".

إقرار أسامة بن لادن بفشله في إقامة دولة على أي أرض أو على الأقل استحالة ذلك حينئذٍ، جرب تنظيم داعش معاندته إلا أنها انتهت إلى ما حذر منه. لكن زعيم القاعدة الحالي أيمن الظواهري، يرفض أن يكون مشروع بن لادن قد فشل، فاعتبر في سلسلته التي أبن بها رفيقه في التنظيم، أن أسامة "نجح مع رجال في كسر هيبة أميركا واستهدافها في عقر دارها، وهزيمتها في أفغانستان في تورا بورا، وتهديد مصالحهم أينما كانت"، حسب قوله.

هل ذهب كل شيء هباء؟

على المستوى العائلي، اختصر مقتل أسامة بن لادن أمام زوجاته وأبنائه وأحفاده، حجم المأساة التي ورّثها أسرته الصغيرة والكبيرة، وهي المأساة التي لم يرد لها أن تنتهي إذ حاول قبل أن يقتل إقامة ابنه حمزة خليفة له في التنظيم، وملاحقة الغرب وحلفائه أينما كانوا، ليذهب هو الآخر إلى مصير أبيه المأسوي، حسب التقارير التي نقلتها وسائل الإعلام الأميركية الشهر الماضي.

ويتحدث عن هذا الجانب بصراحة أكثر، أخوه غير الشقيق حسن العطاس، قائلا "علّمني (أسامة) الكثير، ولكنني لست فخوراً بما آل إليه. فهو سعى الى النجومية على الساحة العالمية، غير أن هذا كله كان هباء”.

وكانت رسالة حمزة إلى والده من سجون إيران، تعبر عن جانب آخر من مأساة العائلة المزدوجة، وهو الذي يقول فيها  "والدي الحبيب.. لم أكن أتصور عندما فارقتك أنا وأخي خالد وأخي بكر عند سفح الجبال التي ذهبتم إليها عند مزرعة الزيتون أن يكون طول هذا الفراق المر.. ثمان سنوات متتابعات، ولا زالت عيناي تذكر آخر نظرة نظرتها إليك عندما كنت تحت شجرة الزيتون وأعطيت كل واحد منا سبحة نذكر الله بها، ثم ودعتنا وذهبنا وكأنما خلعنا أكبادنا وتركناها".

وذكر مثل أي ابن أنه تمنى أن يكون والده بجواره "خاصة في فترة النمو التي مررت بها حيث كان عمري عندما تركت ثلاث عشرة سنة وأصبحت الآن على مشارف الثانية والعشرين، كنت أتمنى أن أكون بجوارك لأتطبع بطباعك وأكون كما تريد أو أفضل، وكما تتمنى أو أكثر، فقد مررت بمواقف عصيبة كنت أتمنى فيها أن أراك ولو دقيقة واحدة آخذ رأيك السديد فيها، وكنت كل مرة أجد القيود بيني وبينك تمنعني...".

ومع كل هذا يبقى الخفي من شخصية بن لادن وتجربته وتناقضاته، في تقدير الباحثين أكثر مما يظهر. إلا أن كشف الأميركيين عن بقية الوثائق التي تركها، يمكن أن يساعد على التعرف أكثر على مزيد من تطورات وأسرار التنظيم وزعيمه الذي زرع الرعب في العالم أجمع، ولم يوفر حتى عائلته وأبناءه. 

هذا المقال نشر في 11 سبتمبر (أيلول) 2019 وتعيد "اندبندنت عربية" نشره بمناسبة ذكرى هجمات سبتمبر

اقرأ المزيد

المزيد من سياسة