ملخص
أكثر الدول تضرراً من نقصان المواليد هي اليابان. والصين تتراجع عن المركز الأول للولادات لصالح الهند. فما الأسباب؟
يدأب موقع وورلد ميتير (World Meter) على تزويدنا على مدار الجزء من الثانية بالإحصاءات الحية للولادات حول العالم، التي تظهر في تزايد مستمر. وفي حين بلغ عدد الولادات في الشهر الأول من هذا العام أكثر من 12 مليون ولادة، قابله نحو خمسة ملايين من الوفيات. ولكن ميزان الولادات والوفيات يختلف بين القارات والبلدان والمجتمعات. فينتج ذعر "انقراض المكون الأوروبي" من ناحية، وكابوس "القنابل البشرية" في بعض دول آسيا وأفريقيا من ناحية أخرى.
من أفريقيا وإليها
دراسات عدة في مجال علوم الآثار أظهرت أن حياة البشر بدأت في أفريقيا منذ أكثر من 100 ألف عام، وكان إنسانها سيد الأرض، وعلى رغم دخول القارة عصور مظلمة من العبودية واحتلالها لزمن طويل، فإن الواقع الآن يشير إلى انفجار سكاني في أراضيها قد يسود أوروبا بعد أزمة تناقص الإنسان الأوروبي. ففي مقابل معدل الخصوبة في بعض دولها يصل إلى سبعة أطفال للمرأة الواحدة، فإنه لا يتخطى الطفلين في معظم دول أوروبا. فعلى سبيل المثال بلغ متوسط معدل الخصوبة في النيجر سبعة أطفال لكل امرأة، حيث ازداد عدد سكان هذا البلد من 3.5 مليون في عام 1960 إلى 25 مليوناً في عام 2020، أي نحو سبعة أضعاف في غضون 60 عاماً.
وبحسب الأمم المتحدة سيكون نصف النمو السكاني مصدره أفريقيا بحلول عام 2050، إذ من المتوقع أن يصل عدد سكانها إلى 2.5 مليار نسمة، مقابل 1.44 مليار في عام 2023.
الأرقام تتكلم
وذكر تقرير للمعهد الفيدرالي لأبحاث السكان في ألمانيا العام الماضي، خفض عدد المواليد إلى نحو النصف. وكانت دراسة ألمانية نشرها معهد "بلانك" للبحوث الديموغرافية سبق وحذَّرت من تراجع عدد سكان أوروبا، بحيث يتراجع كل جيل عمن سبقه بنسبة 25 في المئة، ليصل التراجع إلى 50 مليون نسمة بحلول عام 2050. وأوصت الدراسة على تشجيع الإنجاب، بما يعادل 2.1 طفل لكل امرأة، للعمل على عدم تناقص عدد السكان. واعتبرت الدراسة أن أحد أهم أسباب تراجع الولادات في أوروبا يعود إلى المرحلة الدراسية الطويلة، والطموح لتحصيل مهارات على الصعيد العملي لدى النساء والرجال. ودعا خبراء الدراسات السكانية إلى تطوير سياسات تشجع على الإنجاب كدعم المرأة العاملة وتأمين الرعاية للرضع والأطفال مما يتيح للمرأة العودة باكراً إلى عملها.
واعتبر تقرير نشره موقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، أن أكثر الدول المتضررة من تتناقص عدد السكان هي اليابان التي يمكن أن يقل عدد سكانها من 128 مليون نسمة في عام 2017 إلى أقل من 53 مليون نسمة بحلول نهاية القرن، أي إلى أقل من النصف، ومثلها إيطاليا من 61 مليون نسمة إلى 28 مليون نسمة، في حين يتناقص عدد سكان كل من إسبانيا والبرتغال وكوريا الجنوبية وتايلاند إلى نحو النصف.
وأفاد التقرير بأن الهند ستكون الأولى في عدد السكان، وستتفوق على الصين بعدد الولادات بعد تراجع الأخيرة من 4.1 مليار نسمة ليصل عام 2100 إلى 732 مليون نسمة، كما هو متوقع. من ثم ستسجل 183 دولة من أصل 195 معدل خصوبة أدنى من مستوى التعويض.
فما أسباب تراجع عدد الولادات؟
يعود تراجع وارتفاع معدلات الولادات إلى عوامل عدة اجتماعية، واقتصادية، وثقافية. منها ما يتعلق بتراجع المجتمع الزراعي، وزيادة مستويات التعليم، ومشاركة المرأة في سوق العمل، إضافة إلى نمط الحياة المتسارع، وارتفاع كلفة المعيشة، وكلها عوامل أسهمت في تأخير الزواج وتأسيس الأسرة، مما يؤدي إلى تأجيل قرار إنجاب الأطفال. كما تأتي التحولات في القيم الاجتماعية والثقافية لصالح تفضيل الأفراد تحقيق التحصيل الشخصي على حساب الإنجاب، إضافة إلى أن كلف العيش المريح التي تحتم عمل الزوجين لساعات طويلة، تحول دون إنجاب عدد من الأطفال أو الاكتفاء بطفل واحد.
وتقوم الحكومات الأوروبية بجهود حثيثة لمعالجة مشكلة عدم الإنجاب، وتفتح أبوابها للمهاجرين، في محاولة لتفادي "الانقراض" البشري، بعد أن بذلت أوروبا في العصور الماضية جهوداً حثيثة لتحديد النسل لحساب الرفاهية في الحياة، إضافة إلى الأسباب بيئية.
وعبر البابا فرنسيس في إحدى عظاته عن الرعب القائم في القارة العجوز لتحفيز الناس على الإنجاب وعدم الاكتفاء بتربية الكلاب والقطط، معتبراً الأمر أنانية. وقال "نرى أن الناس لا يريدون إنجاب أطفال أو يريدون إنجاب طفل واحد فقط لا أكثر. وكثير من الأزواج لا أطفال لهم، لكن لديهم كلبان، وقطتان. نعم، الكلاب والقطط تحل لديهم محل الأطفال".
بين التفضيل الشخصي والمساعدات
ترفض الفرنسية آن الإنجاب كلياً معتبرة أنها الأحق بتعبها من أي شخص آخر، ولتنفق أموالها لسعادتها وسفرها بدل إنفاقها لسنوات على طفل سيتركها حتماً عندما يكبر. كما أنها لا تشاء أن تورط فرداً جديداً في الحياة، على حد قولها. لا تخشى آن على شيخوختها، فهي عملت مدة كافية ودفعت ضرائبها بانتظام، والنظام الصحي في بلدها لن يرميها على باب مستشفى، ولا تحتاج إلى ولد سند يرافقها ويخدمها أيام المرض والعجز.
في المقابل، عانت اللبنانية إلهام الأمرين لتنجب ولداً بعد محاولات كثيرة بالإخصاب الاصطناعي ليكون سنداً لها ولزوجها كما كان زوجها سنداً لأهله وأهلها. وتقول إنها تأسف أن تفكر بهذه الطريق لكنها تعيش في بلد لا يهتم بكباره حتى لو عملوا طوال حياتهم.
ويروي الفرنسي من أصول لبنانية سيرجيو جيلبير أنه نال مساعدة من الدولة لإنجاب طفل ثالث في تسعينيات القرن الماضي، في خطة انتهجتها الدولة الفرنسية حينها للتشجع على الإنجاب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
القنابل السكانية والأديان
من ناحية أخرى، تلعب التقاليد والقيم الاجتماعية دورها بإتقان أيضاً في زيادة الولادات على الطرف الآخر من العالم، إذ تشجع الأسر بما تحمله من ثقافة والتزام ديني في بعض الدول النامية على الإنجاب، بخاصة في المجتمعات الزراعية، حيث يعد عدد الأولاد ميزة اقتصادية مهمة.
وتسهم المعتقدات والتقاليد الدينية بصورة كبيرة في التأثير في اتخاذ قرارات الإنجاب. بعض الديانات تشجع على الإنجاب وتروج لقيم الأسرة الكبيرة كجزء من واجبات الزواج. وقد تؤثر معتقدات دينية حول الأسرة والدور الاجتماعي للنساء في اتخاذ قرارات حول الإنجاب.
تتفق الديانات السماوية على أن الهدف الأساس من الزواج هو النسل وإنشاء العائلة وتربية الأولاد بحسب تعاليم الدين. ويحث رجال الدين على الإنجاب، وعدم استخدام وسائل منع الحمل.
ويعتبر الإنجاب لدى الديانة اليهودية واجباً إلهياً، وتمنع الإجهاض إلا في حالة الخطر على حياة الحامل. كما مجد الإنجيل العائلة والأولاد وكان للكنيسة جولات كثيرة لمنع الإجهاض. وكذلك اعتبر الدين الإسلامي البنين "زينة الحياة الدنيا"، وفي حديث صحيح عن النبي محمد يحث فيه على التناسل عبارة "تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة".
وتعتبر الديانة الهندوسية الأطفال نعمة. وفي سياق الصراع السياسي في الهند، دعت بعض الجماعات الهندوسية المتطرفة إلى الإكثار من الولادات حتى لا يطغى المسلمون عددياً. وعلى رغم موجات الغضب تجاه هذه الدعوات من قبل الحركات النسائية والناشطين الحقوقيين، فإن الأمر لافت، حيث تظهر كثرة الإنجاب سلاحاً في صراع البقاء. حتى إن مقولة "البقاء للأقوى" قد يطرأ عليها تعديل لتصبح "البقاء للأكثر".
ومع الحرية والليبرالية التي طرأت على تقاليد الأديان تبدو فكرة الإنجاب حرية شخصية للأفراد، في حين تقيد بعض المتدينين فكرة الإكثار بقدر المستطاع في تماه مع تنفيذ أحكام الدين وتقاليده.
فهل تنقذ التقاليد والأديان هذا الجزء من الكرة الأرضية وتجعله يسود بكثرة مواليده؟
الحروب والنزوح
تبدو الحروب التي تلتهم الدول النامية وكأنها قشة النجاة التي تتعلق بها القارة العجوز عندما يتدفق إليها المهاجرون بعائلاتهم وعاداتهم وثقافتهم التي تحثهم على الإكثار من الولادات، على رغم ما تظهره أحياناً كثيرة قوى اليمين المتطرف شراسة في مهاجمة المهاجرين، لكن لا خطط بديلة لديها، مما جعل الأصوات المتشددة تجاه استقبال المهاجرين تعدل لهجتها وتتجه نحو فكرة اختيار أي مهاجرين يريدون.
وتراجع الولادات في أوروبا يعني تراجع اليد العاملة والمنتجة من ثم ارتفاع نسب الشيخوخة مما يستوجب مزيداً من الإنفاق على بدل التقاعد والإنفاق على الخدمات والرعاية الصحية. وقد لا يكون فتح هذه البلدان أبوابها للمهاجرين لتغطية نقص اليد العاملة حلاً، بل ربما يطرح إشكاليات جديدة.
في سياق منفصل، تشكل الحروب دافعاً للحد من الإنجاب. فالحرب بين أوكرانيا وروسيا جعلت الولادات في أوكرانيا تتراجع بنسبة 28 في المئة. ولكن على المقلب الآخر تبدو الحروب في بعض الأماكن جاذباً للإنجاب. فعلى رغم مأساة حرب غزة بتفاصيلها وضحاياها الذين نصفهم من الأطفال فإن الأمر يدعو إلى الاستغراب حول معدل الولادات في مكان غير آمن وغير مهيأ صحياً ونفسياً لتربية الأطفال، إذ يعتبر قطاع غزة من أعلى المناطق في العالم من حيث الكثافة السكانية مقارنة بمساحته الجغرافية. ما يطرح تساؤلات عديدة إن كان السبب بدافع التدين أم إرادة الحياة أم إن العيش على حافة الموت الدائم تجعل للحياة قيمة مختلفة أم الخوف من خسارة الأطفال في الحروب أو لإنشاء قوة بشرية قادرة على القتال؟
كما يبدو لافتاً في سياق الحروب والنزوح نسبة الولادات بين النازحين السوريين الذين يعيشون في الخيام، في لبنان في الأقل، حيث ذكرت وسائل إعلام لبنانية محلية معلومات تفيد أن مقابل كل مولود لبناني ستة مواليد من النازحين، وهو ما يطرح أيضاً إشكاليات عدة حول مفهوم الإنجاب في الحروب والأزمات. ويطرح من ثم تساؤلات حول الثقافة العامة للإنجاب من جهة، ودور المساعدات الأممية للعائلات الكبيرة من جهة أخرى. وهي أسئلة تحتاج إلى أبحاث علمية ميدانية جدية بعيدة من الأحكام المسبقة والآراء السياسية.